إنفراد – روفيدا يوسف
“تربيتنا القديمة” التي كانت تقوم على الضرب كوسيلة للتأديب، لا تزال حاضرة بقوة في الكثير من البيوت، رغم كل التحذيرات النفسية والاجتماعية، المشكلة لا تتوقف عند الألم البدني، بل تبدأ منه وتتشعب إلى أزمات نفسية قد تطارد الطفل طوال حياته.
فالعقاب الجسدي، مهما بدا بسيطًا في نظر الأهل، قد يُحدث في داخل الطفل شرخًا عميقًا لا يلتئم بسهولة، فالطفل لا يملك أدوات لفهم تصرفات الكبار، ولا يستطيع الفصل بين الفعل والتأنيب، لذلك حين يُضرب، غالبًا ما يربط الأمر بأنه شخص غير محبوب أو غير كافٍ، وليس أنه فقط أخطأ.
هذا التشوّه في الإدراك يؤدي إلى مشاعر دائمة من الذنب، والخوف، وانعدام الثقة بالنفس، والطفل الذي ينمو وهو يشعر بعدم الأمان داخل بيته، لن يستطيع بناء تواصل صحي مع العالم الخارجي، الأخطر من ذلك، أن الضرب يُشوش لدى الطفل مفهوم العلاقة بين السلطة والعاطفة.
فحين تأتي الإهانة أو العنف من أقرب الناس إليه، يبدأ في تفسير الحب على أنه ألم، والتقويم على أنه إهانة، هذا الخلط يُربك الجهاز النفسي للطفل، ويخلق بداخله صراعات داخلية قد تتجلى في شكل عدوانية، أو انسحاب اجتماعي، أو صمت مرضي.
هناك جانب آخر غالبًا ما يغفله الأهل، وهو أن الضرب لا يُعلم الطفل الصواب، بل فقط يُشعره بالمهانة، الطفل في لحظة العقاب لا يفكر فيما فعله، بل في كيف ينجو منه في المرات القادمة، فيبدأ في الكذب، أو الإنكار، أو التهرب، وهكذا يتم بناء شخصيته على الخوف والمراوغة بدلًا من المسؤولية والوعي.
إستشاري الطب النفسي يوضح التأثير الناتج عن ضرب الاطفال ويؤكد: الضرب يدمر البنية النفسية للطفل
أوضح الدكتور جمال فراويز، استشاري الطب النفسي، أن الطفل الصغير، وخصوصًا من هم دون سن الأربع سنوات، غالبًا ما يخافون من الضرب، وذلك لأن نمط تفكيرهم في هذه المرحلة يُعرف بـ”التفكير العياني” أو “الكونكريتي”، أي أنهم يأخذون الكلمات بمعناها الحرفي دون إدراك رمزي أو مجازي. فعندما تُهدد الأم طفلها بعبارات مثل: “عندما يأتي والدك سيقطع لسانك” أو “سيكسر يدك”، فإن الطفل يتوقع حدوث ذلك فعليًا.
لكن حين يأتي الأب ويكتفي بالضرب دون تنفيذ تلك التهديدات، يبدأ الطفل في إدراك أن هذه التهديدات غير حقيقية، ومع تكرار الموقف مرة بعد أخرى، يصبح الضرب أمرًا عاديًا لا يُثير الخوف لديه، بل وقد يصل الأمر إلى أن يضحك الطفل أثناء تعرضه للضرب لأنه اعتاده، وأصبح يعلم أن أقصى ما قد يتعرض له عند ارتكاب الخطأ هو الضرب فقط، دون أي عواقب حقيقية أكبر.
ويُضيف الدكتور فراويز أن أسلوب الضرب لا يعلم الطفل السلوك الصحيح، بل يدفعه إلى الانطواء، وفقدان الثقة بالنفس، وقد يؤدي إلى إصابته بالاكتئاب، كما يميل إلى العزلة والجلوس وحيدًا أغلب الوقت، وعندما يصل إلى مرحلة المراهقة، أي في سن 14 عامًا تقريبًا، يبدأ في الاصطدام بالأب أو أي شخص يمثل له سلطة، مما قد يؤدي لاحقًا إلى صراعات في العمل مع المدير أو أي مسؤول أعلى منه، لأنه نشأ على كره السلطة وعدم احترامها.
ويؤكد أن بعض الآباء يلجؤون إلى العنف نتيجة تعاطي المخدرات، أو لأنهم نشأوا في بيئات ترى الضرب وسيلة تربية، فظنوا أن الطريقة الوحيدة لتقويم السلوك هي العقاب الجسدي، لكن هذا المفهوم خاطئ، وتأثيره النفسي والسلوكي بالغ السوء على المدى الطويل.
كما يشير إلى أن بعض الآباء يبررون ضرب أطفالهم بدعوى أن “الدين أمر بذلك”، لكن هذا فهم مغلوط، فالرسول ﷺ لم يضرب طفلًا قط، ولا حتى خادمًا، بل كانت قدوته هي الرحمة واللين والحوار، لذا فإن الضرب ليس من تعاليم الإسلام في شيء.
ويحذر فراويز من أن الطفل الذي يتعرض للضرب باستمرار يتحول من طفل طبيعي إلى طفل خائف من والده، بل ومن الآخرين أيضًا، ومع مرور الوقت، يبدأ في التمرد، وقد يصل به الأمر إلى الرد على والده أو حتى رفع يده عليه، كرد فعل عكسي للعنف الذي تعرض له.
الحرمان الواعي.. أداة تربية لا تُؤذي
وقال الدكتور جمال إن الطريقة الأفضل والأكثر فاعلية في التربية هي المنع، أي حرمان الطفل من شيء يُحبه أول مرة لمدة ساعة، والمرة الثانية لمدة يوم، والثالثة لمدة ثلاثة أيام، ثم عشرة أيام، فشهر، ثم ثلاثة أشهر إذا استمر الخطأ، هذا الأسلوب يُعلّم الطفل أن لكل خطأ عاقبة، دون أن نؤذيه بدنيًا أو نفسيًا.
دراسات نفسية تؤكد الضرب لا يُصلح بل يُفكك
تشير الدراسات النفسية الحديثة بوضوح إلى أن الأطفال الذين يتعرضون للعقاب البدني، حتى وإن بدا بسيطًا أو غير عنيف ظاهريًا، يُظهرون لاحقًا معدلات أعلى من الاكتئاب، واضطرابات القلق، وصعوبات التركيز، والميل إلى العزلة، كما ترتفع لديهم احتمالات الإصابة باضطرابات النوم، واضطرابات الأكل، والسلوك القهري.
كل هذه المؤشرات تؤكد أن الضرب يخل بتوازن الطفل الداخلي، ويؤثر على نموه النفسي والاجتماعي، بل إن الضرب المتكرر قد يتحول من وسيلة عقاب إلى نمط حياة داخل الأسرة، فيتحول البيت إلى بيئة مليئة بالخوف والتوتر، ويفقد الطفل شعوره بالأمان، وعلاقته الطبيعية بالحب والاحتواء.
في النهاية الطفل ليس مشروعًا للترويض، بل إنسان في طور التكوين، وكل تصرف يُمارس عليه يترك فيه أثرًا، إما يساعده على النمو، أو يعوقه، والضرب، حتى لو تم بحسن نية، لا يصنع إنسانًا أفضل، بل إنسانًا أكثر هشاشة، طفلًا يكبر وخوفه ساكن فيه، لا يُرى على الجلد، لكنه محفور في الروح.
الضرب لا يعلم الطفل الصواب، بل يخرب نفسيته، ويؤثر على علاقاته المستقبلية، أما التربية الحقيقية، فهي التي تُبنى على الفهم، والاحترام، والعقاب الإيجابي غير المؤذي.