تحقيق ـ بسملة الجمل
في عصر التكنولوجيا الرقمية لم يعد مشهد الطفل الذي يحمل هاتفًا أو جهازًا لوحيًا أمرًا غريبًا، بل أصبح الأمر ظاهرة واسعة الانتشار، حيث يتعامل الأطفال مع الإلكترونيات أكثر من تعاملهم مع أقرانهم أو حتى مع أفراد أسرهم، فهل نحن أمام تطور طبيعي يتماشى مع العصر، أم أن هذه العلاقة تحولت إلى إدمان قد يؤثر سلبًا على نموهم الجسدي والعقلي.
كيف أصبحت الهواتف الذكية جزءًا من يوميات الأطفال
مع التطور السريع للتكنولوجيا وانتشار الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية وألعاب الفيديو، أصبح من السهل على الأطفال الوصول إلى المحتوى الرقمي، ويستخدم معظم الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و12 عامًا الأجهزة الإلكترونية بشكل يومي، مما يعكس اعتمادًا متزايدًا على التكنولوجيا منذ سن مبكرة، وغالبًا ما يلجأ الآباء إلى هذه الأجهزة كوسيلة لإشغال أطفالهم أو توفير وسيلة ترفيه لهم.
الآباء بين الراحة المؤقتة والمخاطر البعيدة
ومن خلال الحديث مع بعض المواطنين تنوعت آرائهم، أوضح “محمد السيد” أن الأطفال في الوقت الحالي يعتمدون بشكل مفرط على الأجهزة الإلكترونية، مشيرًا إلى أن هذه الظاهرة أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتهم اليومية.
مضيفًا أن العديد من الآباء يستخدمون الأجهزة الرقمية كوسيلة لإشغال أطفالهم أثناء انشغالهم بأعمالهم ومسؤولياتهم، مما يجعل الأطفال يقضون ساعات طويلة أمام الشاشات دون رقابة كافية، كما أكد أن هذا الأمر قد يكون له تأثيرات سلبية على النمو الاجتماعي والعقلي للأطفال، حيث يقلل من تفاعلهم مع العالم الحقيقي ويجعلهم أكثر عزلة عن محيطهم.
التكنولوجيا بين الفائدة والضرر، كيف يستخدمها الأطفال
وأكدت “سلمى هاني” أن التكنولوجيا أضرت بالأطفال أكثر مما أفادتهم، موضحة أن معظمهم لا يستخدمونها بشكل مفيد، بل يقضون أوقاتهم في الألعاب والترفيه بدلاً من البحث عن معلومات أو تعلم أشياء جديدة.
وأشارت إلى أن الأطفال في الماضي كانوا يعتمدون على الكتب والتجارب المباشرة لتنمية معارفهم، بينما الآن أصبحوا أسرى للشاشات، يستهلكون المحتوى دون تفكير أو استفادة حقيقية، مضيفة أن غياب التوجيه الصحيح لاستخدام التكنولوجيا جعلها مصدرًا للتسلية أكثر من كونها أداة للتعليم، مما أثر سلبًا على قدراتهم الإبداعية والتواصلية.
ألعاب الشوارع في الماضي مقابل الهواتف في الحاضر
كما أشار “زياد وائل” إلى أن طريقة تواصل الأطفال تغيرت بشكل كبير مقارنة بالماضي، حيث كانوا في السابق يجتمعون للعب معًا في الشوارع أو يستخدمون الألعاب التقليدية التي تعزز التفاعل الاجتماعي.
أما اليوم فأصبح المشهد مختلفًا تمامًا، حيث يجلس كل طفل منفردًا ممسكًا بهاتفه أو جهازه اللوحي، غارقًا في عالمه الافتراضي، مضيفًا أن هذا التحول جعل العلاقات بين الأطفال أقل حيوية، حيث باتت الشاشات تحل محل الأحاديث والضحكات التي كانت تملأ الأحياء قديمًا، مما أفقدهم جزءًا كبيرًا من مهاراتهم الاجتماعية.
كيف يمكن للمجتمع أن يحد من الإدمان الإلكتروني للأطفال
أكد “كريم السيد” أن المجتمع يمكنه الحد من الاستخدام المفرط للأطفال للأجهزة الإلكترونية من خلال توفير بيئات بديلة تشجعهم على التفاعل والتعلم بعيدًا عن الشاشات، موضحًا أن المدارس والحضانات يجب أن تلعب دورًا أكبر في إشراك الأطفال في أنشطة تفاعلية، تعزز التعاون فيما بينهم وتشجعهم على اللعب الجماعي ومشاركة التجارب والأفكار.
وأضاف أن الدور الأكبر يقع على عاتق الأسر، حيث يجب على الآباء تشجيع أطفالهم على ممارسة أنشطة حقيقية بدلاً من اللجوء إلى الأجهزة الإلكترونية كوسيلة لإشغالهم، مما يساعدهم على بناء مهارات اجتماعية حقيقية وتنمية قدراتهم بشكل أكثر توازنًا.
عصبية الأطفال وانعزالهم عند منع الأجهزة الإلكترونية
وأشارت “أميرة علي” إلى أنها تواجه صعوبة كبيرة في التحكم في استخدام طفلها للأجهزة الإلكترونية، حيث يتحول الأمر إلى معركة يومية عند محاولة إبعاد الهاتف عنه، موضحة أن الطفل يصبح شديد العصبية، يصرخ بغضب، وأحيانًا يصل الأمر إلى تكسير الأشياء من حوله، مما يجعل الأمر أكثر تعقيدًا.
مضيفة أن أحد أكبر المشكلات هو انعزاله عن العالم الخارجي، حيث يفضل الجلوس وحيدًا لساعات طويلة أمام الشاشة، ولكنها تحاول التعامل مع ذلك بطريقة مختلفة، حيث تعمل على إشراكه في أنشطة تفاعلية، وتحرص على اللعب معه بنفسها، كما تقدم له ألعابًا حقيقية بديلة، حتى لا يشعر بالفراغ أو الحاجة المستمرة إلى الهاتف.

ضرر الهاتف على الطفل
التكنولوجيا وتأثيرها على التحصيل الدراسي والتركيز
وأكدت “ماجدة النجدي” أن الأجهزة الإلكترونية أثرت بشكل واضح على قدرة الأطفال على التعلم والتركيز في المدرسة، موضحة أنها تسببت في مشكلات متعددة، مثل الصداع المستمر وضعف النظر نتيجة التحديق المطول في الشاشات.
وأضافت أن الاستخدام المفرط لها يجعل الأطفال أكثر تشتتًا، غير قادرين على التركيز لفترات طويلة، مما يؤثر سلبًا على استيعابهم للدروس، مشيرة إلى أن الأمر لا يتوقف عند ذلك، بل يمتد إلى العزلة الاجتماعية، حيث يصبح الطفل غير مهتم بالتفاعل مع من حوله، ويشعر برغبة دائمة في البقاء مع هاتفه فقط، وكأنه عالمه الوحيد.
هل يمكن أن تكون التكنولوجيا أداة تعليمية فعالة
وأوضحت “ندى السيد” أن التكنولوجيا يمكن أن تكون أداة تعليمية فعالة إذا تم استخدامها بطريقة صحيحة، خاصةً في الأوقات الاستثنائية مثل فترات الأوبئة، مشيرة إلى أنه خلال أزمة كورونا، أصبحت المنصات التعليمية والقنوات الدراسية وسيلة أساسية لاستمرار التعلم، حيث تمكن الطلاب من متابعة دروسهم عن بُعد دون الحاجة إلى الذهاب للمدارس.
كما أضافت أن التكنولوجيا توفر مصادر تعليمية متنوعة وتساعد في توصيل المعلومات بطرق مبتكرة، لكنها في الوقت نفسه قد تعيق التعلم التقليدي إذا تم الاعتماد عليها بشكل مفرط دون توازن بين التعليم الرقمي والتفاعل المباشر بين الطلاب والمعلمين.
لماذا أصبح الأطفال أقل تفاعلًا داخل الفصول الدراسية
وأشارت “هالة السيد” إلى أن الاستخدام المفرط للأجهزة الإلكترونية جعل الأطفال أقل تفاعلًا داخل الفصل الدراسي، موضحة أن الكثير منهم أصبحوا يميلون إلى العزلة وكأنهم في عالم منفصل، كما أضافت أن بعض الأطفال يظهرون سلوكيات شبيهة بالتوحد، حيث يفضلون الصمت، يتجنبون التواصل البصري.
كذلك لا يشاركون في الأنشطة الجماعية كما كان الحال في السابق، مؤكدة أن هذا التأثير السلبي يعود إلى قضاء ساعات طويلة أمام الشاشات، مما يجعلهم يعتادون على التفاعل الرقمي أكثر من التواصل الحقيقي، وهو ما يضعف مهاراتهم الاجتماعية ويجعل اندماجهم في البيئة المدرسية أكثر صعوبة.
خطوة نحو مستقبل آمن.. تعليم الأطفال الاستخدام الذكي للتكنولوجيا
كما أكدت “لارا هاني” أن إدخال مناهج تعليمية حول الاستخدام الآمن والمسؤول للتكنولوجيا في المدارس أصبح ضرورة ملحة، وليس مجرد فكرة يمكن تجاهلها، موضحة أن هذه المناهج يجب أن تعلم الأطفال كيفية التعامل مع الإنترنت بوعي، وتجنب المحتوى الضار، بالإضافة إلى تعزيز ثقافة الإبلاغ في حال تعرضوا لأي تهديد إلكتروني أو تنمر رقمي.
كذلك أوضحت أهمية توجيه الطلاب نحو الاستخدام الإيجابي للتكنولوجيا، بحيث تصبح وسيلة للتعلم والتطوير، بدلاً من أن تكون بابًا للمخاطر والمحتوى غير اللائق، مشيرة إلى أن المدارس، إلى جانب الأسر، تتحمل مسؤولية توعية الأطفال وتمكينهم من استخدام التكنولوجيا بشكل آمن ومسؤول.
الطب النفسي يوضح خطورة الاستخدام المفرط للهاتف
وأكد الدكتور “محمد الوصيفي” أستاذ الطب النفسي وعلاج الإدمان بكلية الطب جامعة المنصورة، أن الاستخدام المفرط للأطفال للأجهزة الإلكترونية يمكن تصنيفه على أنه نوع من الإدمان، حيث تظهر عليهم علامات واضحة تدل على ذلك.
ومن بين هذه العلامات زيادة الوقت الذي يقضونه أمام الشاشات، وصعوبة التحكم في استخدامهم للأجهزة، بالإضافة إلى شعورهم بالقلق أو الغضب عند منعهم من استخدامها، كما أن هذا الإدمان يؤثر سلبًا على أدائهم الدراسي ويقلل من مشاركتهم في الأنشطة الاجتماعية.
كيف يؤثر التعرض المستمر للشاشات على تطور العقل
وأوضح الدكتور “محمد الوصيفي” أن التعرض المستمر للشاشات، خاصةً في السنوات الأولى من عمر الطفل، يمكن أن يؤثر على نمو الدماغ بعدة طرق، منها تأخير تطوير المهارات اللغوية والاجتماعية، وإحداث تغييرات في بنية الدماغ وتوصلاته العصبية، إلى جانب التأثير السلبي على النوم والاسترخاء.
ما العلاقة بين الأجهزة الإلكترونية والاضطرابات النفسية للأطفال
وأشار “الوصيفي” إلى وجود علاقة بين الاستخدام المفرط للإلكترونيات وزيادة خطر الإصابة باضطرابات القلق والاكتئاب لدى الأطفال، موضحًا أن العزلة الناتجة عن قضاء وقت طويل أمام الشاشات تقلل من تفاعل الأطفال مع الآخرين، مما قد يؤدي إلى مشكلات نفسية واجتماعية تؤثر على نموهم العاطفي والسلوكي.
كما بين أن الاستخدام المفرط للأجهزة الإلكترونية يؤثر بشكل واضح على قدرة الأطفال على التفاعل الاجتماعي، حيث يؤدي إلى تأخير في تطوير مهاراتهم الاجتماعية، ويجعل التواصل مع الآخرين أكثر صعوبة، كما قد يزيد من السلوك العدواني لديهم نتيجة قلة التواصل الحقيقي والانخراط في العالم الافتراضي.

الدكتور النفسي محمد الوصيفي
من العالم الرقمي إلى الواقع لماذا يواجه الأطفال صعوبات في التكيف
وأكد الدكتور النفسي أن قضاء وقت طويل أمام الشاشات قد يتسبب في مشكلات في التحكم في الغضب والسلوك العدواني لدى الأطفال، حيث يصبحون أكثر انفعالًا وأقل قدرة على ضبط تصرفاتهم، مما قد يؤدي إلى تصرفات غير متوقعة عند منعهم من استخدام الأجهزة الإلكترونية.
مضيفًا أن الأطفال الذين يقضون أوقاتًا طويلة في العالم الافتراضي يواجهون صعوبات عند الانتقال إلى العالم الواقعي، حيث يعانون من مشاكل في التكيف مع الحياة الاجتماعية، وصعوبة في التواصل مع الآخرين، بالإضافة إلى زيادة احتمالية السلوك العدواني بسبب قلة الاحتكاك المباشر بالعالم الحقيقي.
كيف يساعد الأهل أطفالهم في تحقيق توازن بين التكنولوجيا والحياة
وأشار “الوصيفي” إلى أن هناك العديد من الدراسات التي تربط بين استخدام الأجهزة الإلكترونية وضعف التركيز والتحصيل الدراسي لدى الأطفال، حيث تؤدي كثرة التعرض للشاشات إلى تقليل قدرة الدماغ على التركيز والاستيعاب، مما يؤثر على الأداء الأكاديمي.
واقترح أن يساعد الأهل أطفالهم في تحقيق توازن بين الدراسة واستخدام التكنولوجيا من خلال وضع حدود زمنية لاستخدام الأجهزة، وتشجيعهم على ممارسة الأنشطة الخارجية، بالإضافة إلى مراقبة المحتوى الذي يتعرضون له على الإنترنت لضمان أنه مفيد ومناسب لأعمارهم.
ما هو السن المناسب لاستخدام الأطفال للأجهزة الإلكترونية
وأوضح الدكتور محمد الوصيفي أن تحديد السن المناسب لاستخدام الأطفال للأجهزة الإلكترونية يعتمد على عدة عوامل، منها مستوى نضج الطفل، ونوعية المحتوى الذي يتعرض له، ومدى إشراف الأهل على استخدامه، مشيرًا إلى أن الاستخدام غير المراقب قد يؤدي إلى تأثيرات سلبية على نمو الطفل العقلي والاجتماعي.
كم ساعة يوميًا يمكن للأطفال قضاءها أمام الشاشات دون ضرر
وختم “الوصيفي” بتوضيح التوصيات المتعلقة بعدد الساعات المسموح بها لاستخدام الشاشات وفقًا للفئات العمرية المختلفة، حيث لا ينصح باستخدام الشاشات للأطفال دون عمر السنتين، بينما يمكن لأطفال ما قبل المدرسة “3 – 5 أعوام” قضاء ساعة يوميًا على الأكثر، وأطفال المرحلة الابتدائية “6 – 12 أعوام” ساعتين كحد أقصى.
كذلك المراهقين “13- 18 عامًا” من 3 إلى 4 ساعات يوميًا، مشددًا على ضرورة أن يكون استخدام الشاشات جزءًا من نمط حياة متوازن يشمل النشاط البدني والتفاعل الاجتماعي والتعليم المباشر، مع دور أساسي للأهل في توجيه أطفالهم نحو الاستخدام الصحي والمسؤول للتكنولوجيا.
ختامًا.. بين التكنولوجيا والتوازن مسؤولية مجتمعية
لا شك أن التكنولوجيا أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وأصبح من المستحيل تجاهل تأثيرها على الأطفال، سواء كان ذلك إيجابيًا أم سلبيًا، وبينما توفر الأجهزة الإلكترونية فرصًا هائلة للتعلم والتطوير، فإن الاستخدام المفرط لها دون رقابة قد يؤدي إلى مشكلات نفسية واجتماعية وعقلية تؤثر على مستقبل الأجيال القادمة.
لذلك فإن تحقيق التوازن بين التكنولوجيا والحياة الواقعية لم يعد خيارًا، بل ضرورة يجب أن يتحمل مسؤوليتها الجميع، بدءًا من الأسرة التي يقع على عاتقها توجيه الأطفال نحو الاستخدام الصحي للتكنولوجيا، مرورًا بالمدارس التي يجب أن توفر بيئات تعليمية تفاعلية، وصولًا إلى المجتمع ككل، الذي ينبغي أن يوفر بدائل حقيقية تشجع الأطفال على التواصل المباشر وممارسة الأنشطة الحقيقية.
فالتكنولوجيا في حد ذاتها ليست العدو، بل كيفية استخدامها هي التي تحدد إن كانت ستصبح وسيلة لبناء جيل أكثر وعيًا وإبداعًا، أم ستتحول إلى عقبة تؤثر على نموهم وتفاعلهم مع العالم الحقيقي.