إنفراد ـ بسمة البوهي
في قلب صعيد مصر، وعلى ضفاف نهر النيل، تقف مدينة إسنا شامخة بتاريخها العريق وتراثها الغني الذي يمتد لآلاف السنين، وأيضًا كانت منارة حضارية وثقافية عبر العصور، ورغم ما تملكه من كنوز أثرية مثل معبد خنوم وسوق القيسارية ووكالة الجداوي، إلا أن المدينة عانت من إهمال وتراجع لعدة سنوات.
لكن اليوم، تعود إسنا إلى القمة من جديد، عبر مشروع طموح لأعادة إحياء تراثها الذي يجمع بين الحفاظ على الهوية المعمارية والثقافية، وتمكين المجتمع المحلي وتحفيز الإقتصاد القائم على السياحة، وهذا التجديد يعمل على إعادة روح المدينة، ويحولها من موقع مهمل إلى مركز تراثي نابض بالحيوية، ويجمع بين الأصالة والتنمية المستدامة.
الطبيعة التي تعطي إسنا موقعًا فريدًا
أشار الدكتور بسام الشماع، المؤرخ والمحاضر الدولي، تمثل الطبيعة في مدينة إسنا كنزًا حقيقيًا يجب استغلاله في مجال استجلاب السياحة، والموقع الجغرافي والتاريخي والأثري والاجتماعي لإسنا يمنحها قيمة استثنائية، إذ تقع على الطريق التجاري الأهم في جنوب مصر.

الدكتور بسام الشماع، المؤرخ والمحاضر الدولي
من هويس النيل إلى سوق الجلاليب.. رحلة سياحية لا تنسى
يوضح المؤرخ أن إسنا تعد مركزًا محوريًا للملاحة النهرية بين الأقصر وأسوان، لاحتوائها على هويسين أساسيين تمر من خلالهما جميع الفنادق العائمة “الكروزات” ذهابًا وإيابًا، وهذه الأهمية تجعلها المدينة الأبرز في هذا المجال، إذ لا يمكن لأي حركة سياحية أو تجارية نهرية أن تتجاوزها.
وتعتبر إسنا مدينة تجارية وسياحية في آنٍ واحد، فعلى الطريق المؤدي إلى المعبد يمر السائح عبر سوق الجلاليب الشهير، حيث يقترب بشكل مباشر من المحلات المحلية، ليجد نفسه وسط أجواء مصرية أصيلة، قبل أن يصل إلى السلالم الكبيرة المؤدية إلى بقايا معبد إسنا.
“من قبل إلى بعد”.. إسنا تتألق بعد الترميم
يقول الدكتور بسام أن أسنا ييحتضن المعبد واحدة من أعظم صالات الأعمدة التي تعود للعصرين اليوناني والروماني، وقد جرى تمصير نقوشها وزخارفها كعادة المصريين، إن سقفها الملون بعد أعمال التنظيف التي قام بها العلماء المصريون يعد من أبهى ما يمكن مشاهدته، مناظر فلكية ودينية تحاكي حركة الأجرام السماوية والأبراج النجمية كالعقرب والجوزاء، بألوان زاهية توحي بأنها رسمت حديثًا.
ويضيف الدكتور أن تيجان الأعمدة تظهر براعة نحتية فريدة، إذا تجسد أشكال الزهور والنباتات في انسجام رائع مع الحجر، كما تزين الجدران بمناظر ضخمة وصغيرة في آنٍ واحد، تجسد الحكام والأباطرة الرومان وقد ظهروا بمظهر متمصر، وهو ما يعطي المكان قيمة فنية وتاريخية بالغة.
ويكشف تنظيف النقوش والألوان عن وجه جديد لإسنا، إذ يراها السائح اليوم بصورة مختلفة تمامًا عما كانت عليه من قبل، هذه المقارنة بين “قبل وبعد” تمنح المدينة فرصة تسويقية فريدة يجب استغلالها سياحيًا.
الآثار تتحدث بلغات العالم.. واجب الترجمة والتبسيط
يطالب المؤرخ أنه ينبغي استغلال هذا الكنز الأثري من خلال تبسيط الشرح للسائح الأجنبي وترجمة النصوص بلغات العالم، حتى يسهل فهم الأساطير والرموز المعقدة المنقوشة على الجدران، وهذا الدور يمكن أن ينهض به العلماء والمرشدون السياحيون.
ويساعد تسويق إسنا على نحو جيد في إنعاش السياحة المصرية وجلب دخل اقتصادي كبير، كما يمكن أن يكون نموذجًا ناجحًا يطبق على مدن أثرية أخرى مثل كوم أمبو، وإدفو، والبلينة، وبني حسن بالمنيا، وتونا الجبل، وحتى مواقع أثرية في الشرقية.
الأهالي.. الحارس الحقيقي لكنوز مصر
أختتم الدكتور بسام، بأنه يدعو وزارة الآثار والسياحة، بالتعاون مع وزارتي التعليم والثقافة، إلى تنظيم دورات تدريبية وتثقيفية للأهالي القاطنين حول المواقع الأثرية، فهؤلاء هم الحماة الحقيقيون للآثار، وحين يدركون قيمتها الاقتصادية والسياحية والتاريخية سيحرصون على صونها وحمايتها.
ويساعد تثقيف الأجيال الناشئة على منع أي عبث بالآثار، كالنقش على الجدران أو تخريب النقوش، فالمعرفة تبدد اللبس، وتغرس الاعتزاز بالحضارة المصرية، ويؤكد أن هذه الكنوز ليست مجرد تاريخ، بل مصدر فخر ورخاء اقتصادي للأمة.
ويعتبر مشروع إعادة إحياء تراث إسنا ليس مجرد ترميم لمبنى قديم، بل هو استعادة لهوية وإحياء لذاكرة جماعية، وبعث لحياة اقتصادية واجتماعية جديدة، ولقد أثبتت إسنا أن التراث ليس عبئًا على التنمية، بل يمكن أن يكون بوابة نحو مستقبل أكثر إشراقًا، وبين جدرانها القديمة وأسواقها المتجددة تنبت قصة نجاح مصرية تستحق أن تروى وتلهم مدن أخرى للسير على نفس الدرب.