إنفراد ـ بسمة البوهي
في أرض التاريخ والأساطير، حيث سارت جيوش الفراعنة وكتبت أولى صفحات الحضارة تواصل سيناء كشف أسرارها المدفونة تحت الرمال الذهبية، وبين جبالها ظهرت قلعة أثرية جديدة تعود لعصر الدولة الحديثة، لتضيف فصلًا جديدًا إلى قصة مصر التي لا تنتهي، وهذا ليس مجرد بناء حجري، بل هو شهادة تدل على عبقرية المصري القديم في التخطيط العسكري، وعلى أهمية سيناء كممر إستراتيجي وحضاري عبر العصور.
الدكتور بسام الشماع يوضح الكشف الأثري أهم من المقابر
وأكد الدكتور بسام الشماع، المؤرخ والمحاضر الدولي، عن اكتشاف قلعة أثرية جديدة في شبه جزيرة سيناء، وأن هذا الكشف يعد من أهم الاكتشافات في السنوات الأخيرة، ليس فقط لأنه يضيف لبنة جديدة إلى تاريخ مصر القديم، بل لأنه يكشف ملامح الحياة اليومية والعسكرية للمصريين القدماء بطريقة غير مسبوقة.
يقول الدكتور بسام: أنا أرى أن مثل هذه الكشوف أهم من اكتشاف المقابر، لأن لدينا آلاف المقابر المعروفة، ونصوصها محفوظة ومترجمة، أما حين نعثر على بقايا مصانع أو ورش أو أدوات من الحياة اليومية، فإننا نقترب أكثر من الإنسان المصري القديم نفسه، لا من الملك أو النبيل فقط.
ويضيف الدكتور أنه عندما نجد مصنعًا لصهر النحاس، أو ورشة لصياغة الذهب، أو أدوات جراحية وطبية، فإننا نلمس الجانب الإنساني للحضارة، ونفهم كيف كانت تدار الحياة في مصر القديمة بكل تفاصيلها.

الدكتور بسام الشماع، المؤرخ والمحاضر الدولي
سيناء.. ليست بوابة بل قلعة حصينة
يرفض “الشماع” وصف سيناء بأنها “بوابة مصر الشرقية”، مؤكدًا أنه يجب أن نلغي هذا المصطلح من المناهج والكتب، لأن البوابة تفتح وتغلق، وكأن الأرض متاحة للداخل والخارج، بينما الحقيقة أن سيناء كانت ولا تزال قلعة حصينة تحمي قلب مصر.
ويوضح الدكتور أن القلاع المكتشفة في سيناء تثبت بالدليل الأثري القاطع أن المصريين شيدوا هناك منظومة دفاعية متكاملة منذ آلاف السنين، تضم الحصون والمخازن والنقاط العسكرية وطرق الإمداد، مما يؤكد مصرية شبة الجزيرة عبر التاريخ.
موقع استراتيجي يشهد على عبقرية المصريين
يضيف الدكتور بسام الشماع، أن سيناء تمتد على مساحة 61 ألف كيلومتر مربع، ويحيط بها خليج العقبة شرقًا، وخليج السويس غربًا والبحر الأحمر جنوبًا، وتقترب شمالًا من البحر المتوسط، وهو موقع جعلها محورًا للصراعات القديمة، وأن سيناء نقطة التقاء بين آسيا وإفريقيا، تمر عبرها الجيوش القادمة من فلسطين وكنعان والشام وبلاد الرافدين، ومن هنا كانت دائمًا خط الدفاع الأول عن مصر.
يكشف “الشماع” عن واحد من أهم إنجازات المصريين القدماء في سيناء، وهو طريق حورس الحربي، الذي مهدوه بأيديهم ليكون خط سير للجيوش المصرية، وأطلقوا عليه إسم حورس تيمنًا بالإلة المحارب، وكان الطريق مزودًا بالقلاع والحصون ومراكز القيادة، وعلى كانت توجد نقاط لتخزين المؤن والمياه واستراحة الجنود وإصلاح الأسلحة، وأن هذه القلاع لم تكن مجرد مبانٍ، بل كانت حياة كاملة للجندي المصري، يشرب من آبارها ويستعد فيها للمعارك، ويعقد فيها القادة اجتماعاتهم الحربية.
يشير الدكتور بسام إلى أن قلعة ثارو تعد من أشهر القلاع المكتشفة في سيناء، وقد جرى ترميم أجزاء منها ودراستها مؤخرًا، وأن الاكتشافات تتوالى في المنطقة لتثبت يومًا بعد يوم أن سيناء جزء لا يتجزأ من الهوية المصرية، وكل حجر وكل نقش وكل جدار متهدم هناك، يحمل ختم المصري القديم ويشهد أنه كان حارس هذه الأرض منذ فجر التاريخ.
ويستعرض المؤرخ والمحاضر الدولي، عظمة الدولة الحديثة التي وصفها بـ”العصر الذهبي للعسكرية المصرية”، مشيرًا إلى القادة الذين رفعوا راية مصر عاليًا، مثل رمسيس الثاني وتحتمس الثالث ورمسيس الثالث، تحتمس الثالث الذي خاض 17 معركة وانتصر فيها جميعًا، وأشهرها معركة مجدو، التي تعتبر أول معركة موثقة في التاريخ، استخدم فيها الضربة الاستباقية والخدعة التكتيكية والمراسل الحربي، وهي مفاهيم عسكرية متقدمة جدًا.
ويتابع الدكتور بسام الشماع، أن رمسيس الثالث واجه شعوب البحر في معارك بحرية ضخمة وانتصر عليهم، ودون انتصاراته على جدران معبده بمدينة هابو في الأقصر، لتظل شاهدة على عبقرية التخطيط المصري القديم.
الجيش المصري ولد قويًا منذ آلاف السنين
ويختم الدكتور بسام الشمّاع حديثه بدعوة واضحة لتوظيف هذه الاكتشافات في نشر الوعي التاريخي بين المصريين، ويجب أن نعرف الأجيال الجديدة بتاريخ جيشهم العظيم، الذي ولد منذ آلاف السنين قويًا ومنظمًا وذكيًا ومحترفًا في فنون القتال، هذه القلاع ليست مجرد آثار صامتة، بل دروس حيّة في الوطنية والعبقرية المصرية.
وهكذا لا تقف الرمال عند حدود الصحراء، بل تهمس لنا بأسرار حضارة لا تزال تنبت بالحياة وأن اكتشاف هذه القلعة ليس مجرد إكتشاف أثري، بل هو تذكير قوي بأن مصر كانت وستظل حصنًا منيعًا، يحرسه التاريخ وتباركه الجغرافيا، لأن كل حجر في تلك القلعة يحكي قصة وطن لا ينسى وجيش لا يهزم وحضارة لا تموت.