تحقيق ـ بسملة الجمل
لطالما كانت التربية هي اللبنة الأساسية في بناء شخصية الإنسان، لكنها لم تكن يومًا ثابتة على نهج واحد، فبينما نشأ الجيل السابق على أسس الانضباط والالتزام الصارم بالتقاليد، ينشأ الجيل الحالي في بيئة أكثر انفتاحًا تعتمد على الحوار، الإبداع، واحترام استقلالية الطفل.
حيث نجد أنفسنا اليوم أمام سؤال جوهري، هل التربية الحديثة تعد قفزة نحو مستقبل أكثر تطورًا، أم أنها تهدد بفقدان القيم التي شكلت هويتنا لعقود، وهل يمكن الجمع بين الصرامة والقيم الراسخة من جهة، وبين الحرية وتنمية المهارات من جهة أخرى.
التعليم بين الانضباط القديم والمرونة الحديثة
ومن خلال الحديث مع بعض المواطنين تنوعت آرائهم، أكد “عمر سامح” أن الفرق بين طرق التربية والتعليم في الماضي والحاضر أصبح واضحًا ولا يمكن إنكاره، فبينما كان التعليم قديمًا يعتمد على الحفظ الصارم، وتحكمه قواعد صارمة لا تقبل النقاش، تحول اليوم إلى نظام أكثر مرونة يركز على الفهم والتفاعل وتنمية مهارات التفكير النقدي لدى الطلاب.
مضيفًا في الماضي كان الطفل يتلقى الأوامر دون أن يكون له رأي، وكان الانضباط هو الأساس، حتى لو تطلب الأمر استخدام أساليب قاسية، أما اليوم فأصبحت التربية أكثر انفتاحًا، حيث يتم تشجيع الأطفال على التعبير عن آرائهم، واكتساب المعرفة من خلال التجربة والممارسة بدلًا من مجرد الحفظ.
التربية التقليدية دروس في الصبر أم قيود على الحرية
أشارت “سلمى هاني” إلى أنها تفضل التربية التقليدية، لأنها تغرس في الطفل قيمًا أساسية قد لا توفرها التربية الحديثة بالقدر الكافي، مؤكدة أن التربية التقليدية تعلم الصبر والقدرة على التكيف مع الحياة كما هي، دون الشعور المستمر بعدم الرضا أو التذمر، فالأطفال الذين نشأوا في ظل هذا الأسلوب يدركون أن الحياة لا تمنح كل شيء بسهولة.

صراع التربية الحديثة
وأن هناك أوقاتًا يحتاج فيها الإنسان إلى التحمل والاجتهاد بدلًا من انتظار تلبية كل رغباته على الفور، موضحة أن التربية الحديثة، رغم مزاياها في تنمية الإبداع والاستقلالية، قد تجعل الطفل أقل استعدادًا لمواجهة التحديات، لأنه اعتاد على أن تكون الأمور ميسرة له دائمًا، متسائلة: “إذا حصل الطفل على كل ما يريده بمجرد أن يطلبه، كيف سيتعلم قيمة الجهد والصبر”.
قيم لا يجب أن تختفي من التربية التقليدية
أوضحت “ريم محمد” أن هناك قيمًا أساسية غرسها النهج التقليدي في التربية، ولا يمكن الاستغناء عنها مهما تغير الزمن، مؤكدة التربية التقليدية علمتنا الصبر والرضا، وهما من أهم الصفات التي تجعل الإنسان أكثر توازنًا في مواجهة الحياة، عندما يتعلم الطفل منذ صغره أن ليس كل شيء سيكون متاحًا فورًا، فإنه يكبر بشخصية قادرة على التحمل وعدم التذمر أمام أي تحدي.
مضيفة أن الأخلاق واحترام الكبار كانا من الأسس التي نشأ عليها الكثيرون، وهو ما نفتقده في بعض جوانب التربية الحديثة، كما أكدت على أهمية روح التعاون وحب الغير، مشيرة إلى أن المجتمعات كانت أكثر دفئًا وترابطًا عندما كانت هذه القيم جزءًا أساسيًا من التربية.
التربية الحديثة بين القوة والضعف
أشار “محمد السيد” إلى أن التربية الحديثة، رغم مزاياها العديدة، قد تؤثر سلبًا على التزام الأطفال بالقيم والعادات، موضحًا أن منح الطفل حرية زائدة دون توجيه واضح يجعله أقل ارتباطًا بالمبادئ التي كانت تُعد أساسية في الأجيال السابقة، كاحترام الكبار، التحلي بالصبر، والقدرة على تحمل المسؤولية.
مؤكدًا أن أحد أبرز سلبيات التربية الحديثة هو أنها تجعل الأطفال أكثر تذمرًا، حيث يعتادون على تلبية رغباتهم فورًا دون انتظار أو مجهود، عندما يكبر الطفل معتقدًا أن كل شيء سيكون متاحًا له بمجرد أن يطلبه، فإنه يواجه صعوبة في التعامل مع التحديات الحقيقية في الحياة.
هل التكنولوجيا في التربية والتعليم نعمة أم نقمة
أوضحت “شيماء صبحي” أن التكنولوجيا، رغم انتشارها الواسع في حياتنا، لا تقدم أي فائدة حقيقية في مجال التربية والتعليم، بل تضر الأطفال أكثر مما تنفعهم، قائلة: “لا هي تربية ولا تعليم، ولا لها أي لزوم، التكنولوجيا جعلت الأطفال أكثر انطواء، أقل صبرًا، وأضعفت قدرتهم على التواصل الحقيقي مع من حولهم”.
مضيفة أن الاعتماد الزائد على الأجهزة الإلكترونية في التعلم يجعل الطفل أقل تركيز وأقل قدرة على التفكير النقدي، حيث أصبح كل شيء متاحًا بضغطة زر دون مجهود أو بحث حقيقي، كما ترى أن التربية لا تبنى عبر الشاشات، بل تحتاج إلى تفاعل مباشر، قيم تغرس من خلال التجارب اليومية، وليس عبر مقاطع فيديو أو تطبيقات إلكترونية.
وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها على التربية الحديثة
أكدت “ماجدة النجدي” أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت عاملًا سلبيًا يؤثر بشكل كبير على أساليب التربية الحديثة، حيث إنها تضعف شخصية الأطفال وتجعلهم أكثر تأثرًا بالآخرين بدلًا من بناء فكر مستقل، موضحة أن الأطفال لم يعودوا يعتمدون على الأهل كمرجع أساسي في التعلم والتوجيه، بل أصبحوا يستقون معلوماتهم وسلوكياتهم من أشخاص مجهولين على الإنترنت، مما يؤدي إلى تراجع دور الأسرة في التربية.
مشيرة إلى أن أغلب محتوى وسائل التواصل الاجتماعي حاليًا أصبح بعيدًا عن القيم والأخلاق، بل إن بعض الأشخاص يستغلون هذه المنصات لنشر السلوكيات السلبية وقلة الاحترام وكأنها أمور طبيعية، بدلًا من أن يتعلم الأطفال الأخلاق والمبادئ، أصبحوا يتابعون محتوى يشجع على التمرد والتجاوزات، مما يضعف قدرتهم على التمييز بين الصواب والخطأ.
الحرية بلا حدود.. كيف تغير مفهوم السلطة الأبوية في التربية الحديثة
أكد “محمد علي” أن الأطفال اليوم أكثر استقلالية في طريقة تعاملهم مع الحياة، لكن ذلك لم يكن ناتجًا عن نضج حقيقي أو اجتهاد شخصي، بل بسبب الأسلوب التربوي الحديث الذي منحهم حرية غير محدودة دون قيود أو توجيه، موضحًا الأهل اليوم لم يعودوا يقولون لا للخطأ، ولم يعلموا أبناءهم حدود الصواب والخطأ، فكبر الأطفال وهم يعتقدون أن كل شيء مسموح ولا يوجد ما يستحق التوقف عنده أو احترامه.
مشيرًا إلى أن هذا الأسلوب الحديث جعل الأطفال أكثر جرأة في اتخاذ قراراتهم، لكنه في الوقت ذاته أفقدهم الإحساس بالمسؤولية والانضباط، عندما يترك الطفل ليختار كل شيء دون أي توجيه أو تصحيح، فإنه يظن أن الحياة بلا قواعد، وهذا ينعكس على سلوكه في المستقبل.
جيل بلا قيود هل فقد الأطفال احترام القواعد والتقاليد
أشار “أيمن محمد” إلى أن أحد أكبر التحديات التي يواجهها الآباء اليوم هو تراجع احترام الأبناء لوالديهم مقارنة بالأجيال السابقة، موضحًا أن طريقة رد الأطفال على أهلهم لم تعد تحمل نفس التقدير والاحترام كما كان في الماضي، مما أدى إلى نشوء جيل لا يتوقف عند حدود الأدب حتى مع الآخرين خارج الأسرة.
مضيفًا أن الأطفال اليوم أصبحوا يطالبون بتلبية رغباتهم دون التفكير في الجهد المبذول من قبل الأهل لتوفير احتياجاتهم الأساسية، لم يعد لديهم إحساس بحجم المسؤولية التي يتحملها الوالدان، فكل ما يشغلهم هو أن تُلبى طلباتهم فورًا، دون تقدير أو امتنان.
التربية بين الحزم والتفاهم كيف يتحقق التوازن المطلوب
أشارت “أميرة علي” إلى أنها اختارت تربية طفليها وفق أسس التربية الحديثة، حيث اعتمدت على الحوار والمشاركة في اتخاذ القرارات بدلاً من استخدام القسوة، ورغم أنهما كانا طفلين مشاغبين وتسببا لها في الكثير من المتاعب، فإنها فضلت أسلوب التفاهم على العقاب.
لكنها في الوقت نفسه لا تنكر أن هناك مواقف تستدعي الحزم والانضباط الصارم خاصةً مع الأولاد، لأن التهاون المستمر قد يؤدي إلى نتائج عكسية، مؤكدة أن الدمج بين الأسلوبين هو الحل الأمثل، حيث يمنح الطفل حرية التفكير واتخاذ القرار، لكن ضمن حدود واضحة تحافظ على توازنه النفسي وتساعده على بناء شخصية قوية ومسؤولة.
التوازن في التربية كيف نمنح الطفل الحرية دون أن يفقد الحدود
أوضحت “روان محمد” أنها ترفض تمامًا استخدام الضرب أو التعنيف في تربية أطفالها، لكنها في الوقت نفسه تؤمن بأن الحزم والتوازن بين أساليب التربية أمر ضروري، فهي ترى أن الإفراط في اللين قد يؤدي إلى ضعف شخصية الطفل، بينما يساعد الاعتدال في وضع حدود واضحة تضمن تنشئة سوية.
مشيرة إلى أنها تشعر بأن أطفال اليوم يفتقرون إلى المعرفة العامة والثقافة التي كانت تمتلكها الأجيال السابقة في مثل أعمارهم، مضيفة من المهم أن نحرص على تنمية وعي الأطفال وإثراء معلوماتهم، لأن التربية لا تقتصر على السلوك فقط، بل تشمل بناء فكر واعي قادر على فهم العالم من حوله.
الطب النفسي يوضح خطورة الاستخدام المفرط للأجهزة الإلكترونية
وأكد الدكتور “محمد الوصيفي” أستاذ الطب النفسي وعلاج الإدمان بكلية الطب جامعة المنصورة، أن الاستخدام المفرط للأطفال للأجهزة الإلكترونية يمكن تصنيفه على أنه نوع من الإدمان، حيث تظهر عليهم علامات واضحة تدل على ذلك.

الدكتور النفسي محمد الوصيفي
ومن بين هذه العلامات زيادة الوقت الذي يقضونه أمام الشاشات، وصعوبة التحكم في استخدامهم للأجهزة، بالإضافة إلى شعورهم بالقلق أو الغضب عند منعهم من استخدامها، كما أن هذا الإدمان يؤثر سلبًا على أدائهم الدراسي ويقلل من مشاركتهم في الأنشطة الاجتماعية.
ما العلاقة بين الأجهزة الإلكترونية والاضطرابات النفسية للأطفال
وأشار “الوصيفي” إلى وجود علاقة بين الاستخدام المفرط للإلكترونيات وزيادة خطر الإصابة باضطرابات القلق والاكتئاب لدى الأطفال، موضحًا أن العزلة الناتجة عن قضاء وقت طويل أمام الشاشات تقلل من تفاعل الأطفال مع الآخرين، مما قد يؤدي إلى مشكلات نفسية واجتماعية تؤثر على نموهم العاطفي والسلوكي.
كما بين أن الاستخدام المفرط للأجهزة الإلكترونية يؤثر بشكل واضح على قدرة الأطفال على التفاعل الاجتماعي، حيث يؤدي إلى تأخير في تطوير مهاراتهم الاجتماعية، ويجعل التواصل مع الآخرين أكثر صعوبة، كما قد يزيد من السلوك العدواني لديهم نتيجة قلة التواصل الحقيقي والانخراط في العالم الافتراضي.
من العالم الرقمي إلى الواقع لماذا يواجه الأطفال صعوبات في التكيف
وأكد الدكتور النفسي أن قضاء وقت طويل أمام الشاشات قد يتسبب في مشكلات في التحكم في الغضب والسلوك العدواني لدى الأطفال، حيث يصبحون أكثر انفعالًا وأقل قدرة على ضبط تصرفاتهم، مما قد يؤدي إلى تصرفات غير متوقعة عند منعهم من استخدام الأجهزة الإلكترونية.
مضيفًا أن الأطفال الذين يقضون أوقاتًا طويلة في العالم الافتراضي يواجهون صعوبات عند الانتقال إلى العالم الواقعي، حيث يعانون من مشاكل في التكيف مع الحياة الاجتماعية، وصعوبة في التواصل مع الآخرين، بالإضافة إلى زيادة احتمالية السلوك العدواني بسبب قلة الاحتكاك المباشر بالعالم الحقيقي.
كيف يساعد الأهل أطفالهم في تحقيق توازن بين التكنولوجيا والحياة
وأشار “الوصيفي” إلى أن هناك العديد من الدراسات التي تربط بين استخدام الأجهزة الإلكترونية وضعف التركيز والتحصيل الدراسي لدى الأطفال، حيث تؤدي كثرة التعرض للشاشات إلى تقليل قدرة الدماغ على التركيز والاستيعاب، مما يؤثر على الأداء الأكاديمي.
واقترح أن يساعد الأهل أطفالهم في تحقيق توازن بين الدراسة واستخدام التكنولوجيا من خلال وضع حدود زمنية لاستخدام الأجهزة، وتشجيعهم على ممارسة الأنشطة الخارجية، بالإضافة إلى مراقبة المحتوى الذي يتعرضون له على الإنترنت لضمان أنه مفيد ومناسب لأعمارهم.
التربية بين الأصالة والتجديد طريق نحو جيل متوازن
التربية ليست صراعًا بين القديم والجديد، بل هي مزيج ذكي يجمع بين القيم الراسخة والانفتاح على التطور، التربية التقليدية علمت الأجيال الصبر والمسؤولية، بينما فتحت التربية الحديثة آفاق الإبداع والتعبير، لكن حين تغيب الحدود والتوازن، قد نفقد أهم ما يميز كل أسلوب.
السر ليس في التشدد أو التساهل، بل في إيجاد منهج متوازن يمنح الأطفال حرية التفكير دون أن يفقدهم قيم الاحترام والانضباط، ويواكب متطلبات العصر دون أن يعزلهم عن واقع الحياة ومسؤولياتها.