تحقيق – بسملة الجمل
تتعمد اليوم بعض الفتيات إنهاء خطوبتهن فقط لنشر منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، يبدأن فيه بعبارات مألوفة مثل: “الحمد لله، كل شيء قسمة ونصيب، أنا الآن سنجل”، وتسعى من وراء ذلك إلى إثارة التعاطف، وجذب الأنظار، وتحقيق أكبر قدر من التفاعل والانتشار.
وتنشر قبل ذلك صور حفلة قراءة الفاتحة والخطوبة بكامل تفاصيلها للتباهي أمام الأصدقاء والمتابعين، ثم تحول القصة إلى مشهد درامي عن “حب انتهى بالفشل”، وبينما يظن البعض أن الهدف هو الشهرة أو كسب التعاطف، يبقى هناك سبب خفي لا يعرفه أحد سواها، يختبئ وراء قرار الفسخ ووراء الكلمات التي تخطف تفاعل الآلاف.
وتحولت هذه القصص إلى ظاهرة لافتة تثير الجدل في كل مرة تظهر فيها على الشاشات الصغيرة للهواتف، حيث تتناقلها الصفحات ويتفاعل معها الآلاف بين مصدق ومشكك، ومع تكرار المشهد، أصبح الانفصال بالنسبة للبعض خطوة مخططة بعناية، تبدأ بابتسامات الحفلة أمام الكاميرا وتنتهي بكلمات الوداع على مواقع التواصل، وبين البوح المعلن والسبب الخفي الذي لا يعرفه أحد، تظل الحقيقة حبيسة صاحبتها، بينما يبقى الجمهور أسير ما يراه ويقرأه.
تجلس الفتاة أمام هاتفها، تدقق النظر في الشاشة لدقائق، ثم تكتب ببطء كلمات تحمل مزيجًا من الحزن والقوة المصطنعة، وتختار بعناية صورة من لحظة كانت تبدو سعيدة، وتضغط على زر النشر، فتبدأ التعليقات والرسائل بالتدفق، ويزداد عدد الإعجابات والمشاركات في دقائق، وتتابع الأرقام وهي ترتفع وكأنها مكافأة على جرأة قرارها، بينما يظل السبب الحقيقي لانفصالها مطويًا في قلبها، بعيدًا عن أعين المتابعين الذين لا يعرفون من القصة إلا ما أرادت لهم أن يعرفوه.
بين التعبير عن الذات واستغلال العواطف
وبالحديث مع بعض المواطنين تنوعت آرائهم، فأكدت “إيمان عمارة” أن هذه الظاهرة مثيرة للجدل إلى حد كبير، وتسبب نفورًا لدى شريحة واسعة من الناس، وترى أن نشر القصص الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي قد يكون وسيلة للتعبير عن المشاعر والتجارب الحياتية، غير أن البعض يعتبره استغلالًا لعواطف الآخرين، خاصةً حين تتعمد بعض الفتيات نشر مثل هذه القصص بهدف لفت الأنظار إليهن وخطف الاهتمام.
وأشارت “آية محمد” إلى أن من حق أي شخص أن يشارك ما يشاء على الإنترنت، فالبعض يستخدم هذه المساحة للتعبير عن ذاته أو للبحث عن نصيحة، أو لنقل تجارب قد تفيد الآخرين، موضحة أنه إذا كانت هذه التفاصيل مفبركة، فإن الأمر ينتقل من نطاق الحرية الشخصية إلى إطار المسؤولية الأخلاقية، لأن المعلومات الكاذبة تفقد الثقة في الشخص نفسه وفي المحتوى الذي ينشره، وقد تتسبب في أضرار لآخرين إذا تضمنت الإشارة إلى أحداث أو أشخاص يمسهم الأمر.
وأوضحت “سوزان الجمال” أن هذا السلوك يعكس في جانب كبير منه حالة من الفراغ النفسي، خاصةً حين تنشغل الفتاة بالسعي وراء التعاطف أو الشهرة من خلال موقف شخصي وحساس مثل فسخ الخطوبة، بدلًا من التعامل معه بهدوء أو في إطار خاص، مضيفة أن غياب الرقابة أو النصيحة من الأهل والمقرّبين يجعلها ترى في وسائل التواصل الاجتماعي الملاذ الوحيد لجذب الانتباه، حتى وإن كان ذلك على حساب سمعتها أو مشاعرها.
وأكدت “آية عاشور” أن المجتمع، بشكل أو بآخر، يشجع هذه التصرفات من خلال التفاعل معها بالتعليقات والمشاركات، رغم كونها ظاهرة غير صحيحة على الإطلاق، موضحة أن كثيرين اليوم أصبحوا يسعون وراء “التريند” دون اعتبار للقيم أو النتائج، حتى إن الأمر قد يصل إلى افتعال مواقف أو أحداث شخصية بهدف تحقيق الانتشار، بغض النظر عن صدقها أو تأثيرها على المعنيين بها.
وأوضحت “أمنية السيد” أنها شاهدت عبر وسائل التواصل الاجتماعي قصة لمدوِّنة تعرفها، كانت تظهر منذ سنوات في مقاطع فيديو مع شاب تجمعها به علاقة، ثم فاجأها بخطبة رومانسية علنية بطريقة لافتة، غير أن المفاجأة الكبرى كانت بعد نحو شهرين، حين أعلنت الفتاة أنها عادت إلى حياة العزوبية، مبررة الأمر بأن المشاعر لم تكن حقيقية، بينما ظل السبب الفعلي مجهولًا.
مضيفة: “شعرت بالصدمة، فقد كنا نظن أن قصة حبهما حقيقية، لكنني أيقنت أنها مجرد سعي وراء الريتش، خاصة أنهما تابعا حياتهما بشكل طبيعي دون أي أثر للحزن”، مؤكدة أن مثل هذه المواقف تفتقر إلى الاستقرار العاطفي وتعبث بمشاعر المتابعين، فضلًا عن تأثيرها السلبي على الفتيات اللواتي قد يطالبن شركاءهن بتقليد ما يرونه على صفحات المدوِّنين من هدايا أو مفاجآت، أو حتى إنهاء علاقاتهن إذا تلقين عروضًا من أشخاص مشهورين، وكل ذلك من أجل الشهرة وجذب المتابعين.
تظهر هذه الظاهرة كيف تحولت وسائل التواصل الاجتماعي من منصّة للتواصل وتبادل الخبرات إلى ساحة للتنافس على جذب الأنظار، حتى وإن كان ذلك عبر أحداث شخصية أو مفبركة، هذا السلوك لا يقتصر تأثيره على الفتاة المعنية فحسب، بل يمتد ليشكل صورة مزيفة عن العلاقات الإنسانية، مما يضعف قيم الصدق والخصوصية في المجتمع، ويعزز منطق “المحتوى أولًا، والمشاعر لاحقًا”.
كما أن انتشار مثل هذه القصص يسهم في ترسيخ معايير سطحية لقياس النجاح العاطفي أو الاجتماعي، حيث يصبح عدد الإعجابات والتعليقات مقياسًا لقيمة التجربة، بدلًا من صدقها أو عمقها، ومع الوقت، قد يفقد الجمهور حسّه النقدي، فيتعامل مع هذه المنشورات باعتبارها حقائق مسلمًا بها، وهو ما يخلق حلقة مفرغة من التقليد والاستنساخ، تبتعد شيئًا فشيئًا عن الواقع الفعلي للحياة والمشاعر.
التعاطف الرقمي.. حين يتحول الانفصال العاطفي إلى وسيلة لجذب الأنظار
أوضح محمد الوصيفي دكتور الطب النفسي وعلاج الإدمان بكلية الطب في جامعة المنصورة، أن بعض الفتيات قد يلجأن إلى افتعال قصص مثل فسخ الخطوبة عمدًا بهدف نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، مدفوعات برغبة في لفت الانتباه وتحقيق إحساس بالقيمة الذاتية من خلال ردود أفعال الآخرين، ويرى أن هذا السلوك قد يعكس احتياجًا عاطفيًا غير مُشبع أو شعورًا بالفراغ يسعى الفرد، لتعويضه في الفضاء الرقمي.

الدكتور النفسي محمد الوصيفي
وأكد الدكتور محمد الوصيفي أن هذه التصرفات قد تتقاطع مع سمات بعض اضطرابات الشخصية مثل النرجسية، التي تبحث باستمرار عن الإعجاب، أو الهستيرية التي تميل إلى الدرامية والمبالغة لجذب الانتباه، ومع ذلك، شدد على أن التشخيص الدقيق يتطلب تقييمًا نفسيًا متكاملًا، لأن هذه السمات قد تظهر أيضًا لدى أشخاص لا يعانون من اضطراب واضح.
وأشار “الوصيفي” إلى أن السعي وراء ما يسميه “التعاطف الرقمي” قد يكون مدفوعًا بالحاجة لإثبات الذات أو تعويض النقص العاطفي، خاصةً في ظل بيئة السوشيال ميديا التي تمنح ردود أفعال سريعة، مما يشجع على المبالغة أو حتى اختلاق أحداث غير واقعية، وبين أن هذا النمط من التصرفات يمكن اعتباره شكلًا من أشكال البحث المفرط عن الانتباه، حيث يواجه صاحبه صعوبة في الشعور بالرضا عن نفسه، دون التقدير الخارجي.
وأوضح دكتور الطب النفسي أن وسائل التواصل الاجتماعي أعادت تشكيل مفهوم العلاقات العاطفية لدى كثير من الشباب والفتيات، حتى أصبح البعض يقيم نجاح أو فشل العلاقة من خلال المظاهر المنشورة لا من خلال التجربة الحقيقية، وهذا بدوره يخلق ضغوطًا نفسية، ويؤدي إلى بناء توقعات غير واقعية عن الحب والخطوبة والانفصال.
وأكد “الوصيفي” أن تكرار نشر قصص مفبركة أو مشاعر زائفة قد يقود الشخص إلى تصديق ما يرويه بمرور الوقت، وهو ما يُعرف بالذاكرة الزائفة، مما يخلق فجوة بين حياته الواقعية وصورته الرقمية، وقد يرفع احتمالية الإصابة باضطرابات نفسية مستقبلية، مشيرًا إلى أن استمرار هذا النمط السلوكي قد يتطور ليشمل حالات أكثر عمقًا مثل الاكتئاب أو اضطراب الهوية أو الشعور المزمن بعدم الرضا عن الذات.
كذلك بين الدكتور محمد الوصيفي أن التفاعل الكبير من المتابعين، سواء بالتعاطف أو الإعجاب أو المشاركة، يعمل كتعزيز مباشر لهذا السلوك، مما يدفع الشخص إلى تكراره بشكل أكبر، حتى دون وعي منه، وهو ما يجعل المجتمع بطريقة غير مباشرة طرفًا في استمرار هذه الظاهرة.
كما أكد الدكتور النفسي أنه واجه في ممارسته المهنية حالات مشابهة، وكان التعامل معها يرتكز على معالجة الدوافع الحقيقية وراء التصرفات، وتعزيز تقدير الذات من الداخل، مع العمل على تحسين مهارات التواصل الواقعي، والابتعاد عن الاعتماد المفرط على العالم الافتراضي.
وأشار “الوصيفي” إلى أن البحث المستمر عن “التريند” ليس مرضًا نفسيًا معترفًا به بشكل رسمي، لكنه قد يمثل عرضًا لسلوكيات أو اضطرابات أعمق إذا تحول إلى هوس يؤثر على الحياة اليومية والعلاقات الشخصية، كما حذر من أن بناء الهوية النفسية على أساس ردود أفعال الآخرين يجعلها هوية هشة، تتأرجح بتقلبات الاهتمام الرقمي.
واختتم الدكتور محمد الوصيفي بالتأكيد على أهمية التفريق بين التعبير الحقيقي عن المشاعر، الذي ينطلق من تجارب واقعية بهدف المشاركة أو طلب الدعم، والتعبير الزائف الذي يسعى لتحقيق مكاسب خارجية مثل الشهرة أو التعاطف المصطنع، ونصح الفتيات اللاتي يلجأن إلى تزييف المعاناة العاطفية بالبحث عن مصادر دعم حقيقية في محيطهن الواقعي، والعمل على تطوير ذواتهن بعيدًا عن الاهتمام الرقمي الزائل، حفاظًا على سلامتهن النفسية على المدى الطويل.
دعوة إلى الوعي وتحكيم القيم الحقيقية
وفي النهاية، يبقى وعي الفرد وحده هو الحاجز الحقيقي أمام الانجراف وراء هوس الشهرة والتفاعل الرقمي، فالحياة الحقيقية لا تُقاس بعدد الإعجابات أو التعليقات، بل بصدق التجربة وعمق العلاقات، وحين ندرك أن القيمة الحقيقية تأتي من الداخل لا من الشاشات، نكون قد خطونا أولى خطواتنا نحو مجتمع أكثر وعيًا ونضجًا.