تحقيق – نسمة هاني
تتزايد المخاوف في الأوساط السياسية والدبلوماسية الدولية من احتمال اندلاع موجة جديدة من التصعيد في منطقة الشرق الأوسط، على خلفية التوترات المستمرة بين إيران وإسرائيل، والتي اتخذت مؤخرًا أبعادًا أكثر تعقيدًا بعد الاشتباكات غير المباشرة والتراشق العسكري المحدود، إلى جانب التوتر في المواقف بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية.
ولم تعد التوترات بين إيران وإسرائيل مجرد حلقات متفرقة من التصعيد، بل باتت تشكل نمطًا متصاعدًا من الصراع الإقليمي المركّب، تتداخل فيه الأجندات العسكرية بالرهانات السياسية، وتُدار معاركه أحيانًا فوق الأرض وأحيانًا خلف الشاشات عبر الحروب السيبرانية، ففي الوقت الذي يتسابق فيه الطرفان على ترسيخ النفوذ وضرب المصالح الحيوية للطرف الآخر، تتسع رقعة الاشتعال لتشمل أطرافًا دولية ووكلاء إقليميين، ما يضع المنطقة برمتها على صفيح ساخن.
الاشتباكات الأخيرة وإن لم تصل إلى مستوى الحرب الشاملة، إلا أنها أظهرت حجم الهشاشة الاستراتيجية في التوازن القائم، وفتحت الباب أمام احتمالات أكثر خطورة تتجاوز الحسابات التقليدية، في ظل غياب حلول جذرية وفعالة.
محطات التصعيد.. هجمات متبادلة وتطور نوعي في المواجهة
شهدت المنطقة في أبريل 2024 واحدة من أخطر موجات التصعيد بين إيران وإسرائيل، عقب هجوم إيراني بطائرات مسيّرة وصواريخ، رُدّ عليه بهجوم إسرائيلي واسع استهدف مواقع داخل إيران وسوريا.
ورغم أن الطرفين لم يدخلا في مواجهة عسكرية شاملة، فإن الحوادث الأمنية تكررت بوتيرة لافتة، بما في ذلك استهداف منشآت نووية ومراكز بحثية ومواقع عسكرية.
كما ساهم اغتيال شخصيات محسوبة على الحرس الثوري الإيراني في سوريا، واتهام إسرائيل بالمسؤولية عن هذه العمليات، في تعميق الأزمة بين الجانبين وزيادة وتيرة التوتر الأمني والعسكري.
واشنطن في المنتصف.. دعم غير مشروط ومحاولات احتواء
الولايات المتحدة بوصفها الحليف الاستراتيجي الأول لإسرائيل، لم تكن بعيدة عن مسرح التصعيد، حيث دعمت تل أبيب سياسيًا وعسكريًا، وأكدت عبر تصريحات رسمية “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، في المقابل اتهمت طهران واشنطن بـ”تأجيج الصراع” و”عرقلة أي جهود تهدئة”، متهمة إياها بمنح إسرائيل ضوءًا أخضر لمزيد من الضربات.
وتسعى إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للحفاظ على توازن بالغ الحساسية بين دعم إسرائيل وردع إيران، دون الانجرار إلى صراع إقليمي واسع النطاق قد يخرج عن السيطرة.
تحذيرات دولية ومحادثات خلف الكواليس لخفض التوتر
أعربت الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن قلقها من إمكانية استهداف المنشآت النووية داخل إيران، محذّرة من أن التصعيد العسكري قد يعرّض السلامة الإقليمية والدولية للخطر، وأبدت دول الاتحاد الأوروبي قلقها المتزايد من تصاعد العمليات، ودعت إلى ضرورة التهدئة وضبط النفس من جميع الأطراف.
كما كشفت مصادر دبلوماسية عن وجود محادثات غير معلنة يجريها وسطاء إقليميون ودوليون في محاولة لخفض التوتر ومنع انزلاق الوضع إلى حرب شاملة.
رأي الدكتور أسامة حمدي، محلل في الشأن الإيراني
يرى “الدكتور أسامة حمدي” أن التصعيد مستمر لأن الهدنة الحالية هشّة، أو بمثابة “استراحة محارب”، نظرًا لأن أسباب الصراع الأساسية لم تُحل من جذورها، مشيرًا إلى ثلاث قضايا رئيسية:البرنامج النووي الإيراني لا يزال قائمًا، فرغم تصريحات إدارة ترامب السابقة بأنها دمرته، لا تزال إيران تحتفظ بكميات مخصبة من اليورانيوم تكفي لصنع عشر قنابل نووية، بالإضافة إلى بقاء الخبرات الفنية والعلمية، والبنية التحتية القادرة على إعادة تشغيل المشروع في وقت قصير.
والمشروع الصاروخي الباليستي الإيراني لا يزال يتطور، إذ تسعى طهران لتحسين دقة إصابة أهدافها، دعم إيران لمحور المقاومة، ممثلًا في حماس، وحزب الله، والحشد الشعبي، والحوثيين، ما يضعها في مواجهة مباشرة مع المشروع الإسرائيلي في المنطقة.
ويؤكد أن هذه الهدنة لم تُوقع رسميًا بين الأطراف، وإنما تمت عبر وساطات شفوية ورسائل غير موثقة، ما يجعلها قابلة للانهيار في أي لحظة، كما أن إسرائيل لن تتنازل عن مشروع “الشرق الأوسط الكبير”، ولن تتخلى عن سياستها التوسعية، فيما تقف إيران حجر عثرة أمام هذا المشروع.
ويشير إلى أن المنطقة تضم ثلاثة مشاريع متصارعة: إيراني، إسرائيلي، وتركي، في ظل غياب مشروع عربي فاعل، ما يزيد من تعقيد المشهد.
ويضيف أن الولايات المتحدة لم تعد طرفًا محايدًا بعد تدخلها المباشر في قصف منشآت نووية داخل إيران، بل أصبحت طرفًا منخرطًا في الحرب، مدفوعة بعدة أسباب منها حماية مواطنيها في إسرائيل، ورغبتها في حسم المعركة لصالح السلاح الغربي ضد الصواريخ الإيرانية المدعومة من الصين وكوريا الشمالية.
كما تسعى واشنطن بحسب رأيه، إلى نزع ورقة القوة الإيرانية من يد روسيا والصين، باعتبار إيران جزءًا من تحالف “البريكس”، ولتؤكد أنها لا تزال موجودة بقوة في الشرق الأوسط.
ويعدد الدكتور حمدي أدوات التصعيد الإيراني المستقبلية، ومنها: إغلاق مضيق هرمز أو باب المندب، استهداف القواعد الأمريكية في العراق والخليج، استهداف العمق الإسرائيلي بصواريخ بعيدة المدى، وتفعيل الأذرع المسلحة مثل حزب الله والحوثيين.
ويحذر من أن المفاوضات ستواجه طريقًا مسدودًا ما دامت الولايات المتحدة تتعامل بمنطق “الوصاية السياسية”، مؤكدًا أن الشعب الإيراني، صاحب حضارة تمتد لآلاف السنين، لن يقبل بالإملاءات ويرى أن البدائل ممكنة، مثل إنشاء تحالف خليجي، مصري، تركي، إيراني لإدارة تخصيب اليورانيوم بشكل مشترك.
ويختم بالقول إن روسيا هي المستفيد الأكبر من النزاع الحالي، لأنها تشتت تركيز الغرب وتخفف الضغط عن أوكرانيا، إلا أنها لم تقدم الدعم العسكري الكافي لإيران رغم المساعدات الإيرانية لموسكو، وهو ما يعكس وجود حالة من انعدام الثقة والتنافس بين الطرفين، خصوصًا في سوق الطاقة.
وكلاء طهران في الواجهة.. صراع غير مباشر بأدوات متعددة
ترجّح بعض التحليلات الأمنية أن يشهد الصيف المقبل تصعيدًا غير مباشر عبر وكلاء إقليميين لطهران، مثل حزب الله في لبنان، والميليشيات المسلحة في العراق وسوريا، أو حتى من خلال الحوثيين في اليمن، وهو ما قد يفتح جبهات جديدة دون انخراط إيران بشكل مباشر.
كما تحذر التقارير الاستخباراتية من احتمالية استهداف مصالح إسرائيلية أو أمريكية في البحر الأحمر أو منطقة الخليج، ضمن استراتيجية “الرد غير المباشر” التي تعتمدها إيران في أوقات التوتر.
توازن هش.. بين الردع والتصعيد المحسوب
في ضوء المعطيات الجيوسياسية الراهنة، يتضح أن المواجهة بين إيران وإسرائيل لا تسير في اتجاه حرب شاملة، بقدر ما تتخذ شكل “صراع محسوب” تديره الأطراف بأدوات متنوعة تشمل الضربات غير المباشرة، والاغتيالات، والحرب السيبرانية، والضغوط السياسية، ويبدو أن الطرفين يسعيان لتحقيق مكاسب استراتيجية دون دفع الكلفة الباهظة لمواجهة مباشرة قد تخل بتوازنات إقليمية ودولية.
وتحاول إيران من جهة توسيع نفوذها عبر وكلائها في المنطقة، ومن جهة أخرى تسعى إسرائيل لتقويض هذا النفوذ عبر ضربات استباقية مركّزة، بدعم أمريكي واضح، ووسط مراقبة حثيثة من المجتمع الدولي.
العامل الأخطر في هذه المعادلة يتمثل في تعدد أطراف الصراع، ووجود ميليشيات مسلّحة وكيانات غير نظامية، ما يجعل التصعيد أكثر تعقيدًا وأقل قابلية للضبط، ويفتح الباب أمام مفاجآت قد لا تكون في حسابات أحد.
الشرق الأوسط أمام اختبار جديد من الصراع
في ظل استمرار التوترات الإقليمية وتعدد ساحات الاشتباك غير المباشر، يقف الشرق الأوسط أمام اختبار جديد من حيث قدرته على احتواء أزمة قابلة للانفجار في أي لحظة، ورغم أن الأطراف الأساسية، بما في ذلك الولايات المتحدة، لا ترغب في حرب مفتوحة، فإن أي خطأ في الحسابات أو تصعيد غير محسوب قد يشعل مواجهة إقليمية تتجاوز إيران وإسرائيل لتطال كامل المنطقة.
وبالتالي فإن الأشهر القادمة ستشكل مرحلة دقيقة تتطلب جهودًا دبلوماسية مضاعفة، وتحركات تهدئة جادة، وإلا فإن المنطقة ستكون مقبلة على واقع أمني أكثر اضطرابًا، قد يعيد تشكيل خريطة الصراعات في الشرق الأوسط من جديد.
صراع مفتوح بأدوات متغيّرة وساحات أكثر تعقيدًا
في المحصلة يبدو أن المشهد الإقليمي دخل مرحلة دقيقة، حيث تتزايد عوامل التفجير وتضيق مساحات التهدئة، وبينما يحاول كل طرف كسب أوراق القوة دون الدخول في مواجهة مكلفة، تظل المنطقة بأكملها رهينة لمعادلة متقلبة، قد تنقلب في لحظة إلى صراع مفتوح، إذا ما خرجت إحدى الجبهات عن السيطرة.
وفي غياب حلول سياسية شاملة، فإن الشرق الأوسط قد لا يشهد نهاية لهذه المواجهة، بل جولات جديدة بأدوات متغيرة، وساحات أكثر تعقيدًا.