تحقيق – لبنى عسكورة
أصبحت التقنيات الحديثة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وصارت برامج الذكاء الاصطناعي، عنصرًا رئيسًا في تسهيل حياتنا وتنفيذ أعمال ومهام كثيرة كان منها ما يصعب على البعض.
ولكن مع كل هذه الفوائد والمميزات، تأتي تساؤلات بشأن تأثير هذا الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي في قدراتنا العقلية، مثل الذكاء والابتكار والانتباه والإدراك والتذكر والتفكير وغيرها من القدرات العقلية الأخرى، ما يثير عددًا من التساؤلات أهما، هل نحن على وشك مواجهة إعاقة عقلية، بسبب عدم استخدام القدرات العقلية الطبيعية، والاعتماد على الذكاء الاصطناعي وتقنياته المتعددة.
نستعرض في هذا التحقيق، العلاقة المعقدة بين الذكاء الاصطناعي والإنسان، وكيفية تأثير الذكاء الاصطناعي على مختلف جوانب الحياة الإنسانية، ونناقش مستقبل هذه العلاقة وكيف يمكن تحقيق توازن يضمن استفادة الإنسان من هذه التكنولوجيا دون أن تهدد وجود القدرات البشريّة.
تعريف الذكاء الاصطناعي
إخترقت مُصطلحاتٌ حديثة الفضاء الإلكترونيّ، مُصطحِبةً معها موجة من التّطوّرات الخارقة والتي تفوق قدرة الإنسان على الاستيعاب، ومن أهم هذه التطورات الـAI أو الـChatbot أو ببرنامج الدردشة ChatGPT، وبدأت هذه التكنولوجيا تفرضُ نفسها علينا بتقنيّاتٍ وبرمجيّاتٍ حديثة تهدف إلى إعطاء الأنظمة الحاسوبيّة القدرة على التّفكير والتعلّم واتّخاذ القرارات بمستوًى يُشبه القدرات البشريّة.
ويبدو مفهوم الذكاء الاصطناعيّ غامضاً بالنسبة إلى معظم المستخدمين لجهة الفرص أو حتى المخاطر الّتي تُتيحها أنظمته، وفي ظلّ المخاوف المتكرّرة بشأن تطوّر مجالات الذكاء الاصطناعيّ.
والذكاء الاصطناعي تطوّر، ووصل إلى مرحلة يستطيع فيها تقليد البشر، فيكون أسرع من الإنسان، لأنه مرتكز على ما يُسمّى بالـ “Machine Learning” التي يتمّ تحفيظها بيانات مترابطة.
تاريخ الذكاء الاصطناعيّ
يعتقد بعض المستخدمين أنّ الذكاء الصطناعي تقنيّة جديدة تحاكي الذكاء البشريّ على أداء المهامّ والواجبات، وتُطَوّر معلوماتها استنادًا إلى البيانات التي تجمعها، إلّا أنّ هذه الأنظمة بدأت رسمياً منذ خمسينات القرن الماضي، وبدأت تتسع رقعة انتشارها بعدما تنامى الحديث عنها في زمننا الحاضر، وتحديداً منذ سنواتٍ قليلة.
يعتبر الذكاء الاصطناعي من أبرز التطورات التكنولوجية في القرن الواحد والعشرين، حيث أحدث ثورة في العديد من المجالات مثل الطب، الصناعة، التعليم، والاتصالات، مع ازدياد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، تبرز تساؤلات حول تأثيره على الإنسان ومكانته في المجتمع.
مجالات استخدام الذكاء الاصطناعي
ويشار إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي على أنّها لا تزالُ في مهدها، على الرّغم من تطوّرها الهائل في مجالاتٍ مُختلفة كالتعليم والترجمة والرعاية الصحية ومكافحة الجريمة والطب وحتّى في تفاصيل الحياة اليومية من خلال القدرة على التحكّم بالأجهزة المنزلية أو اتّخاذ قرارات استراتيجية.
صار الذكاء الاصطناعيّ سهلاً، غير معقّدٍ ومتاحاً لكلّ مستخدمٍ بشكلٍ مجانيّ، حتّى يستطيع توظيفه لأغراضٍ شخصيّة، يُحبّها، ويراها مهمّة بالنسبة إليه، وأيضا يستخدم في شتّى المجالات العمليّة فيُساعد الإنسان في مختلف أعماله ودراساته.
أما في المجال الحياتيّ والشخصيّ، الذكاء الاصطناعي يُرافقنا يومياً وهو يكمن بالتالي في بياناتنا الشخصيّة، ومن هنا تُطرح مسألة خرق الذّكاء الاصطناعي لبياناتنا ولحياتنا.
وايضا السيارات ذاتيّة القيادة تُعدُّ من أوضح مظاهر تطوُّر الذكاء الاصطناعيّ، إذ باتت السّيارات تقود نفسها بنفسها، ومن دون أي حاجةٍ لسائق بشريّ، كذلك إن الماكينات الصناعية تشهدُ تطوراً ملحوظاً، والبرمجة أيضاً تسلك طريق التطوّر نفسه.
تأثير الذكاء الاصطناعي في القدرات العقلية
يؤدي الاعتماد الزائد على تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى تراجع في بعض القدرات العقلية الأساسية، ومن أمثلة ذلك استخدام الذكاء الاصطناعي في المهام والأعمال الإدارية والأكاديمية، بدلًا من اعتماد الفرد على قدراته العقلية في التفكير وحل المشكلات والإبداع والتذكر، حيث إن عدم استخدام هذه القدرات قد يؤدي إلى إضعافها أو الحد منها.
والاعتماد المفرط على تقنيات الذكاء الاصطناعي في إنجاز المهام الممكنة بالقدرات البشرية، يضعف مهاراتنا المعرفية والعقلية، مثل حل المشكلات والتفكير النقدي والذاكرة، واللغة وغيرها من القدرات العقلية الأخري.
وتسبب أدوات الذكاء الاصطناعي التي تقدم اقتراحات جاهزة من قدرتنا على التفكير المستقل، وتوليد أفكار جديدة، وضعف القدرات الابتكارية لدي الأفراد، فتقنيات الذكاء الاصطناعي قادرة على إنتاج أعمال ابتكارية، ومن الممكن أن هذا يعيق البشرَ عن الإبداع بأنفسهم، إذ يشعرون بأن ما ينتجه الذكاء الاصطناعي قد يفوق قدراتهم العقلية، ومع مرور الوقت، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تراجع في مستوى الابتكار والإبداع البشري.
التأثير في مهارات التعلم
يؤدي الاعتماد على أدوات الذكاء الاصطناعي للبحث عن المعلومات واسترجاعها إلى إضعاف مهارات التعلم الذاتي، مثل البحث عن المعلومات وتحليلها وتقييمها.
مهدادون بالإعاقة العقلية بسبب الاعتماد على الذكاء الاصطناعي
نعرف”الإعاقة العقلية” هنا ليس بالضرورة أنه يشير إلى حالة مرضية، بل هو تعبير مجازي عن التراجع في القدرات العقلية والفكرية، فالاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي يمكن أن يضعف العقول، وهذا ما يحدث نتيجة عدم استخدام القدرات العقلية، فسرعان ما يصاب الإنسان بالضمور والضعف وعدم القيام بالوظائف العقلية.
كيفية تجنب التأثير السلبي للذكاء الاصطناعي
تحقيق التوازن بين استخدام التكنولوجيا وتنمية مهاراتنا العقلية، ويمكن تحقيق ذلك من خلال ممارسة الأنشطة التي تتطلب تفكيرًا نقديًّا وإبداعيًّا، وقصر استخدام الذكاء الاصطناعي على الحالات الضرورية، وثانيا التعليم والتوعية، لا بد من نشر الوعي عن المخاطر المحتملة للذكاء الاصطناعي على القدرات العقلية، ويمكن أن تساعد البرامج التعليمية في تعزيز التفكير النقدي بين الأفراد.
وأيضا التفاعل البشري، لا يمكن للتكنولوجيا أن تحل محل التفاعل البشري، بل يجب الحفاظ على العلاقات الاجتماعية والتواصل الشخصي لتحسين القدرات العقلية، واخيرا التحدي الذاتي، ينبغي لنا تحدي أنفسنا باستمرار لتعلم مهارات جديدة، وتطوير قدراتنا العقلية بعيدًا عن التكنولوجيا، أو على أقل تقدير تحديد دور التكنولوجيا في حياتنا.
حقوق الانسان في مجال التكنولوجيا
يتيح التقدم التكنولوجي والذكاء الاصطناعي أشكالا جديدة لممارسة الحقوق والحريات وتعزيز المشاركة المواطنة، لكن الفرص الواعدة التي تنطوي عليها هذه التطورات توازيها مجموعة من القضايا الأخلاقية والمخاطر المحدقة بجوهر حقوق الإنسان، إذ قد تنجم عنها انتهاكات للخصوصية والبيانات الشخصية والحق في المشاركة في العمليات الديمقراطية والتأثير على الأشخاص وتضليلهم ونشر الأخبار الزائفة.
ووعيا منه بالروابط المتشابكة بين منظومة حقوق الإنسان والفضاء الرقمي، أدرج المجلس الوطني لحقوق الإنسان هذا التقاطع ضمن مجالات عمله الرئيسية سواء من خلال تقاريره أو فعالياته، حيث دعا في تقريره السنوي لعام 2020 إلى فتح نقاش عمومي حول حماية حقوق الإنسان في مجال التكنولوجيا وحقوق الإنسان.
ويؤكد في تقارير على ضرورة إيثار قيم حقوق الإنسان على التكنولوجيا واستعمالاتها من خلال اعتماد المواثيق الدولية ذات الصلة ووضع استراتيجية رقمية وطنية تستند إلى مبادئ حقوق الإنسان وترسيخ المقاربة الحقوقية في النصوص القانونية الناظمة لهذا المجال.
ويشدد المجلس أيضا على ضرورة أخذ حماية حقوق الإنسان بعين الاعتبار عند تصميم التطبيقات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي ولزوم تعزيز سبل الانتصاف القضائية وغير القضائية للمواطنات والمواطنين بعلاقة مع التكنولوجيات الحديثة.
وأطلق المجلس الوطني لحقوق الإنسان منذ نهاية عام 2019 سلسلة من المشاورات الموسعة مع الخبراء والفاعلين في المجال، وملتقى تشاوريا وطنيا عام 2021 من أجل بلورة أجوبة جماعية لهذه الرهانات، وأورد المجلس الخلاصات التركيبية المنبثقة عن هذه اللقاءات في تقرير موضوعاتي أصدره عام 2022 تفعيلا لاستراتيجيته في هذا الصدد، ناقش فيه أخلاقيات الذكاء الاصطناعي واستعرض نتائج الرصد المنجز بخصوص حقوق الإنسان في العالم الرقمي والذكاء الاصطناعي.
علاقه التقدم التكنولوجي بحرية الرأي
أطلق المجلس منصة (taabiratraqmya.ma) التفاعلية عام 2020 بشأن حرية الرأي والتعبير في الفضاء الرقمي لمواصلة التشاور والحوار حول القضايا الحقوقية والمساهمة في النقاش العمومي حول كيفية مواجهة التحديات المرتبطة بضمان ممارسة الأشكال الجديدة لحرية الرأي.
ومن أهمها التعبير والممارسة والتفكير الجماعي في الأبعاد المتعلقة بأخلاقيات استعمال التكنولوجيا الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، والتفكير في كيفية استلهام بعض التجارب والممارسات الفضلى في هذا المجال من أجل بلورة ميثاق وطني لأخلاقيات استعمال الفضاء الرقمي في المجال العام.
كما نظم المجلس عدة فعاليات في هذا الصدد، من بينها ندوة دولية عام 2021، أثرى أشغالها خبراء مغاربة ودوليون من أجل مقاربة المعايير والمبادرات الدولية الناشئة في المجال، توجت باعتماد إعلان الرباط حول الذكاء الاصطناعي والمواطنة الرقمية، من أجل ذكاء اصطناعي يحترم حقوق الإنسان، الذي تبنى مجموعة من التوصيات وأنشأ على إثره لجنة علمية تعنى بتنفيذها.
علاقة التقدم التكنولوجي مع الممارسة الإعلامية
أبرز المجلس في الرأي الاستشاري الصادر عام 2021 حول مشروع القانون رقم 17.71 الذي يقضي بتغيير وتتميم القانون رقم 13.88 المتعلق بالصحافة، ضرورة بلورة أدوات وأساليب مبتكرة لمواكبة التحولات التي فرضتها التكنولوجيات الحديثة للتواصل بشكل عام، ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل خاص، والتي تحولت تدريجيا إلى قنوات أساسية لممارسة حرية الإعلام.
توج المجلس جهوده في المجال بإحداث قسم يعنى بقضايا التكنولوجيا والفضاء الرقمي وحقوق الإنسان ضمن هياكله عام 2023، بهدف رصد آثار استعمالات التكنولوجيا والمواكبة المستمرة لما قد ينتج عنها من انتهاكات للحقوق والحريات، وتحقيق التوازن بين التقدم التكنولوجي وحماية حقوق الإنسان والنهوض بها.
العقل الإنساني في مواجهة الذكاء الاصطناعي
يعود التفكير البشري في مجال الذكاء الاصطناعي عندما بدأ الإنسان يختبر قدراته في بناء بدائل اصطناعية تقوم ببعض مهامه ضمن مسيرة التحدي الصناعي والتقني لامتلاك كل ما يلزم للتفوق على نفسه وغيره.
حيث تشير بعض المراجع إلى أن أول محاولتين كانتا في عشرينيات القرن الماضي، أحدهما أمريكية والأخرى يابانية، ونتج عنهما روبوتين بقدرات تقنية تحاكي التصرفات والسلوكيات البشرية في أبسط صورها.
وتتابعت الاختراعات لمكائن وبرمجيات الذكاء الاصطناعي بتقليد أفضل ما لدى الإنسان من قدرات عقلية، لاختبار فوائدها على مجالات واسعة، تبدأ بالقطاعات الانتاجية والخدمية، وفي التسليح العسكري، والاكتشافات الفضائية، وتنتهي بتطبيقات تقنية فائقة الذكاء الاجتماعي لتدير شئون الإنسان اليومية.
خلل ومخاطر الذكاء الاصطناعي
يواجه الذّكاء الاصطناعيّ خلل، من ناحية انّه بحاجةٍ إلى تطوير تقنيّ مستمرّ وتغيير في البرمجة بما يتناسب والظروف الجديدة، نظراً لأنّ البيانات المدعَّمة لا تكون عادةً مكتملة ولا واسعة وهي بحاجةٍ إلى تعديلاتٍ دائمة.
ومن مخاطرها أن المستخدمين بدأوا يثقون بهذه الأنظمة ويعتبرون أنها مُصدِّرةٌ للحقيقة ومصدرٌ موثوقٌ يُمكن الارتكان إليه.
وهناك من يجعلها وسائل لانتهاك الخصوصية الفردية وللتحكم في الأطباع البشرية باستغلال حلقات المجتمع الأضعف التي تجهل مخاطر التسليم الكامل لذكاء النخبة المستفيدة، والتي تتفنن في امتلاك العقول والنفوس لتسقط طواعية في شرك منصات لا تبقي ولا تذر باستباحتها لحرمة الإنسان وسلبها استقلاليته.
الاستخدام الصحيح للذكاء الاصطناعي
الذكاء الاصطناعيّ أتى ليساعد الإنسان وليس ليقوم بمهامّه، فنحن اليوم لم نصل بعد الى المرحلة التي فيها يمكن للذكاء الاصطناعيّ أن يحلّ مكان الإنسان، وهذا يدلّ على أنّ الانسان ستتغيّر طبيعة عمله، ولكنه لن يبقى من دون عمل، وهذا يعود بنا إلى الحقبة الماضية وتحديداً إلى الثورة الصناعية، حيث تمّ تطوير آلات جاءت لتساعد الإنسان ولا لتمحوه أو تقضي على دوره.
وهو أيضا أداة قويّة يُمكن أن تكون مفيدةً إذا تمّ استخدامها بشكلٍ صحيح ومسؤول، وقد تُسهم بالتالي في تقدّم المجتمع وتحسين جودة حياتنا وزيادة الوعي في ما بيننا، مع التأكّد من التعامل مع تطوّر الذكاء الاصطناعيّ بعنايةٍ وأخلاق ومع مراعاة الخصوصية والأمان وضبط الأنظمة الذكيّة احتراماً للإنسانيّة، فيبقى الإنسان إنساناً، والآلة تبقى آلة.
ويجب أن يستفيد الانسان منها ليخدمَ نفسه أولاً ويستفيد منها على صعيد تطوير ذاته وتحسين حياته، لأن الذكاء الاصطناعيّ يختصر المسافات والأموال ويُسهّل الحياة، والأهم، أنه يُوفّر الوقت.
ومن علامات نضج الإنسان وكمال عقله أخذه بأسباب التطور والتقدم والاستعانة بما يتوصل إليه من اختراعات واكتشافات هداه إليها عقله وتفكيره وتجاربه، مع الاحتفاظ بتلك الجوهرة التي أودعها الله فيه، وأحد أسرار الإعجاز الإلهي في الخلق.
ولذلك فإن التعامل مع التكنولوجيا الحديثة وبرامج الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المتنوعة لا يمكن أن يكون مسوغًا لتعطيل العقل البشري، والركون إلى نتائج تلك التطبيقات، والانسياق وراء ما يصدر عنها من معلومات، والاستسلام للآلات متناسين أن ابتكارها واختراعها ما كان إلا بالعقل والتفكير الذي محله العقل.