تحقيق – نسمة هاني
داخل غرفة العمليات، حيث يختلط صمت الترقب بصوت الأجهزة الطبية، وحيث تتعلق حياة إنسان بمهارة يد الجراح ودقة كل قرار، هناك تفصيلة بسيطة لا يلتفت إليها كثيرون الساعة، ساعة رقمية أو عقارب واضحة، تتصدر الحائط داخل كل غرفة عمليات، لا تتوقف عن الحركة، تراقب الزمن لحظة بلحظة، قد يظن البعض أنها مجرد وسيلة لمعرفة الوقت، لكن الحقيقة أنها واحدة من أهم عناصر الأمان في الجراحة، بل قد تكون في بعض الأحيان سببًا مباشرًا في إنقاذ حياة مريض.
الوقت ليس تفصيلة.. بل حياة تُحسب بالدقيقة
من أول لحظة يدخل فيها المريض غرفة العمليات، يبدأ عدّ الزمن، الفريق الطبي لا يكتفي بمتابعة حالة المريض أو ضغطه أو تنفسه، بل يتابع أيضًا كم دقيقة مرت منذ بدأ التخدير، وكم استغرقت العملية حتى الآن، الوقت في الطب ليس رفاهية، بل جزء من خطة العلاج نفسها.
فمدة التخدير مثلًا يجب أن تكون محسوبة بدقة لتجنّب أي مضاعفات، وإذا استغرقت العملية وقتًا أطول من المتوقع، فذلك يعني احتمال وجود نزيف أو مشكلة تحتاج إلى تدخل فوري، الساعة هنا تكون بمثابة “العين الثالثة” للفريق، تذكّرهم طوال الوقت أن كل دقيقة لها ثمن، وأن الخطأ في التوقيت يمكن أن يغيّر مصير العملية بالكامل.
ساعة الجراحة.. شاهد صامت على كل ما يحدث
داخل غرفة العمليات، الساعة هي الشاهد الصامت الذي لا يخطئ، هي المرجع الذي يعود إليه كل أفراد الفريق، الجراح، طبيب التخدير، التمريض، في كل لحظة حاسمة من خلالها يتم حساب، مدة التخدير بدقة، والوقت الذي استغرقته الجراحة من أول شق الجلد حتى آخر غرزة، وزمن أي طارئ يحدث، مثل توقف القلب أو النزيف المفاجئ.
وفي نهاية العملية، كل ثانية تُسجل في التقرير الطبي، وقت دخول المريض، بدء العملية، نهايتها، ووقت الإفاقة، البيانات هذه ليست مجرد أرقام، لكنها توثيق دقيق يُستخدم بعد ذلك في تحليل الأداء الطبي وتقييم نتائج الجراحة.
كل ثانية تفرق.. ومعايير منظمة الصحة العالمية تؤكد ذلك
منظمة الصحة العالمية “WHO” وضعت ما يُعرف بـ قائمة الأمان الجراحي “Surgical Safety Checklist”، والتي تعتبر الساعة جزءًا أساسيًا فيها، قبل بدء أي عملية، يوقف الفريق الطبي كل شيء لعدة ثوانٍ في إجراء يسمى“Time-Out”، ليتأكدوا من هوية المريض، نوع الجراحة، والمكان الصحيح لإجرائها، وكذلك الوقت المتوقع لاستغراق العملية.
الدراسات التي أُجريت بعد تطبيق هذا الإجراء في مستشفيات كثيرة حول العالم، أثبتت أن الأخطاء الجراحية والمضاعفات الخطيرة انخفضت بنسبة كبيرة، وهذا يوضح أن متابعة الوقت بدقة ليست مجرد نظام إداري، لكنها وسيلة حقيقية لحماية المريض وضمان نجاح العملية.
الساعة الطبية.. مواصفات “المنقذ الصامت”
الساعة التي تُعلّق في غرفة العمليات ليست أي ساعة عادية يتم اختيارها بمواصفات دقيقة جدًا تكون واضحة من كل زاوية داخل الغرفة، وتتحمل الحرارة العالية ومواد التعقيم، وتعمل بدقة شديدة ومتصلة بشبكة توقيت موحدة في المستشفى، وتحتوي على مؤقت إلكتروني “count-up أو count-down” يستخدمه الفريق لحساب زمن الجراحة أو توقيت إعطاء الأدوية.
وفي بعض المستشفيات الحديثة، أصبحت الساعة “ذكية” تعرض الوقت الفعلي وزمن العملية في اللحظة نفسها، ومتّصلة مباشرة بملف المريض لتسجيل كل التفاصيل آليًا.
التوقيت سر النجاح.. والانضباط مفتاح الأمان
لكن وجود الساعة وحده لا يكفي، الأهم هو انضباط الفريق الطبي في استخدام الوقت بوعي كامل، الساعة تمنحهم الإشارة، لكن القرار دائمًا في أيديهم، متى يبدأ العدّ، ومتى يتدخل الطبيب، ومتى ينتهي التخدير.
لذلك، تنظم معظم المستشفيات تدريبات دورية للفريق الطبي على أهمية الوقت، وتُجري مراجعة مستمرة لصلاحية الساعات وأدائها، لأن أي خلل بسيط في العدّ قد يؤدي إلى أخطاء كارثية.
في النهاية.. الساعة ليست مجرد أداة، بل “حارس حياة”
ورغم بساطتها، تبقى الساعة في غرفة العمليات رمزًا للدقة والمسؤولية، هي المراقب الصامت الذي لا يتعب، تذكّر الجراحين بأن الوقت لا يُقاس بالدقائق فقط، بل بالأنفاس، وبفرص النجاة، ففي عالم الجراحة، كل ثانية قد تعني الفرق بين الحياة والموت، لهذا السبب، تظل الساعة في غرفة العمليات ليست مجرد قطعة معدنية على الحائط بل “حارس حياة” لا يتوقف عن العدّ.





