تحقيق – بسملة الجمل
تتسلل الحكايات من خلف الوجوه المرهقة، وجوه تحفظ الحزن عن ظهر قلب وترويه كما لو كان جزءًا من هويتها، يعيش أصحابها في دائرة مظلمة لا تنتهي، لا لأنهم لا يملكون مخرجًا، بل لأنهم وجدوا في الحزن مأوى مريحًا وملاذًا من قسوة العالم، ويتغذى البعض على الألم، ويجد في التعاطف غذاءً لروحه، كأن الحزن يمنحه شرعية الوجود، يتحدث عن جراحه بفخر، وكأنه يعلقها أوسمة على صدره، بينما يهرب من فكرة الشفاء لأنها ببساطة تسلبه “دوره البطولي” في الحياة.
كذلك يتقن آخرون فن الشكوى، ويتعاملون مع كل أزمة كأنها نهاية العالم، ويروجون لحكاياتهم الحزينة على المقربين، ثم على صفحات السوشيال ميديا، حتى صار “دور الضحية” عملة يتبادلونها مقابل الاهتمام، ويبحث كثيرون عن من يسمعهم لا عن من ينقذهم، ويغرقون في قصصهم دون محاولة العوم للخروج، يتحول الحزن عند البعض إلى سلاح ناعم يبرر الفشل، ويغطي العجز، ويجعلهم دائمًا في موضع “الضعيف النبيل” الذي لا يلام.
كما يخلق المجتمع حول هؤلاء دائرة من التعاطف الزائف، فيشعرون أنهم محبوبون لأنهم متألمون، لا لأنهم أقوياء أو ناجحون، وهنا يتحول الألم من تجربة إنسانية إلى أسلوب حياة، ومن جرح عابر إلى عنوان دائم، ويظهر في كل بيت أو عمل أو شارع شخص يعيش على الدموع القديمة، يستدعيها متى شاء، ويتحدث عنها كأنها حدثت بالأمس، يرفض أن يشفى، لأن الشفاء يعني فقدان الدور الذي يعطيه معنى.
ويمتد السؤال بين الناس هل هؤلاء ضحايا حقًا أم ممثلون بارعون، وهل نحن مجتمع يشجع على القوة أم على البكاء، بين من يرى في الحزن طاقة دفء، ومن يجده عبئًا لا يحتمل، يبقى الحزن بطلًا متخفيًا في حياة كثيرين، يمنحهم قوة مزيفة وراحة قصيرة، لكنه يسلبهم الحياة الحقيقية.
الطب النفسي يكشف سر التعلق بدور الضحية
قال الدكتور محمد الوصيفي أستاذ الطب النفسي بكلية الطب بجامعة المنصورة، أن بعض الأشخاص يواجهون أزمات الحياة بطريقة مختلفة، إذ لا يقاومونها بل يحتضنونها، وكأنهم وجدوا في الحزن ملاذًا نفسيًا يحميهم من مواجهة الحقيقة، موضحًا أن هؤلاء لا يبحثون عن الحلول، بل عن التعاطف والاهتمام، فيستمدون قوتهم من الحزن، ويجدون في الألم معنى لوجودهم، حتى يصبح الحزن بالنسبة لهم وسيلة للبقاء لا حالة عابرة.

الدكتور النفسي محمد الوصيفي
كذلك أوضح الدكتور النفسي أن جذور هذه الشخصية تتكون غالبًا منذ الطفولة، حين يهمل الطفل أو يعامل بصرامة أو يحرم من الدعم العاطفي، فيبدأ في إدراك أن الاهتمام لا يأتي إلا عندما يتألم، مشيرًا إلى أن المعاناة تتحول مع الوقت إلى وسيلة للتواصل، فيعيد الشخص إنتاجها دون وعي كلما احتاج إلى الحب أو الانتباه، حتى تصبح طريقة دائمة في التفكير والشعور يصعب الخروج منها.
وأكد الدكتور محمد الوصيفي إن الشخص الذي يتقمص دور الضحية لا يرى نفسه قادرًا على التغيير، بل يفسر كل ما يحدث بأنه موجه ضده، مضيفًا أن هذا النوع من الأشخاص يردد عبارات مثل “الناس لا تفهمني” و “الحياة ظالمة” و “دائمًا أُخذل”، كذلك يتحدث كثيرًا عن معاناته لكنه نادرًا ما يبحث عن الحلول، وبين أن تمسك هؤلاء بالحزن يمنحهم إحساسًا زائفًا بالهوية والسيطرة، إذ يجدون في دور “المجني عليه” راحة أكبر من تحمل مسؤولية الفعل.
وشرح الدكتور محمد الوصيفي أن ما يعرف في التحليل النفسي بـ “عقلية الضحية” أو Victim Mentality هو آلية دفاعية لا واعية يستخدمها الفرد لتجنب الألم الحقيقي، كألم الفقد أو الرفض أو الفشل، من خلال التمسك بالألم المألوف وهو الحزن المستمر، موضحًا أن العلاقة بين الألم والهوية علاقة معقدة، إذ يتحول الحزن إلى وسيلة للبقاء، وليس عرضًا نفسيًا يحتاج إلى علاج.
وأوضح الدكتور النفسي أن هذه الشخصيات غالبًا ما تعيش في علاقات مليئة بالتناقضات والعواطف المتوترة، إذ تحتاج دومًا إلى من “ينقذها”، وعندما يأتي المنقذ تشعر نحوه بالدين أو الخضوع، كما أشار إلى أن هذا النمط يخلق دوامة متكررة من الألم والتعاطف والخذلان، فيظل الشخص عالقًا في دائرة لا تنتهي من المعاناة.
وأكد “الوصيفي” أن التغيير ممكن، لكنه يبدأ فقط حين يدرك الشخص أنه ليس ضحية بل طرف فاعل في المعادلة، موضحًا أن العلاج النفسي، خصوصًا العلاج المعرفي السلوكي “CBT” أو علاج المعتقدات المبكرة “Schema Therapy”، يساعد على تفكيك الرسائل القديمة التي زرعها الماضي داخله مثل “أنا لا أستحق السعادة” أو “لا أحد يفهمني”، وبين أن استبدال تلك المعتقدات برسائل أكثر نضجًا يتيح للفرد استعادة قوته الحقيقية والبدء من جديد.
واختتم الدكتور محمد الوصيفي حديثه مؤكدًا أن عيش الإنسان في دور الضحية لا يعني بالضرورة أنه ضعيف، بل إنه تعلم في مرحلة ما أن الحزن طريق النجاة، موضحًا أن القوة الحقيقية لا تكمن في إثارة الشفقة، بل في القدرة على النهوض من الحزن دون جمهور يصفق، لأن الشفاء يبدأ حين يختار الإنسان أن يكون بطل قصته لا ضحيتها.
وراء ستار الضحية تختبئ حكاية لم تروى بعد
تتشابك القصص وتتعانق المشاعر، فالحزن لم يكن يومًا عيبًا، لكنه يتحول إلى قيد حين يصبح هوية يعيش بها الإنسان بدلًا من أن يتجاوزها، يعيش البعض داخل دائرة مظلمة صنعوها بأنفسهم، لا لأنهم لا يعرفون طريق الخروج، بل لأن النور يخيفهم أكثر مما يطمئنهم، يختبئون خلف ستار “الضحية”، وكأن الألم شهادة نجاة تمنحهم الحق في البقاء دون محاولة للتغيير.
كذلك يتوقف البعض عند حدود الماضي، يعيدون سرد الجراح ذاتها كل يوم، ويغذونها بالذكريات، حتى تترسخ داخلهم كأنها قدر لا فكاك منه، بينما يختار آخرون المواجهة، يواجهون خوفهم من الحياة، يرممون ما انكسر، ويصنعون من التجربة طاقة جديدة تضيء طريقهم بدلًا من أن تطفئهم.
كما يبحث بعض الناس عن الشفقة لا عن الحل، فيغرقون في الدموع ويعتبرونها وسيلة للبقاء، بينما القلة فقط من يدركون أن الشفاء لا يأتي من الخارج، بل من الداخل، من لحظة يقرر فيها الإنسان أن يتوقف عن رواية قصة ألمه، ويبدأ في كتابة فصول قوته.
ويؤكد خبراء الطب النفسي أن البقاء في “عقلية الضحية” ليس ضعفًا بقدر ما هو هروب من المسؤولية، فحين يتعلم الإنسان أن الحزن يجلب له الاهتمام، يصعب عليه التخلي عنه، لكن الشفاء يبدأ حين يواجه نفسه بالحقيقة لا أحد سينقذني إن لم أبدأ أنا.
ويتحول الحزن في بعض الأحيان إلى وسيلة للتعبير، إلى لغة يفهمها الناس أكثر من الفرح، لكن هذه اللغة تصبح سجناً إذا استمر الإنسان في ترديدها دون توقف، فالتوازن لا يعني إنكار الألم، بل القدرة على تجاوزه، والنضج الحقيقي أن نتعلم من وجعنا دون أن نحمله معنا إلى كل مكان.
ويبقى السؤال الأخير، سؤالًا مفتوحًا لكل من يختبئ وراء دور المظلوم إلى متى ستظل تروي حكايتك القديمة، إلى متى ستنتظر من يفهمك دون أن تفهم نفسك، ربما آن الأوان لتكسر الدائرة وتعيد تعريف نفسك من جديد، لا كضحية، بل كناج، كإنسان قرر أن يعيش، لا أن يظل يحكي عن ما أوجعه.






