تحقيق – مريم ناصر
شهد ملف توطين صناعة الدواء في مصر تطورًا ملحوظًا خلال الفترات الأخيرة، في إطار سعي الدولة لتقليل فاتورة الاستيراد، وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الأدوية الحيوية، وجاء الإعلان عن إنتاج دواء محلي جديد لعلاج سرطان الرئة، بتكلفة تقل كثيرًا عن المستورد، ليؤكد جدية الدولة في دعم صناعة الدواء المصري.
وتم الكشف خلال مؤتمر صحفي حول توطين صناعة الدواء في مصر عن طرح دواء جديد لسرطان الرئة تم إنتاجه محليًا، ليكون متاحًا على نفقة الدولة، موضحًا أن سعر الدواء المستورد يصل إلى نحو «200 ألف جنيه شهريًا»، بينما لا يتجاوز سعر الدواء المصري «19 ألف جنيه»، وهو ما يمثل فارقًا ضخمًا يخفف العبء عن المريض والدولة معًا.
ويأتي هذا في وقت تؤكد فيه الجهات المعنية أن مصر تمضي بثبات نحو توطين صناعة الدواء محليًا، خاصة في ظل امتلاكها قاعدة صناعية قوية تضم عددًا كبيرًا من الشركات المحلية والأجنبية، ما يمهد لتحقيق الاكتفاء الذاتي تدريجيًا، وتقليل الاعتماد على الاستيراد في الأدوية الحيوية.
الدكتور محمود فؤاد: مصر تخطو بثبات نحو توطين صناعة الدواء وتقليل فاتورة الاستيراد
أكد الدكتور “محمود فؤاد” المدير التنفيذي لجمعية الحق في الدواء، أن مصر بدأت منذ خمس سنوات تتخذ خطوات جادة نحو توطين صناعة الدواء داخل البلاد، موضحًا أن السوق المحلي استطاع تحقيق اكتفاء ذاتي بنسبة 85% من الأدوية المنتجة في المصانع المحلية المصرية.

الدكتور “محمود فؤاد” المدير التنفيذي لجمعية الحق في الدواء
وأشاد الدكتور “فؤاد” أن هناك مجموعة من الأدوية المهمة ما زالت تمثل تحديًا في التصنيع المحلي، وتشمل: «أدوية الأورام، والأمراض المناعية، والهرمونات، والأنسولين، وأدوية ضمور العضلات، وأدوية الهيموفيليا»، وهذه الأنواع يتم استيرادها من الخارج، مما يرفع بشكل كبير فاتورة الاستيراد لتصل إلى ما يقرب من 6 مليارات دولار سنويًا، لتغطية احتياجات السوق.
الدواء المصري يقترب من الاكتفاء الكامل.. وتحديات محدودة ما زالت قائمة في بعض الأنواع
أشار المدير التنفيذي لجمعية الحق في الدواء، إلى أنه بعد جائحة كوفيد-19، أدرك العالم ضرورة توطين صناعة الدواء في كل دولة، خاصة الدول العربية تحسبًا لحدوث أوبئة، أو أزمات مستقبلية، وذكر بأن مصر بدأت تصنيع الدواء منذ عام 1939، مما يجعلها واحدة من أقدم الدول في مجال صناعة الدواء.
وأضاف “فؤاد” أن مصر تمتلك بيئة صناعية دوائية ضخمة، حيث يوجد أكثر من 180 مصنعًا مملوكًا لشركات محلية، بالإضافة إلى نحو ألف شركة تجارية أخرى، إلى جانب 22 شركة أجنبية و6 شركات قطاع أعمال منتجة، ما يعكس قوة البنية الصناعية في هذا القطاع الحيوي.
وأوضح أن العالم بعد جائحة كورونا أدرك أهمية الاستعداد لأي أزمات صحية أو سياسية مثل «الأوبئة أو الحروب»، ولهذا بدأت مصر تنفيذ مشروعات كبرى في تصنيع الأدوية، ومن أبرز هذه المشروعات اختيار مؤسسة الرئاسة لشركة إسبانية كبرى تعد الأولى عالميًا في صناعة مشتقات الدم، والتي بدأت عملها فعليًا في مصر.
وتعمل هذه الشركة على توفير الألبومين لمرضى الكبد، إلى جانب إنتاج أدوية مهمة مثل «فاكتور 8 و9 و10» لعلاج مرضى الهيموفيليا، وأمراض الدم المختلفة مثل «اللوكيميا»، وتدار هذه المشاريع ضمن منظومة استثمارية طبية كبرى تضم شركات مصرية، وخاصة، وأجنبية.
استثمارات وشراكات ضخمة لتعزيز صناعة الدواء في مصر
أشار الدكتور “محمود فؤاد” إلى أن بعض الشركات تعمل على إنتاج الأدوية الجنيسة «Generics»، وهي الأدوية البديلة التي تحمل نفس تركيبة الأدوية الأصلية «البراند» ولكن بسعر أقل بكثير، وتصل تكلفة الدواء الجنيس إلى حوالي 60% من سعر الدواء الأصلي فقط.
وضرب مثالًا على ذلك بأن دواء سرطان الرئة مثلًا قد يباع في الخارج بسعر 30 ألف جنيه، بينما يمكن إنتاجه في مصر بنفس الجودة بسعر يتراوح بين 5 إلى 10 آلاف جنيه فقط وهو فرق كبير جدًا، ومع ذلك لا يمكن تصدير هذه الأدوية بسبب حقوق الملكية الفكرية للشركات الأجنبية صاحبة التركيبة الأصلية.
وبين “فؤاد” أن تلك الشركات الأجنبية تنفق كثيرًا على الأبحاث العلمية والتطوير، بينما تقوم الدول الأخرى مثل مصر بإنتاج النسخ الجنيسة بترخيص رسمي منها، وهو ما يساعد على توفير الدواء بأسعار أقل، ويقلل الفجوة بين الدول المتقدمة، والدول محدودة الدخل في الحصول على الدواء الحديث.
مدينة الدواء المصرية.. خطوة استراتيجية لتحقيق الأمن والاكتفاء الذاتي من الدواء
وأضاف المدير التنفيذي لجمعيه الحق في الدواء، أن مصر وضعت خطوات مهمة في هذا الاتجاه من خلال إنشاء مدينة الدواء المصرية «Egypt Pharma»، التي تعد إنجازًا كبيرًا يضم العديد من الشركات، ويعمل بنظام الشباك الواحد الذي يسهل إجراءات الاستثمار والتصنيع، ومن المتوقع أن تصبح المدينة خلال السنوات القادمة رصيدًا صناعيًا ضخمًا لمصر في مجال الدواء.
وأكد “فؤاد” على أن صناعة الدواء تحتاج إلى وقت كبير جدًا، وتكنولوجيا متقدمة، خاصة في مجال «الأدوية البيولوجية»، وأن الأزمة التي شهدتها مصر في عامي 2022-2023، بسبب عدم استقرار سعر الصرف، أثرت على الصناعة، إذ تعتمد نحو 75% من المواد الخام على الاستيراد.
واختتم الدكتور “محمود فؤاد” حديثه، بالتأكيد على أن مع ارتفاع الدولار ترتفع أسعار الأدوية، ومن هنا تحدث أزمة حقيقية، وهذا ما دفع مصر إلى التحرك نحو الإنتاج المحلي لتقليل الاستيراد، وتحقيق التوازن الدوائي، والأمن الصحي، وتوجيه الاستثمارات إلى قطاعات إنتاجية تحقق الاكتفاء الذاتي، وتقليل الاعتماد على الخارج.
وفالنهاية، أصبح الاعتماد على التصنيع المحلي للدواء لم يعد خيارًا، ولكنه ضرورة مهمة ليس فقط لتقليل فاتورة الاستيراد، بل لضمان الأمن الصحي للمواطنين، وتحقيق الاكتفاء الذاتي الدوائي الكامل في السنوات المقبلة.






