تحقيق – سوزان الجمال
يعد طقوس احتفالية شم النسيم يتجاوز عمرها 4700 عاماً، هي تلك التي يمارسها المصريون احتفاءً بقدوم شم النسيم؛ إذ بدأ الإحتفال به رسمياً منذ نهاية الأسرة الثالثة في عام 2700 قبل الميلاد، ليصبح بذلك العيد الشعبي الأقدم في مصر، وربما في التاريخ الإنساني بأكملة.
ومن المفارقات، أن عيد شم النسيم إجتمع عليه المصريون على إختلاف معتقداتهم، فهو يصادف عيد القيامة لدي المسيحيين المصريين، وله علاقة قديمة بعيد الفصح اليهودي، ولا يزال يحتفل به الجميع في مصر حتى يومنا هذا.
ويتميز عيد شم النسيم بطقسة المميز، الذى ما زالت العديد من القري في الريف تحتفظ بطباعة حتى اليوم، وهي العادات التي توارثوها من مصر القديمة، بعيداً عن طقوس الطعام التى تتزين بها موائد المصريين في هذا اليوم.
ومن العادات الشعبية لهذا العيد، والتي سجلها المصري القديم فى نقوشة على جدران المقابر والمعابد، أن يخرج الناس في جماعات إلى الحدائق والحقول للتريض، والأستمتاع بالزهور، حاملين صنوف الطعام والشراب التى ارتبطت بهذه المناسبة دون غيرها.
وقالت أمل أحمد: ” نحن نقوم بصنع الفطير ليلاً والاستيقاظ باكراً وتزيين الشوارع بالنباتات العطرية، كذلك تبرز عادات تناول البصل وتكسير ثمارة على مداخل المنازل وسكب كمية من المياة عليه، بالإضافة إلى أنه تقوم بعض الأسر بتعليق البصل فوق “أسرّة نومهم” ثم يشمونة في الصباح الباكر، ويعلقون حزماً منه على أبواب منازلهم اعتقاداً منهم بأنه يطرد الأمراض”.
أوضحت ناهد السبيلي: ” أنهم يقومون من الصبح الباكر، للبدء في التجهيزات مثل سلق البيض وتلوينة، ثم تجهيز “الفطير”، ثم شراء السمك المملح “الفسيخ”، ثم يذهبون مع العائلة إلى الحدائق العامة إلى قضاء اليوم فيه مع جميع أفراد العائلة والاقارب والاصدقاء”.
وأشارت كريمة محمد: “إلى أن الإحتفال بعيد شم النسيم، هو مثل الإحتفال بعيد الفطر المبارك وعيد الأضحى المبارك، لأن جميع الأطياف تكون سعداء من كبار إلى أطفال فيه، حيث تكون مظاهر الإحتفال فيه هي تلوين “البيضاء، وأكل الترمس، وأكد الفسيخ والرنجة”
وقالت سحر محمد: “من الطقوس المتوارثة في بعض قري ريف مصر، أن يقوم الأطفال بتعليق حلقات فروع شجرة الصفصاف على أبواب المنازل، بالإضافة لقيامهم بتزيين الشوارع بأعواد من أشجار الصفصاف، والنباتات العطرية كالنعناع والريحان، فيما تتشارك العائلات فى صنع “الفطير” ليلاً ليتم تناولة في الصباح مع “البيض” الذى يتم تلوينة”.
وأضافت سحر محمد: “إلى أن تحرص الأسر في والريف على الاستيقاظ باكراً، واستنشاق الندي للاعتقاد بأنه يزيل “كسل” الأيام الماضية، ويمنحهم نشاطاً حتى عيد شم النسيم التالي، ومن لم يفعل ذلك سوف يكون مصيرة الكسل لمدة عام مقبل”.
وقال مجدى شاكر، كبير الأثريين بوزارة الآثار، إن شم النسيم عيد مصري الهوي والهوية، وبحسب الوثائق يعود تاريخ الإحتفال به إلى أكثر من 4000 سنة، والمصرى القديم كان يقسم الفصول إلى 3 فصول، منها “شمو”، وهو موسم الحصاد، وكان يتم الإحتفال به فيما يوافق شهر مارس، ولما دخلت الديانة المسيحية تم تأجيله إلى ما بعد عيد القيامة مباشرة، بعد إفطار المسيحيين.
أضاف شاكر: “أن المصريين يأكلون الأكلات الخمس المقدسة، وهي الخس والفسيخ والملانة والبصل والبيض، وجميعها تحمل دلالات دينية، مثلاً البيض كان يرتبط باعتقاد المصري القديم بأن الكون عبارة عن بيضة، وفي ليلة شم النسيم كان المصري يكتب أمنياتة على البيض ويعلقة في سلال على أغصان الشجر وعندما تشرق الشمس تظهر على البيض المعلق”.
كما كانوا يعلقون البيض على بيوتهم لمنع دخول الأرواح الشريرة، والمرأة تصنع عقوداً من زهور اللوتس لتهديها لزوجها، وهو ما أُخذ عنه الأشكال المصنوعة من السعف عند الأقباط، ثم يخرج المصريون إلى المتنزهات ويأكلون السمك المملح الذى كان لديهم منه كميات كبيرة، كما يأكلون الملانة “الحمص” ، والخس الذى كان نباتاً مقدساً.
أصل التسمية
أرتبطت تسمية “شم النسيم”، بالتقويم الزراعي المصري، فكلمة “شمو” تعني فصل الصيف، وفقًا لما أورده الدكتور عبد الحليم نور الدين، في كتابة اللغة المصرية القديمة.
وأشار الدكتور عبد الحليم نور في كتابة أيضًا، إلى أن المصري القديم قسّم العام إلى 3 فصول ترتبط بالدورة الزراعية؛ حيث تبدأ رأس السنة المصرية مع فصل الفيضان “أخت” الذي يوافق ظهور نجم الشعري اليمانية، الذي يحدث في يوم 19 يوليو بتقويمنا الحالي.
ثم يأتي فصل بذر البذور “برت”، الذي يبدأ في شهر نوفمبر، ويوافق ظهور الأرض بعد انحصار الفيضان، وفصل الصيف “شمو” الذي يبدأ في شهر مارس وينتهي في يوليو.
وتعني كلمة “شمو” أيضاً “الحصاد”، بحسب عالم المصريات وليم نظير، وقد رمز له بالعلامة الهيروغليفية “عنخ”، أي أنه فصل الحياة، وجاءت التسمية الحالية، من تحريف “شمو” إلى “شم” عبر السنين، وأضيفت إليها النسيم، في إشارة إلى اعتدال الجو، وقدوم الربيع.
وكان عيد شم النسيم وثيق الصلة في وجدان المصريين القدماء ببداية الخلق؛ إذ كانت لديهم في معتقداتهم الدينية نظريات يفسرون من خلالها كيف نشأ الكون، ومن بين تلك النظريات، أن الكون بأكمله “انبثق من بيضة كبيرة”، لذا فإن لاحتواء مائدة أعياد شم النسيم على البيض دلالة دينية مهمة.
وكان لجمال الطبيعة تعبيرا آخر عن فلسفة بدء الخلق التي طغت على عيد شم النسيم، وكان سرور المصريين بالغًا بحلولة، إذ تعم الاحتفالات الشعبية والرسمية، ويشترك فيه الفرعون والوزراء والعظماء، فهو العيد الذي تبعث فيه الحياة ويتجدد النبات وينشط الحيوان لتجديد النوع، أي أنه بمثابة الخلق الجديد.
ويخرج الناس أفواجاً وجماعات إلى الحدائق والمتنزهات والحقول للتريض، ويستنشقون أريج الزهر ويستمتعون بالورود والرياحين، تاركين وراءهم متاعب الحياة وهمومها.
مظاهر الإحتفال بشم النسيم
وفي كتابة “الثروة النباتية عند قدماء المصريين”، يصف عالم المصريات وليم نظير، مظاهر إحتفال المصريين بقدوم شم النسيم؛ قائلا: “إعتاد القوم أن يستيقظوا مبكرين لتحفيز الهمم والنشاط، ورمزا لأولئك الذين أطاعوا الإله “حتحور”، فيخرجوا عند الفجر حاملين أواني البيرة، ولونها يشبه الدم المسفوك، ليسكبوها قبل فتكها وإهلاكها البشر أجمعين”.
وإعتاد المصريون أن يحملوا معهم طعامهم وشرابهم، ويركبوا الزوارق الخفيفة على سطح النيل، ويغنون على أنغام الناي والمزمار ويرقصون ويصفقون ويقضون يومهم في لهو ومرح وسرور.
موائد الطعام
أمَّا أحب الأطعمة التي كانت تمتلئ بها موائد المصريين في ذلك اليوم، فكان البيض والسمك المملح “الفسيخ” والبصل والخس والحمص الأخضر “الملانة” ولحم الأوز المشوي، وكان البيض يرمز لخصب الطيور وموعد ظهور جيل جديد منه، في إشارة لنظرية بدء الخلق، لكنهم كانوا يقللون من أكله بعد فصل الربيع، لأنه بعد هذا الموعد يصبح “غير مقبول”.
كما اعتادوا تجفيف السمك وتمليحة كما هو الحال اليوم، ويذكر “هيرودوت” أن المصريين كانوا يأكلون السمك ويجففون بعضة في الشمس ویأکلونه نیئا، ويحفظون بعضة الآخر في الملح، ولا شك أنه يقصد “الملوحة” أو “الفسيخ”، حيث كانوا يرون أن أكلها مفيد أثناء تغير الفصول.
أما البصل، فقد عثر على بعض النقوش التي تشير إلى تقديسة، إذ كانوا يعلقونة حول أعناقهم بخاصة في عيد “نتر يت”، الذي يقع مع عيد الربيع في “29 كيهك”، فيطوفون حول الدار البيضاء في منف تبرکا به.
ومن العادات الشائعة لدى البعض حينها؛ أن يعلقوا البصل فوق أسرة نومهم ثم يشمونة في الصباح الباكر، ويعلقون حزما منه على أبواب دورهم اعتقادا منهم بأنه يطرد الأمراض.
كما اعتادواً أن يقربواً البصل من الطفل عند ولادتة ليشمة، لما له من رائحة نفاذة، ومن ثم أصبح البصل تقليداً يؤكل مع الفسيخ في عيد شم النسيم.
“الفصح” و”القيامة” و”شم النسيم”
ويعتبر عيد شم النسيم وثيق الصلة بعيد الفصح لدى اليهود، فعندما خرجوا من مصر في عهد النبي موسی علیه السلام، كان ذلك اليوم يصادف موعد إحتفال المصريين ببدء الخلق وأول الربيع، واعتبروه رأسها لسنتهم الدينية.
وقد سموا يوم خروجهم بـ”الفصح”، وهي كلمة عبرية بمعنى “اجتاز” أو “عبر”، واشتقت منها كلمة “البصخة”، في إشارة إلى نجاتهم وتحريرهم عندما ذبحوا خروف الفصح.
وهكذا أتفق عيد الفصح العبري مع عيد الخلق المصري “شم النسيم”، ثم انتقل الفصح بعد ذلك إلى المسيحية لموافقته موعد “قيامة السيد المسيح”، ولما انتشرت المسيحية في مصر أصبح عيدهم يلازم عيد المصريين القدماء، ويقع دائما في يوم الإثنين في اليوم التالىطي لعيد الفصح “القيامة” وقد جاء في كتاب “مختصر الأمة القبطية”.
أما “شم النسيم”، فهو عید وطني قديم اتخذه القبط في أول فصل الربيع، ليكون رأساً لسنتهم المدنية غير الزراعية.