تحقيق – مريم ناصر
تصدرت مصر خلال الفترات الأخيرة المشهد بشكل لافت، لتتحول من مجرد دولة مشاركة في المؤتمرات إلى دولة تقود ولا تقاد، فمن “جامعة الدول العربية”، إلى “منظمة اليونسكو”، وصولًا إلى “منظمة الأيزو”، ليؤكد هذا التقدم أن القاهرة تعود يومًا بعد يوم إلى موقعها الطبيعي كقوة إقليمية، ودولية فاعلة.
ويعكس هذا الحضور رؤية مصرية جديدة، تهدف إلى تعزيز الدور القيادي في الملفات السياسية، والاقتصادية، والثقافية، ومع كل رئاسة أو موقع دولي جديد، تثبت مصر أن عودتها إلى صدارة المشهد العالمي ليست مصادفة، بل نتيجة تخطيط دقيق، وجهود ممنهجة؛ لاستعادة مكانتها المستحقة على الساحة الدولية.
جامعة الدول العربية: من فكرة مصرية إلى قيادة عربية مستمرة
تعود فكرة تأسيس “جامعة الدول العربية” إلى عام 1944، حين دعا رئيس الوزراء المصري “مصطفى النحاس باشا” كلًا من رئيس الوزراء السوري “جميل مردم”، ورئيس الكتلة الوطنية اللبنانية “بشارة الخوري”، إلى القاهرة للتباحث حول إنشاء كيان يجمع الدول العربية، وكانت هذه أول مرة تطرح فيها رسميًا فكرة إقامة جامعة عربية.

الأمين العام أحمد أبو الغيط
وتم الإعلان عن تأسيس “جامعة الدول العربية” رسميًا في 22 مارس عام 1945، لتكون مصر الدولة المؤسسة، والمقر الرئيسي للجامعة في القاهرة، وقادت مصر عبر الجامعة ملفات مصيرية في المنطقة، بدءًا من “القضية الفلسطينية” إلى أزمات “السودان، اليمن، وليبيا”، وما زالت القاهرة حتى اليوم تلعب دورها القيادي من خلال الأمين العام “أحمد أبو الغيط”، الذي يمثل صوت مصر في القمم العربية، ويعكس رؤيتها في حل النزاعات، وتوحيد الصف العربي.
وفي هذا السياق، ثمنت مصر اعتماد مجلس “جامعة الدول العربية” على المستوى الوزاري، خلال دورته الـ164 بالقاهرة، القرار المسمى بـ”الرؤية المشتركة للأمن والتعاون في المنطقة”، وهي مبادرة مصرية – سعودية مشتركة؛ تهدف إلى وضع إطار شامل للأمن الإقليمي يقوم على احترام القانون الدولي، ورفض الهيمنة، والتأكيد على سيادة الدول ووحدة أراضيها.
ويعكس هذا القرار دورًا قياديًا ومسؤولًا لمصر في صياغة قواعد الأمن الإقليمي، ورسالة واضحة بأن استقرار المنطقة لا يتحقق إلا عبر رفض الإكراه وفرض الأمر الواقع، وتعزيز التعاون السياسي والاقتصادي بين الدول العربية.
وكما شهد مقر الأمانة العامة لجامعة “الدول العربية” بالقاهرة انعقاد الدورة العادية الـ116 للمجلس الاقتصادي، والاجتماعي العربي على مستوى الوزراء، وتصدر الملف الفلسطيني جدول الأعمال، وأكد الأمين العام “أحمد أبو الغيط” أهمية دعم صمود المؤسسات الفلسطينية في مواجهة التهديدات الوجودية، مشددًا على أن مهمة الجامعة تتمثل في تمكين المؤسسات الفلسطينية، والحفاظ على مشروع الدولة الفلسطينية كأولوية للمرحلة المقبلة.
منظمة اليونسكو: من التاريخ الثقافي إلى بناء السلام العالمي
تعد منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة المعروفة بـ”اليونسكو”، واحدة من أهم المنصات الدولية التي تبرز فيها القوة الناعمة المصرية، بحكم تاريخ مصر العريق في الثقافة، والتعليم، وحماية التراث الإنساني.

وزير السياحة والآثار الأسبق الدكتور “خالد العناني”
ورسخت “اليونسكو” منذ تأسيسها عام 1945 مكانتها كإحدى أبرز مؤسسات الأمم المتحدة، الهادفة إلى بناء السلام من خلال التعليم، والعلم، والثقافة، وتعمل المنظمة من مقرها في باريس، الذي يضم 194 دولة عضوًا، على تعزيز التنمية المستدامة عبر نشر المعرفة، والتنوع الثقافي، والابتكار العلمي، معتبرة أن الاستثمار في الإنسان هو السبيل، لتحقيق السلام العالمي.
كما تولي المنظمة اهتمامًا خاصًا بحرية التعبير، واستقلال الإعلام، وتقود برامج لحماية الصحفيين، وتعمل على تقليص الفجوة الرقمية، وتعزيز التفكير النقدي لمواجهة التضليل في العصر الرقمي.
وتأتي مبادرة التراث العالمي وهي من أبرز مبادرات المنظمة، التي أطلقت عام 1972، لحماية التراث الثقافي والطبيعي الإنساني، والتي تضم اليوم أكثر من 1200 موقعًا على مستوى العالم، وتحتفي المنظمة أيضًا بعدد من الأيام الدولية مثل “اليوم العالمي للغة العربية”، و”اليوم العالمي للمعلمين، والتراث السمعي البصري”، تأكيدًا على رسالتها في صون التنوع الثقافي، ومكافحة التطرف والتهميش.
أما في مصر فالعلاقة مع “اليونسكو” قديمة وممتدة منذ تأسيس المنظمة عام 1945، إذ كانت القاهرة من أوائل الدول المؤسسة واستضافت مكتبًا إقليميًا أصبح مركزًا للتنسيق في العالمين العربي والإفريقي، وقد تجسد التعاون بين “مصر واليونسكو” في أكبر حملة إنقاذ أثري في التاريخ الحديث، لحماية معابد “أبو سمبل، وفيلة” أثناء بناء السد العالي في ستينيات القرن الماضي.
وأسفر التعاون عن تسجيل عدد من المواقع المصرية على قائمة التراث العالمي مثل “الأهرامات، وطيبة، والقاهرة الإسلامية، ودير سانت كاترين”، وامتد التعاون أيضًا إلى مجالات تطوير التعليم، ومحو الأمية الرقمية، وتمكين المرأة، وصون التراث غير المادي مثل فن التحطيب والسيرة الهلالية، ما جعل مصر من أهم الشركاء الثقافيين للمنظمة في المنطقة.
وعاد الدور المصري في اليونسكو بقوة على المستوى القيادي في الفترات الأخيرة، بعد فوز وزير السياحة والآثار الأسبق الدكتور “خالد العناني” بمنصب المدير العام للمنظمة في أكتوبر 2025، في إنجاز يعد الأول من نوعه لمصر والعالم العربي.
ويعكس هذا الفوز مكانة مصر الثقافية والعلمية، وقدرتها على قيادة الحوار العالمي حول حماية التراث، والتعليم، وتعزيز التفاهم بين الشعوب، ويشير هذا التتويج إلى أن مصر لا تعتمد فقط على أدوات القوة السياسية والاقتصادية في علاقاتها الدولية، بل تستخدم أيضًا قوتها الناعمة عبر الثقافة والتعليم والمعرفة، لترسيخ مكانتها كدولة قيادية داخل المنظمات الأممية، ومركز حضاري مؤثر في تشكيل الوعي الإنساني العالمي.
منظمة الأيزو: قيادة مصرية جديدة في ساحة المعايير الدولية
تعد المنظمة الدولية للتوحيد القياسي “الأيزو”، من أهم المؤسسات العالمية المسؤولة عن وضع المعايير، والمواصفات المعترف بها دوليًا؛ لضمان جودة المنتجات، والخدمات حول العالم، وتمثل رئاستها تتويجًا جديدًا لسجل النجاحات المصرية في المحافل الدولية، وتأكيدًا على ثقة المجتمع الدولي بالدور الريادي لمصر في دعم سياسات الجودة، والاستدامة عالميًا.

الدكتور خالد حسن صوفي
وتسلمت مصر رئاسة المنظمة الدولية للتقييس “أيزو” لمدة ثلاث سنوات “2026 – 2028” في إنجاز تاريخي، بعد فوز مشرف، حيث حصلت على تأييد 63 دولة مقابل 49 دولة لمنافسها من الأرجنتين، وبذلك أصبح الدكتور “خالد حسن صوفي” رئيس الهيئة المصرية العامة للمواصفات والجودة، أول عربي وثاني رئيس أفريقي يتولى هذا المنصب منذ تأسيس المنظمة في فبراير عام 1947، ومقرها الرئيسي في “جنيف” بسويسرا.
ويأتي هذا الإنجاز الكبير في إطار توجيهات الرئيس “عبد الفتاح السيسي” الهادفة إلى تحسين جودة حياة المواطن المصري، والارتقاء بمستوى الخدمات، مؤكدًا أن فوز مصر بهذا المنصب يعكس مكانة الكفاءات الوطنية على الساحة الدولية، وقدرتها على تولي مواقع قيادية مؤثرة في مؤسسات العمل العالمي.
وتجسد الثقة المتنامية من المجتمع الدولي في قدرة مصر على الإسهام الفاعل في تطوير البنية التحتية للجودة، تعكس الدور الريادي الذي باتت تلعبه القاهرة في صياغة مستقبل سياسات الجودة والاستدامة، مشيرًا إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد تعزيز التعاون بين المنظمة، والدول الأعضاء لمواكبة التحول الرقمي، والاقتصاد الصديق للبيئة، بما يخدم أهداف التنمية المستدامة، ويتسق مع “رؤية مصر 2030”.
وتعد المنظمة الدولية للتقييس “ISO” الجهة العالمية المسؤولة عن تطوير وإصدار المواصفات القياسية الدولية التي تسهم في تعزيز التجارة الدولية، وتحسين جودة المنتجات، والخدمات، وتضم في عضويتها 174 دولة، وتعمل من خلال أكثر من 800 لجنة فنية تغطي مختلف المجالات الصناعية، والعلمية، والخدمية.
ويجسد هذا الفوز إنجازًا غير مسبوق يضاف إلى سجل النجاحات المصرية في المحافل الدولية، ويؤكد أن القاهرة أصبحت لاعبًا رئيسيًا في منظومة التقييس العالمية، قادرة على الموازنة بين متطلبات التطور الصناعي، والتحول الرقمي، والحفاظ على استدامة الموارد من أجل مستقبل أكثر جودة وشمولًا.
وفالنهاية تثبت التطورات الأخيرة أن مصر عادت بقوة إلى الساحة الدولية، بعدما تحولت من دولة تتابع الأحداث إلى دولة تصنعها وتؤثر في مسارها، فقد نجحت القاهرة في الفترات الأخيرة في أن تكون صوتًا مسموعًا بفضل سياستها المتوازنة، وقدرتها على بناء جسور الثقة والتعاون مع مختلف الدول، مما جعلها شريكًا رئيسيًا في جهود تحقيق السلام، والتنمية في المنطقة والعالم.
وجاء فوز مصر برئاسة منظمات كبرى مثل “اليونسكو”، و”الأيزو”، واستمرار قيادتها لـ”جامعة الدول العربية”، ليؤكد أن هذا الحضور الدولي لم يكن صدفة، بل نتيجة تخطيط ورؤية واضحة من الدولة المصرية بقيادة “الرئيس عبد الفتاح السيسي”، التي تستهدف تعزيز مكانة مصر عالميًا من خلال الدبلوماسية النشطة، والعمل المشترك من أجل مستقبل قائم على التنمية والاستقرار.