تقرير – رحمه السعداوي
يحكمون بأشد قسوة وأقل تقديرًا لمصر، ثم مع أقل الأسباب كانوا يعلنون غضبهم على الأهالي المستضعفين أمام حشد من جنودهم، لكن اللورد كرومر كان أشدهم وأقبحهم، ظهر ذلك في حادثة دنشواي 1906.
حدثت واقعةٍ جرت في 13 من شهر يونيو عام 1906، التي كانت في قرية تدعى دنشواي في محافظة المنوفية، جنوبي الدلتا في مصر، التي نسبة إلى ذلك أطلق عليها “حادثة دنشواي”، حيث دار الأمر بين خمسة ضباط إنجليز وفلاحين مصريين إلى مقتل عدد من المصريين بالنار بينهم امرأة.
ووقع ضابط منهم توفي بضربة شمس، لكن سبب جعل القضية بهذه الأهمية والذي خلدها تاريخيًا هو رد الفعل الغاشم للسلطة الإنجليزية، التي كان قد مضى ربع قرنٍ على احتلالها لمصر، على رأسها اللورد كرومر والطريقة المعقدة شديدة الأذى في تنفيذ الأحكام.
ونتج عن هذا التغاشم قيام التفاعلات التي أدت إلى عزل كرومر، تأجيج الغضب الشعبي ضد المحتل وكل من يتعاون معه، واستمر رد الفعل على هذا التصرف إلى أن أُرسلت كتيبة إنجليزية من 150 فردًا، من القاهرة إلى الإسكندرية وفي الطريق نزلوا للاستراحة.
بدأت الواقعة عندما سأل خمسة ضباطٍ عبدالمجيد سلطان كبير ملاكي المنطقة عن مكانٍ لصيد الحمام، فدلهم على دنشواي المشهورة بكثرة حمامها، بالطبع كان الحمام لالتقاط الحب يتجمع عند أجران الغلال وهي أبراج مخروطية من اللبن تُخزّن فيها غلال الموسم.
وكما ذكر في مجموعة مصادر متعددةٍ أن إمام مسجد القرية حسن محفوظ أقبل عليهم صائحًا لكي لا يحترق التبن في الأجران، يأخذوا حذرهم لوجود النساء والأولاد، لكنهم لم يفهموا ما يقول، ثم أطلق أحد الضباط عيارًا أخطأ هدفه وأصاب سيدة تدعى “أم صابر” زوجة مؤذن المسجد.
ووقعت عن الجرن والتقطت أنفاسها الأخيرة في الحال، واشتعلت النار في التبن، فهجم الإمام على الضابط يسلب البندقية منهُ ويستغيث بأهل القرية صائحًا يقول: “الخواجة قتل المرأة وحرق الجرن، الخواجة قتل المرأة وحرق الجرن”، فتجمع الأهالي فيما هرع بقية الضباط لنجدة زميلهم.
ووصلت أخبار الحادث إلى العمدة فأرسل في الحال شيخ الخفر “الغفر” وخفيرين لإنقاذ الضباط، وفي خضم الهلع من الطرفين توهم الضباط بأن الخفراء سيفتكون بهم فأطلقوا النار وقتلوا شيخ الخفر، ثار الأهالي ضدهم أكثر، حملوا على ثلاثة ضباط بالطوب والعصي قبل ما يخلصهم الخفراء.
كان مصير الآخران منهم الكابتن بول قائد الكتيبة وطبيبها هربًا نحو ثمانية كيلومترات في الحر الشديد، إلى أن وصلا قرية سرسنا، حيث وقع الكابتن طريح الأرض وما لبث أن قضى نحبه من ضربة شمس، ذلك ما ذكره تقرير الطبيب الشرعي الإنجليزي، أما الطبيب فركض إلى المعسكر.
واستمر نداءه للجند فأسرعوا إلى الكابتن فوجدوه تلقى أنفاسه الأخيرة، تجمع حوله بعض أهالي سرسنا الذين فروا لما رأوهم، فاقتفى الإنجليز أثرهم وقبضوا عليهم إلا واحدًا هرب قبل أن يُشدّ وثاقه واختبأ في فجوة طاحونة تحت الأرض فلحقه الإنجليز وقتلوه شر قتلة.
وورد في رواية أخرى أنهم رأوا شابًا محنيًا على الكابتن يريد إسعافه بشربة ماءٍ فأقبلوا عليه بالحراب طعناً حتى قضى نحبه، وأمام كل هذا كان رد الفعل الإنجليزي وبالأخص المعتمد البريطاني اللورد كرومر في منتهى القسوة والسرعة، فقد أقام محكمةً عرفيةً عقدت أولى جلساتها في 24 من شهر يونيو.
وذلك بعد تحقيقٍ استمر 11 يومًا فقط، قدَّم 92 قرويًا للمحاكمة بتهمة القتل عمدًا، ثم نسبت التهمة لـ36 منهم في 28 من شهر يونيو 1906 ذلك خلال أربعة أيامٍ، حيث حُكم بإعدام الإمام حسن محفوظ وثلاثة قرويين وآخرون، تراوحت أحكامهم بين الأشغال الشاقة المؤبدة لـ”محمد عبد النبي مؤذن القرية زوج أم صابر المقتولة، وآخر”.
وصدر حكم بين 15 سنة و7 سنوات وسنة وآخرون بالجلد خمسين جلدةً، مع أن هيئة الدفاع ترافعت بأن تصرف الفلاحين كان عفويًا، حيث كان رد فعل على ظروف الحادثة، تقرر تنفيذ الأحكام ثاني يوم صدورها دون طعن وفي قرية دنشواي نفسها وأمام الأهالي، تألفت المحكمة من بطرس غالي وزير الحقانية بالإنابة رئيسًا.
وتواجد بالتشكيل عضوية أحمد فتحي زغلول باشا الأخ الأصغر لـ”سعد زغلول”، عضوين إنجليزيين، كان مدّعي النيابة “إبراهيم الهلباوي”، لم تجر محاكمة لقتلة المغدورين الثلاثة من المصريين، للحق نجح الهلباوي ليس فقط بتبرئة ضباط الاحتلال وجنوده من القتل وحرق الأجران، إنما أيضًا في إثبات أنهم كانوا ضحايا وأن أهالي دنشواي هم المذنبون.
واستخدم فصاحته ومواهبه، ليثبت أن حريق جرن الغلال كان متعمدًا من قبل الفلاحين لإخفاء معالم جريمتهم التي أرادوا منها التعدي على الضباط، وفقًا لما نشرته “الأهرام” ادّعى الهلباوي في مرافعته أن: “الاحتلال الإنجليزي لمصر حرر المواطن المصري وجعله يترقي”.
واستكمل الهلباوي مرافعته: “ويعرف مبادئ الواجبات الاجتماعية والحقوق المدنية، هؤلاء الضباط الإنجليز كانوا يصيدون الحمام في دنشواي ليس طمعًا في لحم أو دجاج، ولو فعل الجيش الإنجليزي ذلك لكنت خجلًا من أن أقف الآن أدافع عنهم، هؤلاء السفلة وأدنياء النفوس من أهالي دنشواي قابلوا الأخلاق الكريمة للضباط الإنجليز بالعصي والنبابيت”.
واختتم الهلباوي: “وأساؤوا ظن المحتلين بالمصريين بعد أن مضى على الإنجليز بيننا خمسةٌ وعشرون عامًا، نحن معهم في إخلاص واستقامة”، جرى تنفيذ الأحكام بهمجيةٍ تماثل سوية العسف الذي جرى في المحكمة، فقد نفذت في القرية على مرأى ومسمع من الأهالي الذين ما خرجوا إلا دفاعًا عن أرواحهم وأملاكهم.
وتوالت الأحدث وكان مصير إبراهيم بك الهلباوي هو تغير عليه الناس، حيث لقبوه جلاد دنشواي وقاطعه كثير منهم، فلما شعر بفداحة سقطته قرر أن يدافع عن الورداني بنفسه، بناءً عن مذكراته التي أصدرتها “الهيئة العامة للكتاب” عام 1995 وقف في محاكمة الورداني يقول: “المصريون كلهم كرهوا محاكمة دنشواي”.
وأكمل إبراهيم الهلباوي: “واحتقروا كل من شارك فيها ودافع عن المحتلين الإنكليز، لست هنا في مقام التوجع ولا الدفاع عن نفسي، ومع ذلك أستطيع أن أؤكد أن الشعب المصري يحتقر كل من يدافع عن المحتلين أو يأخذ صفهم أو يبرر جرائمهم، وأؤكد أيضًا أن مواطنينا لم يقدروا الظروف”.
وأنهى خطابه قائلًا: “والتي دفعتني أنا وغيري إلى ذلك، لهذا جئت للدفاع عن الورداني الذي قتل القاضي الذي حكم على أهالي دنشواي بالإعدام، جئت نادمًا أستغفر مواطنينا عما وقعت فيه من أخطاء شنيعة، اللهم إني أستغفرك وأستغفر مواطنينا”.