تحقيق – إيمان أشرف
أصبحنا في زمن توقف العقول وتحكم السلاح في شتى القضايا الحياتية، بدءً من القضايا اليومية الروتينية إلى أشدهم صعوبة وقسوة، وعلى الرغم من إنتشار ظاهرة الطلاق بكثرة في المجتمع، إلا أن يوجد فئة من السيدات حين تجبر على الطلاق ترفضه رفض تام، وعندما يخبرها الزوج بأنه لا يستطيع استكمل حياته بجانبها تتحول الزوجة إلى شيطان، تسعى لتنفيذ أي شيء مهما إن كان، فقط لرجوع زوجها إلى حياتها من جديد.
وفي حين رفض الزوج كل محاولات الزوجة للعودة لها من جديد، يصبح من السهل للمرأة التفكير في القتل، محدثه نفسها: “ولا معايا ولا مع غيري”، دون التفكير في مصيرها بعد تلك الجريمة الشنيعة، ويكمن هنا السؤال “هل تستطيع المرأة الحصول على طليقها مرة أخرى، والعودة لحياتها الطبيعية من جديد وكأن لم يحدث شيء”.
وعند البحث عن أسباب تلك المعتقدات والأفكار التي تدور بداخل رأس المرأة، نجد أن أولى العوامل التي أدت لذلك هي العادات والتقاليد والأهل، حيث تختلف كل بيئة عن الأخرى، على سبيل المثال ترفض المرأة الصعيدية فكرة الطلاق وفقدان المكانة عند زوجها، فتلجأ لتخريب حياته وجعلها دمار عليه وعلى أسرته الجديد، عن طريق الأعمال السفلية والأسحار، وفي بعض الأحيان تصل للقتل.
وعلى الرغم من أن يعد الطلاق بالمدن في الكثير من الأحيان بداية جديدة، لكنه في القرى في أغلب الأحيان يُعد وصمة عار، خاصةً للمرأة، وبين خوف المرأة من فقدان مكانتها، وحديث المجتمع عنها، تتحول الغيرة إلى سجن مغلق، وقد ينتهي بها الأمر إلى سلاح ينهي حياة إنسان، فهل يمكن أن تكون الغيرة بعد الطلاق شعور إنساني طبيعي، أم تتحول لمرض ودافع للجريمة.
أخصائية علم نفس الجريمة توضح كيف يتحول الشعور بالتملك إلى دافع للجريمة
أكدت الطبيبة “منة الله إسماعيل” أخصائية الطب النفسي وعلم نفس الجريمة، أن بعض حالات الطلاق قد تصل بالطرف الآخر إلى رغبة في الانتقام والشعور بتهديد شخصي، خاصة عند الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية، موضحه أن هناك العديد من الجرائم التي ارتكبت بدافع الغيرة المرضية.

الدكتورة منة الله إسماعيل أخصائية الطب النفسي وعلم نفس الجريمة وصحفية الأنباء المصرية
وأوضحت الطبيبة “منة الله” إلى أن الغيرة المرضية تتحول في هذه الحالات إلى شعور بالتملك الكامل، حيث يتعامل الزوج مع شريكته، أو العكس، باعتبارها “ملكية خاصة”، لا يجوز لها الانفصال عنه، مؤكدة أن بعض المرضى نفسيًا قد يرون في قرار الانفصال تهديدًا مباشرًا لذواتهم، ما يدفعهم إلى استخدام العنف، وقد يصل الأمر في النهاية إلى القتل، فقط لمجرد إحساسهم بفقدان السيطرة على الطرف الآخر.
وأشادت بأن الغيرة الطبيعية تختلف تمامًا عن الغيرة المرضية؛ حيث تعد الغيرة الطبيعية هي شعور مرتبط بالخوف على الشريك، كأن يقلق الإنسان إذا شعر أن هناك من قد يسبب له الأذى أو يوجه له نظرة غير مريحة، أما الغيرة المرضية فهي أبعد من ذلك، إذ تتحول إلى رغبة في التملك الكامل، بحيث لا يقبل الطرف الآخر أن يتعامل شريكه مع أي شخص غيره.
وتابعت أن هذا النوع من الغيرة يقوم على السيطرة المطلقة، حيث يسعى الشخص المريض إلى التحكم في حياة شريكه بالكامل وفق رؤيته هو وحده، ويرفض أن يشاركه أحد آخر في أي جانب من تلك الحياة، وبدءًا من ذلك تتحول الغيرة إلى مرض قائم على التملك، لا مجرد شعور طبيعي نابع من الحب أو الخوف.
ونوهت “منة الله إسماعيل” أن هذا النمط من السلوك يرتبط في كثير من الأحيان باضطراب الشخصية النرجسية، حيث تكون لدى صاحبه رغبة دائمة في تملك الشريك بشكل كامل، فتتحول الغيرة لديه إلى غيرة مرضية مفرطة، مشيرة أن هذه الشخصيات غالبًا ما تكون واضحة للعيان، إذ يتسم رد فعلها بالعنف المبالغ فيه، فيتجاوز حدود الموقف الطبيعي، ويأخذ طابعًا حادًا وغير متناسب.
وأضافت أن أصحاب هذا الاضطراب يظهر عليهم الميل إلى السادية والعدوانية بشكل كبير، ويُلاحظ ذلك في انفعالاتهم الحادة وعصبيتهم الشديدة، فضلًا عن ردود أفعالهم المبالغ فيها تجاه مواقف قد لا تستحق مثل هذا التصعيد، وهو ما يجعلهم أكثر عرضة للاندفاع إلى سلوك عنيف يصل في بعض الأحيان إلى الجريمة.
وكشفت “منة الله” أن الغيرة المرضية قد تدفع بعض الأشخاص إلى ارتكاب جريمة القتل، ليس بدافع الغضب اللحظي فحسب، بل كوسيلة لاستعادة شعورهم بالأمان المفقود عند انفصال الشريك أو محاولة الابتعاد، فالشخص المريض يعتبر أن امتلاكه للطرف الآخر يضمن له السيطرة، حتى لو اضطر إلى إنهاء حياته تمامًا، إذ يرى في ذلك الطريقة الوحيدة؛ للحفاظ على هذا التملك.
واختتمت حديثها بأن الأمر لا يرتبط فقط بالعادات والتقاليد في القرى، بل يظهر أيضًا في المدن ومختلف البيئات، حيث يتغذى منذ الطفولة عبر طرق التربية الخاطئة، فحين يربى الطفل على أن كل ما يملكه لا يجوز مشاركته مع غيره، وأن “الشيء له وحده”، يتكون داخله نمط من حب التملك المفرط، قد يتطور لاحقًا إلى غيرة مرضية ورغبة في الانتقام، مؤكدة أن جذور هذه الاضطرابات غالبًا ما تعود إلى التنشئة الأسرية والتربية المبكرة.
الدكتورة إنتصار السعيد توضح تأثير الجرائم الفردية على صورة المطلقات
أوضحت الدكتورة “إنتصار السعيد” المحامية ورئيسة مجلس أمناء مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون، أنه عندما ترتكب بعض النساء جرائم بعد الطلاق، يميل المجتمع في الغالب إلى التعميم بدل النظر لكل حالة كفعل فردي، وذلك ما يؤدي إلى وصم المطلقات باعتبارهن “خطر” أو “غير مستقِرات نفسيًا”.

الدكتورة إنتصار السعيد المحامية ورئيسة مجلس أمناء مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون
وينتج عن ذلك أن صورة المطلقة تتهزّ، ليس بسبب سلوك الأغلبية، ولكن بسبب أفعال استثنائية يتم تضخيمها إعلاميًا، مضيفه أن في الحقيقة نسبة الرجال الذين بيرتكبوا جرائم في حق النساء، سواء في مرحلة الطلاق أو ما بعدها أعلى بكثير من النساء، وبالتالي من باب يجب إعادة صياغة المفاهيم، والتربية التي يتلقاها الجميع، وليس النساء فقط.
وأشارت “إنتصار السعيد” إلى أن التمييز بين الجريمة الفردية والوصم الجماعي يحتاج لوعي عام، بأن الجريمة فعل فردي له دوافع شخصية، ونفسية محددة، والفئة الاجتماعية “المطلقات” متنوعة، وأغلبها يتعامل مع الطلاق كمرحلة طبيعية، وليس نهاية مأساوية.
ولذلك يقع على عاتق الإعلام والمجتمع المدني مسؤولية في إعادة التأكيد، على إن الفرد لا يمثّل جماعة كاملة، كما أن مؤسسات المجتمع المدني تلعب أدوار محورية، من خلال الدعم النفسي والاجتماعي للمطلقة، حتى لا تصبح في عزلة، تؤدي لأفكار انتقامية.
نوهت “إنتصار” لتوفير فرص عمل، تساعد المرأة لبدء حياة جديدة مستقلة، بالإضافة لتنفيذ حملات توعية تقلل من الوصم الاجتماعي، وتركز على الجانب الإيجابي من الطلاق، كفرصة لإعادة بناء الذات.
وتحدثت عن دور التربية والمفاهيم حول الكرامة والتنشئة الاجتماعية للنساء، حيث ترتبط في كثير من المجتمعات العربية الكرامة بالشرف الأسري والزواج، وليس بالاستقلال والقدرة على التعايش، وذلك ما يجعل المجتمع ينظر للطلاق كـ”إهانة” شخصية، وليس حدث طبيعي، وبالتالي بعض النساء في أغلب الأحيان يلجأوا لأفعال عنيفة كوسيلة لاسترداد “الكرامة”.
وكشفت رئيسة المجلس أن إصلاح تلك الفكرة يبدأ من المنزل والمدرسة، بترسيخ مفهوم أن الكرامة في العدل، الحرية، والاحترام المتبادل، وليس في بقاء الزواج بأي ثمن فقط.
كما أن تغيير الثقافة العامة تجاه الطلاق يسير في عدة اتجاهات، منها الإعلام، من خلال تقديم قصص نجاح لنساء ورجال بعد الطلاق، بدل القصص المأساوية، والتعليم، من خلال إدخال مفاهيم عن الصحة النفسية، وإدارة العلاقات من سن صغيرة.
بالإضافة للخطب الدينية والثقافية، من خلال إعادة صياغة رسائل واضحة إن الطلاق ليس عار، لكنه أحد الحلول الشرعية والاجتماعية، والمجتمع المدني، من خلال ورش عمل وجلسات نقاشية تكسر الصمت حول الموضوع.
وبذلك تعد الغيرة بعد الطلاق ليست قدرًا محتومًا يقود إلى العنف أو الجريمة، لكنها تتحول إلى خطر حقيقي حين تختلط بالعادات والتقاليد وضغوط المجتمع، لا نحتاج اليوم قوانين أكثر صرامة فقط، بل وعي مجتمعي يعترف أن الطلاق نهاية علاقة، وليس بداية صراع، فالحياة بعد الانفصال يمكن أن تكون صفحة جديدة للطرفين، إذا اختار كل منهما السلام بدلًا من أن يترك الغيرة تكتب السطر الأخير بالدم.