تحقيق ـ بسملة الجمل
يعد التحرش الجنسي بالأطفال ليس ظاهرة بعيدة أو نادرة كما نظن، بل هو خطر يتسلل في صمت، أبطاله ليسوا دائمًا غرباء في الزوايا المظلمة، بل كثيرًا ما يكونون من “دائرة الأمان” التي نثق بها، حتى أصبح التحرش هو الشبح الصامت في الكثير من البيوت.
كذلك كشفت منظمة اليونيسف أن طفلًا من بين كل 4 أطفال حول العالم بأكمله، يتعرض لشكل من أشكال العنف الجنسي قبل بلوغه سن الـ18، وغالبًا ما لا يكشف الأمر إلا بعد مرور سنوات.
كلمة واحدة قلبت الموازين في المسبح
وفي لحظة بدت عادية داخل مسبح مملوء بالصغار، وقفت طفلة في الثامنة من عمرها على خط المواجهة، ودون أن تدري اقترب منها مدرب السباحة بطريقة أربكتها، وحاول التحدث معها بنبرة لم تعتدها، لكن ما حدث بعدها لم يكن متوقعًا.
قالت بصوت مرتجف وحاسم: “ماما قالت لي ما حدش يلمسني”، كانت الجملة قصيرة، لكنها حملت ما يكفي من القوة لتوقف الزمن لثواني، وتربك من أمامها، صرخة صغيرة، لكنها كانت كافية لتكشف لاحقًا سلسلة من التصرفات المريبة التي مارسها المدرب مع فتيات آخريات.
لم تكن الطفلة تملك سلاحًا سوى وعي زرع فيها منذ الصغر، حين اعتادت أمها أن تهمس لها: “جسمك ده شيء غالي، وممنوع حد يلمسه، حتى لو كان شخص بنحبه”، ربما لم تفهم الطفلة كل معاني تلك الكلمات حينها، لكنها حين وقفت أمام لحظة الخطر، تذكرت أهم ما في الأمر: أن تقول “لا”، بصوت عالي.
ضرورة توسيع التوعية المجتمعية لحماية الأطفال من التحرش
وبالحديث مع بعض المواطنين تنوعت آرائهم، فأشارت “سلمى هاني” إلى أن التوعية المجتمعية ليست كافية لحماية الأطفال من التحرش، مؤكدة أن هناك حاجة ماسة لزيادة الجهود في نشر الوعي بشكل أوسع، سواء من خلال المدارس أو وسائل الإعلام أو حتى في المنازل.
مضيفة أن الكثير من الأسر لا تدرك حجم الخطر أو لا تعرف كيفية التعامل مع هذا الموضوع بشكل جدي، مما يترك الأطفال عرضة للمخاطر، مشيرة إلى أن التوعية المجتمعية يجب أن تتوسع لتشمل جميع الفئات العمرية والمجتمعية، وتعزز من فهم الأطفال لحقوقهم وحدود أجسادهم.
دور الأسرة الأساسي في توعية الأطفال بحماية حدود الجسد
وأكدت “ماجدة النجدي” أن دور الأسرة في تعليم الأطفال حدود الجسد وحمايتهم من التحرش لا يقدر بثمن، موضحة أن الأهل هم أول من يجب أن يتواصلوا مع الأطفال حول هذه المواضيع الحساسة منذ سن مبكرة، لأن التوعية المنزلية تساهم بشكل كبير في بناء وعي الطفل بحقوق جسده.
وأوضحت أن الكثير من الأسر قد تتجنب الحديث عن هذه المواضيع خوفًا من الإحراج، أو من تعريض الطفل لمخاوف غير ضرورية، لكن الواقع يفرض أن هذا النوع من التوعية هو الوقاية الأولى التي قد تمنع أي نوع من الاعتداء.
بناء الثقة بين الأهل والأطفال أساس للكشف عن التجارب المؤلمة
وأوضحت “أميرة علي” أنه في كثير من الأحيان، لا يثق الأطفال في التحدث عن التجارب المؤلمة مثل التحرش مع الأهل، مؤكدة أن هذا يعود إلى الخوف من رد فعل الأهل أو الشعور بالذنب والخجل، خاصةً إذا كان الطفل لا يفهم تمامًا ما حدث له.
كما أشارت إلى أن بعض الأطفال قد يعتقدون أنهم سيتعرضون للعقاب أو أن عائلاتهم ستشعر بالحرج إذا تم الكشف عن مثل هذه التجارب، لذلك أكدت على أهمية بناء علاقة من الثقة والراحة بين الأهل وأطفالهم، حيث يشعر الطفل بالأمان في التحدث عن أي شيء يزعجه.
التحرش المتكرر يهدد الهوية الجنسية والنفسية للطفل
أوضح “جمال فراويز” دكتور الطب النفسي، أن التحرش الجنسي بالأطفال له آثار نفسية عميقة وممتدة، سواء على المدى القريب أو البعيد، وبيّن أن تكرار الاعتداء الجنسي على الطفل، خاصةً إذا تجاوز خمس مرات، قد يؤدي إلى تطور اضطرابات جنسية.

الطبيب النفسي جمال فراويز
ومن أبرزها ما يعرف بـ”الشذوذ الجنسي السلبي”، حيث ينقلب سلوك الطفل ليطلب هو ممارسة أفعال مشابهة، بسبب ما وصفه بشعور “العبودية النفسية” تجاه المعتدي، ما يجعله يبحث لا شعوريًا عن نموذج يمنحه الثقة التي افتقدها، وقد يرفض هويته الذكورية ويبدأ في التماهي مع صورة الأنثى.
وأشار “فراويز” إلى أن بعض الأطفال يحتفظون بما تعرضوا له في طيات ذاكرتهم مدى الحياة دون أن يبوحوا، ما ينعكس لاحقًا على سلوكهم في صورة عنف لفظي أو جسدي تجاه أشخاص لا ذنب لهم، فقط بسبب تشابه في الاسم أو الشكل أو الرائحة أو حتى مكان العمل مع من اعتدى عليهم في الصغر، فيربطون لاشعوريًا بين التجربة المؤلمة وأشخاص أبرياء، وتظل هذه المشاعر تطاردهم مدى الحياة.
علامات نفسية وجسدية تكشف تعرض الطفل للتحرش
وشدد الدكتور “جمال فراويز” على أن أولى العلامات التي قد تنبه الأهل إلى تعرض الطفل للتحرش الجنسي تشمل اضطرابات النوم، وفقدان الشهية أو تغيرات في نمط الأكل، بالإضافة إلى شرود الذهن المتكرر، والخوف غير المبرر من الذهاب إلى أماكن معينة بمفرده، مشيرًا إلى وجود دلائل جسدية تظهر أحيانًا، كوجود آثار غير طبيعية في الملابس الداخلية في حالات التحرش الكامل.
وأكد دكتور الطب النفسي أن المعتدي عادةً ما يلجأ إلى ترهيب الطفل وتهديده، كأن يقول له: “سأقتلك” أو “سأقتل والديك”، مما يزرع الخوف في نفس الطفل ويمنعه من البوح، كما يعاني الطفل من شعور عميق بالذنب، إذ يتساءل في داخله: “لماذا سمحت لأحد أن يلمس جسدي؟”، فيكتم الأمر بداخله حتى يكبر، وقد تظل هذه الصدمة مؤثرة عليه لسنوات طويلة.
التحرش داخل الأسرة الخطر الأقرب الذي لا يراه الأهل
وأشار “فراويز” إلى أن 80% من حالات التحرش بالأطفال تقع داخل الدائرة القريبة من الأسرة، مثل ابن الخال أو العم، الخال أو الخالة، أو حتى السائق أو فراش المدرسة، وغالبًا ما يمنح الأهل ثقتهم الكاملة لهؤلاء الأشخاص دون تحفظ، بل قد لا يصدقون الطفل إذا اشتكى، فيتركونه مع المعتدي، ما يتيح له تكرار الجريمة مرات عدة.
التوعية المبكرة والدعم النفسي أساسان لحماية الطفل من آثار التحرش
وفيما يخص الوقاية، شدد دكتور الطب النفسي على أهمية التوعية المبكرة، مؤكدًا أن الطفل من عمر 3 إلى 4 سنوات يجب أن يتعلم بأسلوب مبسط المفاهيم الأساسية، مثل: “لا تلمسني”، “لا أحد يقترب من جسدي”، “لا أجلس على رجل أحد”، “لا أحد يخلع ملابسي”، مشيرًا إلى ضرورة أن يتم ذلك دون تخويف، لأن الهدف هو بناء الوعي لا إثارة الرعب.
وأوضح “فراويز” أن على الأهل منح الطفل الثقة والاستماع إليه دائمًا، فالعلاقة الصحية داخل الأسرة تشبه الشجرة؛ حيث تمثل الأم الساق التي تغذي الطفل بالعاطفة والأمان، ويكون الأب هو المظلة التي تحمي وتمنح الثقة، لذلك من الضروري أن يتحدث الأهل مع أطفالهم باهتمام، ويشجعوهم على التعبير عما يمرون به في المدرسة أو الحياة اليومية، دون أن يواجهوا نقدًا أو اتهامًا. فالاستماع والتفاهم هما مفتاح ثقة الطفل بوالديه.
مضيفًا أنه في حال تعرض الطفل لتحرش، فإن الخطوة الأولى تكون بتقديم الدعم النفسي الكامل له، دون تخويفه أو توبيخه، بل يجب منحه الثقة وتعليمه أن المعتدي هو الطرف الضعيف، وأنه الطفل الأقوى، بدعم أسرته ومجتمعه، ومن المفيد أحيانًا أن يواجه المعتدي، وأن يشعر الطفل بأنه قادر على استرداد حقه، بما يساعده على استعادة شعوره بالأمان.
وأكد “فراويز” أنه في بعض الحالات، قد يحتاج الطفل إلى استشارة نفسية، خاصةً إذا ظهرت عليه علامات تأثر سلوكي أو ميول غير سوية ناتجة عن الحادث، أما إذا لم تظهر اضطرابات واضحة، فلا حاجة فورية للذهاب إلى الطبيب، مشيرًا إلى أن الطفل تحت سن الثالثة إذا كان ما حدث بسيطًا “soft” قد لا يحتفظ بذاكرة واضحة عن الواقعة، أما من تجاوز هذا السن، خصوصًا في حالات العنف الجسدي “hard”، فغالبًا ما تبقى الذكرى حية ومؤلمة، خصوصًا إذا اقترنت بإصابة جسدية.
دور المدارس في حماية الأطفال من التحرش وتعزيز الوعي الوقائي
وفي ختام حديثه، شدد الدكتور “فراويز” على ضرورة دور المدارس في الحماية، من خلال توعية الأطفال وعدم السماح لهم بالدخول إلى الحمامات بشكل جماعي، ومراقبة أي سلوك غير معتاد من العاملين أو المدرسين، والتصرف الفوري إذا ظهرت مؤشرات مريبة، داعيًا إلى تقديم التوعية بأسلوب مبسط يحمي الطفل من دون تخويفه، ويمنحه الفهم والثقة في قدرته على حماية نفسه.
أهمية التسمية الصحيحة لأجزاء الجسم للوقاية من الاعتداءات الجنسية
أكد الدكتور “محمد الوصيفي” دكتور الطب النفسي وعلاج الإدمان بكلية الطب جامعة المنصورة، على أهمية التوعية المبكرة للأطفال حول حماية أنفسهم من الاعتداءات الجنسية، وبدأ بتوجيه نصائح متكاملة تساعد الأهل على حماية أطفالهم من هذه المخاطر.

الدكتور محمد الوصيفي دكتور الطب النفسي
وأوضح الدكتور “محمد الوصيفي” ضرورة أن يتحدث الأهل مع أطفالهم عن أجزاء الجسم في وقت مبكر جدًا، من خلال استخدام الأسماء الصحيحة لأجزاء الجسم، يكتسب الطفل معرفة حقيقية حول الأجزاء الخاصة به، هذه المعرفة تسهل عليه التحدث عن أي مواقف غير لائقة قد يتعرض لها في المستقبل.
وأشار دكتور الطب النفسي إلى أهمية تعليم الطفل أن بعض أجزاء الجسم تعتبر خاصة وحساسة، حيث يجب أن يفهم الطفل أن هذه الأجزاء ليست مخصصة للرؤية العامة، ويمكن للوالدين أن يشرحوا له أنه في حالات معينة مثل زيارة الطبيب، قد يكون من الضروري أن يكشف عن جسده أثناء الفحص الطبي، ولكن يجب أن يتم ذلك بحضور الوالدين فقط.
وأكد ‘الوصيفي” على ضرورة تعليم الطفل حدود جسده، كما يجب أن يفهم الطفل أن لا أحد له الحق في لمس أعضائه الخاصة أو طلب لمس أعضائه الخاصة أو شخص آخر، مشيرًا إلى أن هذه القاعدة ضرورية لأن العديد من حالات الاعتداء تبدأ عندما يطلب المعتدي من الطفل لمسه، أو لمس شخص آخر.
أسرار الجسد والقدرة على الهروب من المواقف المخيفة
وأوضح دكتور الطب النفسي أن الجناة قد يحاولون إقناع الطفل بالحفاظ على سرية ما حدث، لذلك ينصح الأهل بأن يوضحوا لأطفالهم أن أسرار الجسد ليست أمرًا جيدًا أبدًا، وأنه يجب عليهم إخبار الأهل إذا حاول أي شخص جعلهم يحتفظون بسر معين يتعلق بجسدهم.
كما أشار الدكتور “محمد الوصيفي” إلى ضرورة تعليم الطفل كيفية الخروج من المواقف المخيفة، حيث أن الأطفال في بعض الأحيان يشعرون بعدم الارتياح أو عدم القدرة على قول “لا” للأشخاص، خاصةً إذا كانوا أكبر منهم أو من البالغين، لهذا السبب من المهم تدريب الأطفال على كيفية إيجاد كلمات مفتاحية أو حلول للخروج من مثل هذه المواقف.
الأمان والثقة أساس حماية الطفل من الاعتداءات
وأوضح “الوصيفي” أن الأهل يجب أن يعطوا أطفالهم الأمان إذا أخبروهم بسر متعلق بجسدهم، لأن كثيرًا ما يخشى الأطفال الإبلاغ عن المواقف المخيفة خوفًا من أن يعرضوا أنفسهم أو أهلهم لمشاكل كبيرة، لذلك يجب على الوالدين أن يطمئنوا أطفالهم أنهم لن يعاقبوا أبدًا على الإبلاغ عن مثل هذه الأسرار.
كما أكد دكتور الطب النفسي على ضرورة أن يعرف الطفل أن هذه القواعد تنطبق على الجميع، سواء كانوا أقارب أو غرباء، ويجب على الأهل أن يوضحوا للطفل أن لا أحد يحق له لمس أعضائه الخاصة، حتى لو كان قريبًا أو صديقًا عزيزًا، مشيرًا إلى أن الفهم الواقعي للطفل حول من يحق له لمس جسده، يساعد في منع حالات الاعتداء.
التكنولوجيا سلاح ذو حدين
في زمن أصبحت فيه الشاشات رفيقًا دائمًا للأطفال، لم تعد الألعاب والمقاطع المضحكة على التطبيقات بريئة دائمًا، فالعوالم الرقمية المفتوحة قد تعري الطفل نفسيًا قبل أن يعرف حتى معنى الأذى.
كذلك تشير دراسات حديثة إلى أن غالبية المتحرشين بالأطفال لا يبدؤون بالاقتراب الجسدي، بل من خلف الشاشات، عبر محادثات داخل الألعاب وتطبيقات الترفيه.
كما أن الحل ليس في منع التكنولوجيا، بل في التعايش الذكي معها، حيث يحي عليك أن تعلم طفلك كيف يتصفح العالم الرقمي بأمان، كما يجب عليك أن تجعل من نفسك صديقه في رحلته الإلكترونية، قبل أن تكون رقيبًا عليه، واستخدم أدوات الحماية، لكن لا تنس أن الحوار الدائم هو الجدار الأول للدفاع.
الكلمات سلاح الأمان.. دور الأهل في حماية الأطفال
في عالم مليء بالتحديات، يبقى حماية أطفالنا من مخاطر التحرش وتوعية الأهل الأساس الذي يضمن لهم الأمان، إن التحديات ليست فقط في منع المخاطر، بل في كيفية التفاعل معها بحذر ووعي، من خلال الحوار المستمر، والتوعية المبكرة، والاهتمام بتربية الأطفال على معرفة حقوقهم، يمكننا أن نخلق بيئة أكثر أمانًا لهم.
لا يكفي أن نكون مجرد مراقبين، بل يجب أن نكون شركاء في رحلتهم، نقدم لهم الأدوات اللازمة ليعرفوا كيف يواجهون التهديدات ويعبرون عن أنفسهم بثقة، إن التحصين يبدأ من داخل المنزل، بكلمات بسيطة تزرع فيهم منذ الصغر، وتظل سلاحهم الأول في مواجهة الخطر، فكل كلمة نقولها لهم قد تكون الفرق بين الأمان والضياع.