تحقيق – مريم ناصر
اشتعلت الحرب بين روسيا وأوكرانيا في عام 2022، ولم تكتف شظاياها بقتل البشر وتدمير المدن، بل أصابت رغيف العيش المصري في مقتل، ارتفعت أسعار القمح عالميًا بشكل جنوني، وتراجعت الكميات المتاحة للإستيراد، مما أشعل المخاوف في الشارع المصري، وبدأوا يرددون الكثير من التساؤلات.
برز في تلك اللحظة إقتراح غير تقليدي لم يسمع به كثيرون، “البطاطا ممكن تنتج دقيق”، وهو المحصول الذي نراه يوميًا على عربات الخضار، ويمكن بعد تجفيفه وطحنه، أن يستخدم كبديل جزئي للقمح في صناعة الخبز، وقدم الإقتراح أحد خبراء مركز البحوث الزراعية، مؤكدًا أن مصر تملك ما يكفي من البطاطا، لتدخل في صناعة الدقيق، ما قد يساهم في تخفيف فاتورة الواردات.
ورغم أن الفكرة طرحت في وقت أزمة غذائية حادة، إلا أنها لم تجد طريقها إلى التنفيذ، أو حتى التجربة، فهل كانت البطاطا قادرة فعلاً على إنقاذ الرغيف، ولماذا لم تنفذ الفكرة رغم ما تحمله من جدوى وتفاؤل، هذا ما نحاول رصده وتحليله في موقع «الأنباء المصرية».
الحرب التي أوقفت الخبز.. أوكرانيا تجوع العالم
لم تكن أزمة القمح مجرد أزمة أسعار عابرة، بل كانت اختبارًا حقيقيًا لقدرة العالم، ومصر تحديدًا، على الصمود في وجه التقلبات، فمع إندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، اهتزت واحدة من أهم سلاسل الإمداد الغذائي على مستوى العالم، حيث تعد الدولتان من أكبر مصدري القمح عالميًا.
وبما أن مصر تعتمد بشكل أساسي على الإعتماد الخارجي لتكفي احتياجاتها من القمح، معظمها من روسيا وأوكرانيا، فقد وجد المصريون أنفسهم أمام واقع مقلق، توقف الشحنات، وتقلبات الأسعار، واضطراب الأسواق العالمية، ما دفع الدولة إلى البحث عن بدائل عاجلة، ليس فقط في مصادر الإستيراد، ولكن أيضًا في إمكانية إنتاج بدائل محلية قد تساهم في تخفيف على فكرة الإستيراد.
القمح كسلاح.. حين تحولت الحبوب إلى ورقة ضغط
كشفت الحرب بين روسيا وأوكرانيا في بدايتها عن خلل عميق في المنظومة، خاصة مع إعتماد دول كثيرة، من بينها مصر، على الإستيراد لتوفير احتياجاتها الأساسية من الحبوب، مثلت روسيا وأوكرانيا معًا نحو 30% من صادرات القمح عالميًا، ما جعل توقف الإمدادات منهما يصيب الأسواق العالمية بحالة من القلق.
توقفت الشحنات، وارتفعت أسعار القمح، وبدأت الدول المستوردة، وعلى رأسها مصر، في مواجهة سيناريوهات كارثية، نقص المعروض، وارتفاع التكلفة، وتدهور سلاسل الإمداد، وأظهرت الأزمة هشاشة النظام الغذائي العالمي، وسلطت الضوء على خطورة الإعتماد على الإستيراد في سلعة إستراتيجية كالقمح.
وبالإضافة إلى أن مصر تُعد من أكثر الدول استهلاكًا للخبز، حيث يستهلك المواطنون أكثر من 100 مليار رغيف سنويًا، وتعتمد البلاد على إستيراد ما يزيد عن 60% من احتياجاتها من القمح، فقد تحوّلت الأزمة العالمية إلى خطر مباشر يُهدد الأمن الغذائي.
البطاطا.. بديل واعد للقمح في ظل الأزمة الإقتصادية
يرى الدكتور “عبد المنعم الجندي” الباحث بمركز البحوث الزراعية، أن الإعتماد الكبير على إستيراد القمح، بمعدل يتجاوز 13 إلى 15 مليون طن سنويًا، يفرض ضرورة البحث عن بدائل محلية فعالة، وقد إقترح الدكتور منذ أكثر من 25 عامًا، أن يأتي إستخدام البطاطا كمصدر بديل، لصناعة الدقيق، نظرًا لقدرتها العالية على الإنتاج، وخصائصها الغذائية التي تجعلها صالحة، لصناعة خبز جيد، من حيث الطعم والقوام.
وأوضح “الجندي” أن إستخدام دقيق البطاطا يقليل من الإعتماد على القمح المستورد، وتوفير جزء كبير من موازنة الدولة، أن هناك تجارب عملية ناجحة جرت في محافظات، مثل كفر الشيخ، والوادي الجديد، تم خلالها إنتاج خبز يحتوي على 50% من دقيق البطاطا، وأظهرت هذه التجارب نتائج مشجعة، ما يمهد لتعميم التجربة بشكل أوسع، بشرط توفير الدعم الفني والتقني اللازم.
وأشار إلى إمكانية إستخدام دقيق البطاطا في صناعات غذائية كثيرة ومتعددة، مثل المخبوزات والمعجنات، بنسب متفاوتة، بشرط الإلتزام بالمعايير الفنية، التي تضمن الحفاظ على جودة المنتج وقبوله لدى المستهلكين، بما لا يؤثر سلبًا على خصائصه الغذائية أو التسويقية.
وفي ظل التحديات الاقتصادية، وارتفاع تكلفة إستيراد القمح، تبرز البطاطا كأحد البدائل المبتكرة لتعزيز الأمن الغذائي، إذ تتراوح إنتاجية الفدان الواحد في مصر بين 10 إلى 20 طنًا، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بمحاصيل أخرى تستخدم في التصنيع الغذائي.
وتشير الدراسات أن كيلو البطاطا المسلوقة يمكنه إنتاج نحو 15 رغيفًا من الخبز، مقارنة بـ 12 رغيفًا فقط تقريبًا من كيلو القمح، ما يجعل البطاطا بديلًا اقتصاديًا يوفر تكلفة أقل وجودة أعلى، وبينما تعتمد مصر على إستيراد نحو 60% من القمح رغم زراعة 3.5 مليون فدان، فإن البطاطا رغم محدودية مساحتها، تبرز كحل مبتكر، إذا ما تم التوسع في زراعتها وتصنيعها محليًا لتقليل الإستيراد وتحقيق أمن غذائي مستدام.
كما بين أن استخدام البطاطا لا ينتقص من القيمة الغذائية للخبز، بل قد يعززها في بعض الجوانب، فهي غنية بالنشويات والألياف، وتحتوي على فيتامينات مهمة مثل فيتامين C، إضافة إلى قلة الدهون بها مقارنة بالقمح، مما يجعلها خيارًا صحيًا لبعض الفئات، خاصةً لأولئك الذين يعانون من حساسية القمح.
تجارب عالمية ناجحة في إستخدام البطاطا والبدائل المحلية
ليست مصر الوحيدة التي تبحث عن بدائل للقمح في ظل أزمات الاستيراد العالمية؛ فقد نجحت دول عديدة في دمج محاصيل محلية غير تقليدية في صناعة الدقيق والخبز، ما أسهم في تعزيز الأمن الغذائي، وتقليل الاعتماد على الحبوب المستوردة.
يستخدم في الصين دقيق الكاسافا «القصب الهندي» والبطاطا بكميات كبيرة في تصنيع الخبز والمخبوزات، خصوصًا في المناطق التي تعاني من محدودية الأراضي الزراعية للقمح، وتمكنت الصين من تطوير تقنيات تسمح بإنتاج خبز عالي الجودة من هذه البدائل، مع الحفاظ على القيمة الغذائية والطعم المقبول لدى المستهلكين.
وتعتبر البطاطا مصدرًا مهمًا في الهند لصناعة منتجات غذائية متعددة، بما فيها الخبز، وقد شجعت الحكومة الهندية منذ سنوات الزراعة والتصنيع المحلي للبطاطا، ضمن خططها لتحقيق الأمن الغذائي، وتقليل الإعتماد على القمح المستورد، وتجارب هذه الدول تثبت إمكانية نجاح المشروع، بالإضافة إلى السياسات الحكومية المشجعة لتطوير البنية التحتية، لتصنيع البطاطا وتحويلها إلى دقيق، بجانب توعية المستهلكين، وقبولهم للمنتجات البديلة.
فجوة القمح في مصر.. إنتاج محدود وإستيراد مقلق
رغم أن القمح يُعد المحصول الإستراتيجي الأهم على مائدة المصريين، إلا أنه يمثل تحديًا كبيرًا في ملف الأمن الغذائي، حيث تشير الأرقام الرسمية إلى أن مصر تنتج نحو 56% فقط من احتياجاتها السنوية من القمح محليًا، وتعتمد على الإستيراد لتوفير النسبة المتبقية، ما يجعلها من أكبر مستوردي القمح في العالم، ويُعرضها بشدة لتقلبات الأسواق العالمية، كما حدث خلال أزمة الحرب.
وترجع هذه الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك إلى عدة أسباب متراكمة، أبرزها تقلص الرقعة الزراعية نتيجة التعدي على الأراضي الزراعية الخصبة، إلى جانب نقص موارد المياه، وتأثيرات التغيرات المناخية، فضلًا عن ضعف الحوافز الإقتصادية المقدمة للفلاحين، وهو ما يدفع كثيرين للعزوف عن زراعة القمح، لصالح محاصيل ذات دورة إنتاج أسرع وعائد مادي أكبر.
وتسعى الدولة المصرية إلى تقليص الإعتماد على الإستيراد عبر التوسع في المشروعات الزراعية الكبرى، مثل مشروع “الدلتا الجديدة” و”مستقبل مصر”، واللذين يهدفان إلى إضافة ملايين الأفدنة إلى الرقعة الزراعية، كما أقرت الدولة سياسات، لتوريد القمح بأسعار محفزة للفلاحين، بهدف تشجيعهم على زيادة المساحات المزروعة، مع توفير التقاوي عالية الجودة والدعم الفني اللازم، لتعزيز الإنتاجية.
القمح سلاح سياسي.. والأمن الغذائي في خطر
لم تعد الحبوب مجرد سلعة زراعية، بل تحولت إلى ورقة ضغط تستخدمها الدول الكبرى لتحقيق مكاسب سياسية، فمع الحرب استخدمت روسيا صادرات القمح كورقة تفاوض وضغط على الغرب، بينما تضررت دول مثل مصر التي تعتمد على الإستيراد من طرفي النزاع.
وتسابقت الدول الكبرى على تخزين الحبوب وتقييد تصديرها، لحماية أسواقها الداخلية، ما أدى إلى تفاقم الأزمة في الدول المستوردة، وأصبحت الدول النامية في مواجهة مباشرة مع الجوع، ليس فقط بسبب نقص الإمدادات، ولكن لأن القمح نفسه تحول إلى أداة في صراع عالمي لا دخل لها فيه.
حين تهتز موازين الغذاء في العالم، يصبح البحث عن البدائل ليس مجرد رفاهية، بل أولوية وطنية، ومع إشتعال الحرب بين أكبر مصدري القمح، وجد ملايين المصريين غذائهم اليومي مهدد، وسط هذه التحديات، برزت فكرة محلية غير معتادة، ماذا لو كانت البطاطا حلًّا، ليست بديلاً كاملًا، لكنها قد تفتح بابًا نحو تقليل الفجوة الغذائية، والإعتماد على مواردنا، بدلًا من التعلق بخيوط الأسواق العالمية المتقلبة.