إنفراد – نسمة هاني
في الفترات الأخيرة تصاعدت حدة العنف الأسري في البيوت المصرية بصورة لافتة، وتحولت الخلافات البسيطة بين الأزواج إلى وقائع مأساوية تنتهي أحيانًا بالمستشفيات أو ساحات المحاكم، وأحيانًا أخرى بجريمة تهز الرأي العام، ورغم تكرار الدعوات لتشديد العقوبات وتعديل القوانين، إلا أن كثيرين يرون أن قانون الأحوال الشخصية الحالي أصبح جزءًا من الأزمة، لأنه لا يواكب واقع المجتمع ولا يوفّر حماية فورية للطرف الأضعف داخل الأسرة، سواء كانت المرأة أو الطفل.
في المقابل، يرى آخرون أن المشكلة لا تكمن في نصوص القانون بقدر ما هي في بطء الإجراءات وصعوبة تنفيذ الأحكام، ما يجعل الطرفين يدخلان في دائرة مغلقة من القضايا والعنف المتبادل، لتتحول الأسرة، التي يُفترض أن تكون مكانًا للأمان، إلى ساحة صراع مستمر.
بين القايمة والحضانة.. قوانين تزيد النار اشتعالًا داخل البيوت
تقول نهى محمد:”كل مرة كان يضربني فيها، كنت أروح أعمل محضر، يقولولي استني التحقيق، الموضوع ممكن يقعد شهور، وهو عارف إن مفيش رد فعل سريع، فبيكمل ضرب وإهانة، القانون بيمشي ببطء، وأنا اللي بتعاقب مش هو، لو في ردع حقيقي وسريع، كان زمان الستات عايشة بأمان”.
ويروي”م. س” تجربته قائلًا: “القانون دايمًا بيشوف الراجل غلطان، حتى لو هو اللي اتظلم، أنا اتحرمت من شوفة ولادي سنة بحالها، وكل ما أروح المحكمة يقولولي استنى الدور، طبيعي الواحد يتعب وينهار، لو القانون منصف للطرفين محدش هيفكر يمد إيده ولا يتخانق”.
توضح”ه.ف”، أنا وجوزي اتخانقنا بسبب النفقة، وكل واحد راح لمحامي، سنتين في المحاكم والعيال بينا، لا هم مرتاحين ولا إحنا. كل ده بسبب قانون بيطوّل ويستفز الناس بدل ما يحل”.
تقول ر.م: “القايمة المفروض تكون ضمان لحق الست، بس القانون بيخليها سبب في تهديد واستفزاز بين الاتنين، أول ما تحصل مشكلة تلاقي القايمة طلعت سلاح في المعركة”.
بينما يرى محمد عزت، “القانون بيحط الراجل تحت ضغط، كل حاجة متسجلة عليه، فبيحس إن الجواز بقى معادلة قانونية مش مشاركة إنسانية، وده بيولد عنف ورد فعل”.
وتوضح ه. ع، “القانون بيخلّي الأب ينهار من الانتظار والحرمان، والست تفضل خايفة من سحب الولاد منها، فبيتحول الخلاف الطبيعي لصراع وعداوة، والعيال هما اللي بيدفعوا التمن”.
ويضيف طارق عبدالسلام، “أنا مش ضد الأم، بس قانون الحضانة الحالي بيخلّي الأب يحس إنه مهمّش، وده بيخليه ينفجر، بدل ما القانون يحتوي الموقف بيشعل النار أكتر”.
في النهاية، يظل قانون الأحوال الشخصية مرآة تعكس واقع الأسرة المصرية، فإذا بقي حبيس النصوص القديمة والإجراءات البطيئة، ستظل البيوت ساحة نزاع لا مودة فيها، الإصلاح الحقيقي لا يقتصر على تعديل المواد القانونية فقط، بل في بناء منظومة أسرية عادلة وسريعة في حسم النزاعات، تحفظ الحقوق وتمنع الانفجار قبل وقوعه، فالقانون العادل هو الذي يُصلح، لا الذي يُشعل النار في البيوت.
رأي علم الاجتماع.. الأسباب أعمق من القانون
تقول الدكتورة سامية خضر، أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس، إن العنف الأسري ظاهرة معقدة لا يمكن حصرها في بند قانوني واحد، بل تتشابك فيها العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وتضيف أن الضغوط المعيشية وتدهور التواصل داخل الأسر وضعف شبكات الدعم الاجتماعي كلها عوامل تدفع نحو تصاعد الخلافات وتحولها إلى عنف، خاصة مع غياب الحماية السريعة للضحايا.

الدكتورة سامية خضر أستاذ علم الإجتماع
وتشير الدكتور سامية خضر، إلى أن ضعف الثقة في المؤسسات القضائية أو بطء إجراءاتها يجعل كثيرًا من الضحايا يترددون في الإبلاغ، فيتكرر العنف داخل البيوت بعيدًا عن أعين القانون.
رأي المحامية شيماء المجيدي.. بين التمكين والحماية
أوضحت المحامية شيماء المجيدي أن هناك علاقة وثيقة بين قوانين الأحوال الشخصية وقوانين مكافحة العنف الأسري، مشيرة إلى أن الأولى تنظم الحياة داخل الأسرة وتحدد الحقوق والواجبات، بينما يهدف قانون الحماية من العنف الأسري إلى معالجة أوجه القصور في القوانين القائمة ومعاقبة المعتدين وتوفير الحماية للضحايا.
وأضافت “المجيدي” أن بعض النصوص التمييزية في قوانين الأحوال الشخصية يمكن أن تسهم في تفاقم العنف الأسري، مثل تمكين الرجل من الطلاق بإرادته المنفردة، أو عدم تجريم الاغتصاب الزوجي بشكل صريح، وهو ما يضع المرأة في موقف ضعيف ويمنح مساحة لاستغلالها.

المستشارة شيماء المجيدي
وأكدت أن العلاقة بين القانونين تقوم على محورين أساسيين التمكين والحماية، موضحة أن قوانين الأحوال الشخصية المتوازنة تضمن تمكين المرأة وتعزيز حقوقها داخل الأسرة، بينما تسعى قوانين الحماية من العنف الأسري إلى معاقبة المعتدين وتوفير الحماية للأفراد من مختلف أشكال العنف الجسدي والنفسي والجنسي.
الحضانة.. قانون يثير الجدل ومصلحة الطفل في المنتصف
تُعد قضايا الحضانة والرؤية من أكثر الملفات تعقيدًا في منظومة الأحوال الشخصية، إذ تشهد المحاكم المصرية آلاف الدعاوى سنويًا بسببها، في ظل مطالبات مستمرة بتعديل القانون بما يحقق مصلحة الطفل أولًا، ويُثار الجدل حول ترتيب الحضانة ومدى أحقية كل من الأب أو الأم في رعاية الأبناء بعد الانفصال، فضلًا عن الجوانب المرتبطة بتنفيذ أحكام الرؤية والنفقة، والتي غالبًا ما تتسبب في خلافات ممتدة بين الطرفين، ويرى مختصون أن غياب آليات التنفيذ السريعة، وضعف التنسيق بين الجهات القضائية والاجتماعية، يؤدي إلى تفاقم الأزمة، ويجعل الأطفال في قلب صراع قانوني ونفسي يترك أثره العميق على استقرارهم وسلوكهم في المستقبل.
الأطفال ضحايا بلا صوت
وراء كل قضية عنف أسري، يقف أطفال تائهون بين الخوف والارتباك، يدفعون ثمن الخلافات دون ذنب، فحين تتحول البيوت إلى ساحات نزاع، يصبح الصغار شهودًا على الألم، وتتشكل داخلهم جروح نفسية قد تلازمهم مدى الحياة، تشير دراسات محلية إلى أن أكثر من 60٪ من الأطفال الذين يشهدون عنفًا منزليًا يعانون لاحقًا من اضطرابات سلوكية وعدوانية، أو ميول للعزلة والاكتئاب، مما يجعلهم أكثر عرضة لتكرار نفس أنماط العنف عندما يكبرون، هؤلاء الأطفال، الذين يُفترض أن يكونوا ثمار المودة، يتحولون إلى ضحايا صامتين في معركة لا يفهمونها.
بين بطء القوانين وضعف الردع وتراكم الضغوط المعيشية، تظل الأسرة المصرية في قلب معركة تحتاج إلى مراجعة شاملة، فالقانون لا يحقق العدالة ما لم يُنفَّذ سريعًا، والمجتمع لا يتعافى ما لم يتكاتف لحماية أضعف أفراده، وحين يُعاد بناء الثقة بين الزوجين، ويجد الأطفال الأمان داخل بيوتهم، فقط حينها يمكن أن نقول إن “الأسرة المصرية” استعادت معناها الحقيقي كحضنٍ للحب لا ساحةٍ للعنف.
القايمة.. بين ضمان الحقوق وتعقيد العلاقات الزوجية
تُعد “القايمة” من أكثر القضايا الجدلية داخل منظومة الزواج في المجتمع المصري، إذ وُضعت في الأساس لضمان حقوق الزوجة في المنقولات الزوجية، لكنها تحولت في كثير من الأحيان إلى أداة نزاع بين الطرفين بعد الانفصال، ومع تزايد حالات الطلاق، أصبحت القايمة بندًا رئيسيًا في أغلب القضايا داخل محاكم الأسرة، حيث يرى البعض أنها وسيلة قانونية لحماية حق المرأة، بينما يعتبرها آخرون سببًا في توتر العلاقة الزوجية وتحويلها إلى علاقة قائمة على الشك والضمانات بدلًا من الثقة والمودة، وفي ظل غياب تشريع موحّد يحدد ضوابط واضحة لتوثيق القايمة وتنفيذها، تبقى القضية مثارًا دائمًا للجدل القانوني والاجتماعي، يعكس صراعًا بين الحفاظ على الحقوق ومنع استغلال النصوص القانونية في النزاعات الأسرية.
تكشف الوقائع أن العنف الأسري في مصر لم يعد مجرد سلوك فردي، بل انعكاس مباشر لقصور تشريعي وإجرائي في قوانين الأحوال الشخصية، التي يُفترض أن تنظم العلاقات داخل الأسرة، لكنها أحيانًا تُسهم في تأجيج الصراعات بسبب بطء التقاضي، وعدم المساواة في الحقوق، وضعف آليات التنفيذ.
إن العلاقة بين قانون الأحوال الشخصية والعنف الأسري ليست علاقة منفصلة، بل متبادلة التأثير فكلما غاب الإنصاف وسرعة الحسم، زادت فرص الغضب والعنف، وكلما تراجع الردع والتمكين العادل للطرفين، تحول البيت إلى ساحة مواجهة، ويبقى الإصلاح التشريعي الشامل ضرورة لا تحتمل التأجيل، حتى يستعيد القانون دوره الحقيقي كحامٍ للأسرة لا كمصدر لأزماتها، ويصبح العدل داخل البيت أولى خطوات العدالة داخل المجتمع كله.






