فيتشر – إسلام سعيد
من أضيق الشوارع اتساعاً ومن أبعد القرى في مركز لمحافظة أخرى، يخرج بطلاً لعله ليس الأول ولكنه كان الأشد تأثيراً، لطالما كانت لله معجزات يعجز العقل أحياناً عن تفسيرها، وكان لتلك الواقعة نصيباً من قضاء وقدر الله عزوجل في أن يقوم بطلاً من محافظة بإنقاذ حياة العشرات من محافظة أخرى.
كأنما أرسله الله عزوجل ليكون مثالاً يحتذى به وسط الجموع وليُتباهى به أمام الجميع، وفنعم الرجل رجلاً كان له نصيباً من كتاب الله أن يطبق عليه قوله تعالى (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).
بدأت القصة من داخل قرية «مبارك» التابعة لمركز «بني عبيد»في محافظة «الدقهلية»، حيث يعيش رجلاً ونعم الرجال واسمه «خالد محمد شوقي عبدالعال»، والذي كان له من إسمه نصيب، فقد جعله الله عزوجل خالداً في ذكرانا وقلوبنا.
فما كان «خالد» إلا سائق قد زرع الله في قلبه السعي على الرزق حتى ولو كان في أماكن نائية، وملأ قلبه بالشهامة وهذا ما أثبتته المواقف وتجارب الحياة القاسية من بداية التضحية بنفسه لأجل إنقاذ أرواح الآخرين.
فذات يوم خرج «خالد» كعادته ليقوم بتوصيل إحدى عربات نقل المواد البترولية إلى محطة وقود في المجاورة 70 داخل مدينة «العاشر من رمضان» في محافظة الشرقية، ما كان يعلم «خالد» ما كان في انتظاره لعله القدر ولعلها إرادة الله فوق كل شيء.
فوجيء «خالد» وجموع الناس داخل «محطة الوقود» (البنزينة) بإشتغال الجزء الخلفي من السيارة التي كان يقودها «خالد»، وعلى الفور انتشر الهلع والخوف وسط كل الموجودين في محيط محطة الوقود وهنا كانت المفاجأة.

تفحم سيارة خالد
لا شك أن أول ما سوف يخطر في بال أي شخص في مثل تلك الظروف هو «الهرب» لا محالة؛ ولكن كان لـ «خالد» وقتها رأي آخر؛ فسرعان ما ذهب السائق «خالد» وركب سيارته التي تشتعل من الخلف والتي ستنفجر في أي لحظة بدون شك وعندها أخذ القرار الصعب.
تحرك بسيارته مسرعاً بعيداً عن البنزينة في مشهد لا يمكن وصفه إلا بمشهد «سينمائي» لا نراه في الحياة الواقعية، لمحاولة إنقاذ الأرواح الموجودة داخل البنزينة، وكذلك محاولة تفادي وقوع كارثة بإشتعال محطة «الوقود» والتي بدورها ستسبب الكثير من الدمار خلفها.
لعلنا نستيطع أن نتغلغل في ذهن البطل الشجاع «خالد» لنعرف حينها فيما كان يفكر، في مثل تلك الأمور لا تتحرك سوى الغريزة البشرية في محاولة إنقاذ نفسها حتى لو على حساب الآخرين، فأي غريزة تلك كان تسيطر عليه وقتها حتى يتخلى عن جسده وطموحه وأحلامه حتى يتخلى عن روحه، من أجل إنقاذ حياة الآخرين فأي غريزة تلك قد نالت كل الخير من نفسه البشرية حتى لا تفكر سوى في غيرها حتى لو على حساب نفسها.
نظرات دهشة وعيون تترقب من ذلك الفعل الذي لا يملك اي تعبير ولا جمل عن وصفه حتى الآن، زهول تام يسيطر على كل المحيطين بالمكان، لا أحد يعلم ولا يتوقع ما هو بفاعله، فتلك الأمور غير معتاد رؤيتها سوى في روايات الأبطال الخارقين، ولكنه بلا شك أصبح بطلاً لكل من شاهد ذلك الموقف حينها.
أنفجرت السيارة، صرخ الجميع، هرب البعض الآخر مش شدة النيران، وآخرون على بعده مسافة يتسألون في تعجب “هو السواق فين” مرددين “الراجل جوا العربية ولا خرج”، وهنا كان هناك رأي آخر، إذ يظهر «خالد» ممزق الملابس من شدة الإنفجار، مفحم الوجه والجسد من شدة النيران، فعن أي ألم يمكن أن تتحدث بعد ذلك المشهد، فلا شك أن جميع المشاهد المرعبة بعد تلك الحادثة التي شاهدها بعينيه ما هى إلى نكات سخيفة بالنسبة له.

إنفجار سيارة الوقود
ولكن ما حدث بعد ذلك كان هو العجب العجاب عن بكرة أبيه، إذ لا يبالي خالد بملابسه الممزقة ولا جسده الذي يكسوه الألم من شدة الحرق، فعن أي عذاب أو ألم يمكن أن تتحدث بعد الحرق حياً، ومع ذلك لا يكترث لأياً من ذلك فكان يحاول أن يساعد رجال الإطفاء في محاولة إخماد النيران، وإبعاد المارة عن موضع الحريق، ويرشد السيارات للابتعاد، وكان في تلك الأثناء يصرخ من شدة الألم ومع ذلك لم يتوقف للحظة عن محاولة تقديم المساعدة، حتى وهو في أمس الحاجة إلى المساعدة، فنعم الرجال «خالد».
أنتقل «خالد» إلى المستشفى لتلقي العلاج اللازم، وتحيطه دعوات الجميع من شتى بقاع الأرض، فقد غرس الله اللين والحب الغير مشروط في قلوب كل من رأى وسمع عن قصة البطل الشهام في مختلف أنحاء مصر وخارجها، أختلف وصف المواطنين له ولكن لعلها توفيه حقه.

أثناء تلقي خالد الرعاية الصحية
وبعد أيام وتحديداً في يوم الأحد، تلقت أسرة «خالد» خبر وفاته متأثراً بحروقه، الخبر الذي وقع على أسرته كالصاعقة، ولكنه كان الخبر الذي أثر في الجميع وبلا إستثناء، فخيم الحزن على جميع الأهالي، خاصةً أن «خالد» كان يستعد لزفاف نجله في التاسع عشر من يونيو المقبل، وهو حلم لم يتمكن من تحقيقه.
وفي فجر يوم الاثنين، وخلال مشهدًا مهيبًا لمئات المشيعين وهم يودعون إلى مثواه الأخير “شهيد الشهامة”، السائق «خالد محمد شوقي عبدالعال»، وصل جثمان «خالد» إلى مسجد المصادرة بقرية مبارك، وخلال تشييع جثمان الفقيد، ارتفعت أكف الدعاء أن يتقبله الله من الشهداء، واختلطت أصوات البكاء والعويل من أسرته وذويه بدموع الحزن على رحيل «بطل» ضحى بحياته من أجل إنقاذ الآخرين.
طاف الجثمان محمولًا على أكتاف الأهالي، في مشهد يعكس حجم الحب والتقدير الذي كان يحظى به، حتى ووري الثرى في مقابر الأسرة، مودعًا الدنيا ببطولة ستبقى خالدة في أذهان أهل قريته ومدينته.

تشييع جنازة خالد في مسقط رأسه
وتقديراً لما قام به «شهيد الشهامة» من تضحية بنفسه لأجل إنقاذ أرواح الآخرين، فما كان على الجهات الحكومية إلا تقديم أيدي العون والمساعدة لأسرة الفقيد لعلها توافيهم مما قام به «خالد» من شجاعة وشهامة، حيث أعلن وزير العمل «محمد جبران» عن صرف مبلغ 200 ألف جنيه لأسرة السائق البطل.
مؤكدًا أن هذا التكريم يأتي تقديرًا لجهوده وتضحيته، وتقدم الوزير بخالص العزاء لأسرة الفقيد، مضيفاً أن «خالد» يُعد قدوة لمجتمعه، وقد ضرب أروع الأمثلة في التضحية والفداء.
كما قرر المهندس «علاء عبداللاه» رئيس جهاز تنمية مدينة العاشر من رمضان، إطلاق اسم السائق «خالد محمد شوقي عبدالعال» على أحد شوارع المدينة، تكريمًا لموقفه البطولي الذي عبّر عن أسمى معاني الشجاعة والإخلاص في العمل، ليظل اسم «خالد» محفورًا في ذاكرة المدينة وشوارعها، شاهدًا على تضحيته النبيلة.
إنتهت أنفاس «خالد» الأخيرة من الحياة ولكن بدأت ذكراه أن تتنفس بداخلنا عن سيرة بطل لا تراه إلا في الحكايات، فقد مات الجميع وبقى «خالد» في ذكرانا حى لا يموت، فنعم الرجال «خالد».