تحقيق ـ بسمة البوهي
في زمن السرعة وتتسارع فيه التكنولوجيا وتتنوع فيه الفرص التعليمية والمهنية والاجتماعية، ومع كل هذه الإمكانيات يبدو أن الشباب يعيشون في بيئة مثالية لتحقيق أحلامهم، ولكن الواقع يكشف عن مشهد مختلف تمامًا، وهو أن الشباب يعيشون بالضياع والتيه، وكأنهم يفقدون البوصلة التي توجههم وسط هذا الزحام، وأنهم تائهون في سباق لا يعرفون وجهته.
يقول “كريم أحمد” الجميع يقارن نفسه بالآخرين، وكل شخص يسعى لإثبات أنه ناجح، حتى وإن لم يكن سعيدًا، وأشعر أنه يجب أن أحقق شيئًا بسرعة، وإلا سأشعر بأنني فاشلًا، وأقل من الآخرين.
ويوضح “ياسر محمود” في السنوات الماضية، كان الطريق واضحًا، حيث تدرس، ثم تشتغل، ثم تتزوج، أما الأن فهناك طرق عديدة لا حصر لها، وبسبب هذا التنوع لا أحد يستطيع تحديد ما هو الطريق الصحيح، وهذا ما يجعل الإنسان يشعر بالتيه والضياع.
ويضيف “عمر إبراهيم” أنا أعمل في وظيفة جيدة، لكنني أذهب إليها كل يوم دون أن أشعر بأي شغف، وأشعر وكأنني أعيش حياة شخص آخر، وكل من حولي ينصحني بالإستمرار ويشجعونني، لكنني لا أستطيع سماع صوت من حولي وسط ضجيج الأفكار التي تملأ رأسي.
تجمعت اراء الناس على أن الكثير من الشباب لم يُمنحوا فرصة لإكتشاف أنفسهم بعيدًا عن التوقعات الخارجية، وهذا ينشأ بداخلهم الشعور بالضياع وعدم تحديد هدفهم، وأن المجتمع يضع معايير صارمة للنجاح وغالبًا ما تكون شكلية وتصل إلى المادية، وهذا يخلق شعور بعدم الكفاية، وبسبب تقدم التكنولوجيا وتطور السوشيال ميديا التي تظهر الناس في أحسن صورة إذا كانت في حياتهم العملية أو في حياتهم الزوجية، وهذا يسبب احباطًا داخليًا للشباب بعدم الرضا عن حياتهم.
يؤكد الدكتور “عاطف الشوبكي” استشاري الطب النفسي ومدير مستشفى العزازي للصحة النفسية، أن إنسان هذا العصر مسكين تخدعه التكنولوجيا الحديثة وتجعل منه فى لحظة أسدًا كاسرًا، وفى ثوانٍ يكتشف أنه وهم لا أكثر، وكم تقول الفنانة ماجدة الرومي “وأعود لطاولتى لا شئ معى سوى كلمات”.
ويضيف الدكتور النفسي أن الشباب تكبلهم التطلعات المادية التي لا يستغنى عنها من وجهة نظره، ولا يستطيع تلبيتها كالسيارة والمرتب الكبير، ويكبله التطلعات الإجتماعية التى تُحتم عليه وتفرض عليه الأمور، وأن يكون مستواه الإجتماعى راقيًا فى منصبه وغيره، ويربطها بنقص خبرته فى الحياة، حيث يخلط بين الرفاهية والأمان والسعادة والمكانة المادية والإجتماعية.
ويؤكد الدكتور عاطف إن التشتت نتيجة تكاد تكون حتمية لصغر السن، ونقص الخبرة التى تجعل الشاب يستبعد خيارات مفيدة ومثمرة، ربما لا ترتقي لمستوى الطموحات التى غالبًا فى تلك السن غير متناسبة مع إمكانياته الشخصية، والاجتماعية وربما يندم عليها لاحقًا.
ويستكمل الدكتور أن سبب التشتت و نقص التركيز، هو تناقض الإهتمامات، فهناك من يحصر نفسه فى نتائج معينة بوظيفة أو مهنة ومستوى إجتماعى معين، بينما ينبغى أن يكون تركيز الشاب فى أداء ما عليه من واجبات أساسية، وتنمية المهارات اللازمة للتفاعل مع العصر، أفضل من أحلام أو أوهام اليقظة، ولا ينسى أهمية الجانب الروحي، و الإيمان بالقدر وعدالته وحكمته، فهذا مهم جدًا للتوازن النفسى لأنه يحمى الإنسان من الفوضى وصراعات الداخلية.
كيفية اكتشاف نفسك وميولك
يوضح “الشوبكي” أن مع تيطور الشخص نفسه تظهر ميوله وحبه لمجالات معينه تُظهر فيها براعته، لكن الأهم إن يدرب نفسه على أداء ما عليه إتجاه نفسه والآخرين، والإهتمام بصحته الجسمانية وعدم إهمال الراحة وقت التعب والعناية بصحته أمر لا غنى عنه، كذلك الإهتمام بصحته النفسية وتطورها أمر هام أيضًا.
ويؤكد الدكتور النفسي أن كل إنسان له ما يناسبه وقد يكون بسيطًا ولكنه يسبب سعادة عظيمة، كما قال صلى الله عليه وسلم لرجل قال إنه لن يؤدى إلا الصلوات الخمس وصيام رمضان من الفرائض ولن يزيد عليها، فقال له صلى الله عليه وسلم “أفلح إن صدق”، وظن الصحابه أنه عمل عملًا خارقًا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة فيقول “إنى لا أبيت وفى صدرى غل أو حقد لأحد”.
يقول الدكتور عاطف أن الدعم النفسي يأتى من خلال تدعيم الشخص بإنجازاته وقدراته السابقة، ومحاولة تهدئته من خلال تمارين الإسترخاء أو الدعاء والتفريغ النفسى، وتقديم التوجيه والنصيحة المناسبة بتعليمه المهارات اللازمة لحياته وعمله، وخاصةً بتنمية القدراته وتشجيعه عليها، وتقديم النماذج الناجحة، وكيف أنها تغلبت على الصعوبات أو العثرات التى واجهتها وبدأت من جديد.
الشعور بتيه ليس ضعفًا، بل علامة على أن الإنسان يبحث عن معنى أعمق لحياته، وأن الشباب اليوم لا يحتاجون فقط إلى فرص، بل إلى فهم، ودعم، ومساحه أمنة للتعبير عن أنفسهم دون حكم أو مقارنة، والحل لا يكمن في المزيد من الإنجازات، بل في رحلة داخلية لإكتشاف الذات، وتحريرها من القيود المجتمعية، التي لا تعكس بالضرورة الحقيقة أو السعادة، « يمكن التيه مش عيب، يمكن هو بداية الطريق الحقيقي».
ربما لا يكون التيه الذي يعيشه الشباب اليوم دليلًا على هزيمته، بل هو انعكاس لحساسية عالية إتجاة عالم لا يمنحهم الوقت الكافي لفهم أنفسهم، بسبب الزمن التي تتسارع فيه الإنجازات وتقاس فيه القيمة بالأشياء التي حققها، فلهذا يصبح البحث عن الذات تحديًا حقيقيًا.
وأن الفراغ ليس دائمًا غيابًا، بل قد يكون مساحه تنتظر أن تملأ بالمعنى والشغف والصدق مع النفس، و أن الضغط المجتمعي مهما أشتد لا يستطيع أن يطفئ نور من بدأ رحله أكتشافه الخاصة، فربما في لحظة صدق واحدة يجد الإنسان ما يظل يبحث عنه وسط زحام أفكاره.
في النهاية التيه ليس علامة تدل على خسارة التحدي مع النفس بل هي لحظة صدق، ومن الممكن أن تكون دعوة لتتوقف ولتتامل ولتبحث عن ذاتك وسط زحمة التوقعات التي أصبحنا بها، وربما يكون الحل الحقيقي ليس في المزيد من الفرص، بل في زيادة المساحة الأمنة التي توفرها لنفسك، لان الطريق لا يرسم بالخطوات الجاهزة بل يكتشف حين نبدأ في الإستماع لصوتنا الداخلي.