تحقيق – مريم ناصر
ليس من السهل أبدًا أن يكتشف الإنسان أنه يعيش في علاقة سامة تستنزف طاقته وتطفئ روحه، فبدلًا من أن تحتويه وتدعمه، تضعفه وتؤذيه، العلاقات السامة لا تبدأ بالقوة والسيطرة، بل تنمو تدريجيًا في بيئة تسمح لها بذلك، وغالبًا ما تكون جذور هذه البيئة ممتدة من الطفولة.
فيجب على الإنسان أن يكون أكثر وعيًا بالطريقة التي تعلم بها استقبال المشاعر والحب، وكيفية التعامل مع الرفض أو القسوة، فهناك شخص نشأ في بيت لا يسمح فيه بالتعبير عن الغضب، أو يربى على كبت مشاعره لإرضاء الآخرين، قد يجد نفسه لاحقًا عالقًا في علاقة مؤذية دون أن يدرك السبب.
وعندما يبدأ في إدراك حجم الضرر، يواجه التحدي الأكبر وهو مواجهة الذات وما تهرّب منه طويلًا: “كيف نتعافى؟ وهل يكفي مجرد الانفصال؟” وفي الحقيقة، كثيرًا ما يتجاوز التعافي مجرد الإبتعاد عن الشخص المؤذي، ليصبح رحلة داخلية لفهم الذات، ولكن قد يحتاج الأمر إلى دعم نفسي متخصص.
طبيب نفسي يوضح أسباب الإنجذاب للعلاقات السامة والمؤذية
أوضحت الدكتورة “منة الله إسماعيل” أخصائي الطب النفسي ومعالجة الإدمان، أن كثيرًا من الأشخاص يدركون تمامًا أنهم يعيشون داخل علاقة سامة ومؤذية، ورغم ذلك لا يتمكنون من الخروج منها، وترى أن السبب غالبًا يعود إلى احتياجات داخلية غير مشبعة، أو صدمات نفسية مبكرة تجعل الشخص ينجذب لا وعيًا إلى نمط العلاقة المؤذية.
وأضافت أن بعض الأشخاص يتلقون طوال العلاقة رسائل سلبية من محيطهم، وهذا يجعلهم يتمسكون بالمؤذي رغم الوعي بالخطر، أن آثار العلاقة السامة لا تظهر فورًا، تبدأ بعد الانفصال، على شكل اضطرابات في النوم، والمزاج، والشهية، إلى جانب الشعور بفقدان الأمان، وانخفاض الثقة بالنفس، والارتباك النفسي.
وترى أن الشخص الخارج من علاقة مؤذية يواجه تحديًا كبيرًا في استعادة حياته الطبيعية، خاصة إذا طالت العلاقة، وفي كثير من الحالات، يصبح العلاج النفسي ضرورة لإستعادة التوازن، وتفكيك الآثار النفسية المتراكمة، حيث أن يعاني الطرف غير المؤذي من مشكلات نفسية عميقة، لا تتوقف عند الحزن.
وتؤكد على أن الطرف المؤذي في العلاقات السامة يعاني غالبًا من اضطرابات شخصية مثل النرجسية، أو السادية، وهم الذين يروا سلوكهم طبيعيًا ويرفضون الاعتراف بوجود مشكلة، وغالبًا ما يكون هذا ناتجًا عن طفولة قاسية، أو تربية مفرطة في التدليل.
ولكنها تمتد إلى فقدان الثقة في الجميع، والعيش في حالة دائمة من الشك والارتباك وعدم فهم ما مر به بشكل منطقي، وتحذر الطبيبة من أن تجاهل ما مر به الفرد من أذى، وعدم مواجهة الأسباب النفسية، يؤدي إلى تكرار نفس النمط، حيث يتغير الأشخاص لكن يبقى الألم كما هو، ما يعني أن التعافي الحقيقي لم يحدث بعد.
وترى أن التنشئة النفسية الخاطئة في الطفولة تلعب دورًا رئيسيًا في القابلية للدخول في علاقات سامة ومؤذية، لأن طريقة تعامل الأهل مع الطفل تحدد لاحقًا نوع العلاقات التي يختارها، وحدوده في قبول أو رفض الأذى.
الطب النفسي يوضح طرق التعافي من العلاقات السامة
تشير الدكتورة “منة الله إسماعيل” إلى أن التعافي لا يقتصر على الابتعاد عن الشخص المؤذي، بل هو رحلة داخلية لفهم الذات، تبدأ هذه الرحلة بتفكيك الأسباب التي تجعل الإنسان ينجذب إلى علاقات مؤذية، وتكرار نفس الأنماط دون وعي، فغالبًا ما يكون هناك احتياج داخلي غير مشبع يدفع الشخص للبقاء في علاقة تستهلكه نفسيًا.
توضح أن أولى خطوات التعافي هي التعامل مع الآثار النفسية التي تتركها العلاقة، مثل القلق، والتوتر، وفقدان الثقة بالنفس، ثم تأتي مرحلة تحليل أسباب التعلق، وفهم الاحتياج العاطفي، أو الشعور بالنقص، الذي جعل الشخص ينجذب للأذى، هذه المراجعة الذاتية تساعد في كسر الدائرة المغلة التي تعيد إنتاج الألم.
وتؤكد أن العلاج النفسي ضروري في كثير من الحالات، خاصة إذا طالت العلاقة، أو تسببت في صدمة نفسية شديدة، فالدعم المهني يساهم في إعادة بناء الصورة الذاتية، وتعزيز احترام النفس بطريقة عملية، وتلفت إلى أن التجربة المؤذية قد تشوه مفاهيم الحب والعطاء، مما يستدعي تصحيحها بالتدريج.
وتختتم “إسماعيل” حديثها على أن جزءًا كبيرًا من التعافي يرتبط بإدراك الشخص لقيمته الحقيقية، بعيدًا عن حكم الآخرين أو مشاعر الذنب، فالعلاقة المؤذية لا تعني بالضرورة ضعفًا، بل قد تعكس ألمًا قديمًا لم يتم التعافي منه، والوعي بهذه الحقيقة يساعد على التحرر من جلد الذات.
وفالنهاية علينا أن نكون بالوعي الكافي بأن ليست كل علاقة تنتهي بالألم خسارة، فالعلاقة السامة فرصة لاكتشاف ما كنا نتجاهله بداخلنا من مخاوف لم نواجهها منذ الطفولة، في هذه اللحظة المؤلمة قد نصل إلى وعي أعمق بأن الأمر لا يتعلق فقط بمن أذانا، ولكن السبب سكوتنا الطويل عن الأذى.
وتظهر ضرورة أهمية التنشئة النفسية السليمة، التي لا تزرع قيم الحب فقط، بل تؤسس لاحترام الذات، وتعلمنا كيف نضع حدودنا، ونختار علاقات صحية، وحين تختل هذه الأسس يصبح اللجوء إلى الطبيب النفسي ضرورة، لإعادة التوازن الداخلي، وتصحيح المفاهيم التي ترسخت بفعل التجارب.