تحقيق – بسملة الجمل
يبدأ كل شيء بلحظة رحيل الوالدين، حيث يخيم الحزن على القلوب وتبكي العيون، لكن سرعان ما يتسلل الخلاف ليخطف روح الأسرة ويحول الفقد إلى معركة، حيث يتحول البيت الكبير الذي جمع الإخوة يومًا ما إلى ساحة نزاع، ترتفع فيها الأصوات وتتعالى فيها الاتهامات، حتى يصبح الميراث لعنة تفكك الروابط بدل أن يكون وسيلة للترابط.
ويدخل الطمع إلى النفوس فيعمي القلوب، وتظهر ضغوط اجتماعية تجبر بعض البنات على التنازل عن حقوقهن الشرعية، وكأن نصوص القرآن لم تكتب لتطبق، ويفشل كثير من الآباء والأمهات في توثيق ممتلكاتهم أو كتابة وصايا واضحة قبل رحيلهم، فتترك المسائل عالقة، ويتحول الغموض إلى شرارة نزاعات طويلة.
وتستمر الخلافات سنوات أمام المحاكم، بينما تتآكل صلة الرحم وتضيع المودة التي بناها العمر كله، لتبقى الحقيقة المؤلمة أن الميراث قد يفرق ما جمعه الدم، وتكبر الجراح في القلوب مع مرور الوقت، فينشأ جيل جديد من الأبناء لا يعرف معنى صلة الرحم، ويرث هو الآخر الكراهية بدلًا من المودة، لتتحول المشكلة من خلاف عابر إلى قطيعة تورث عبر الأجيال.
وبالحديث مع بعض المواطنين تنوعت آرائهم، فأكدت “ندى السيد” أن السبب الرئيسي وراء المشكلات بين الإخوة بعد تقسيم الميراث هو الطمع الذي يسيطر على البعض، حيث يتحول المال والأملاك إلى أولوية على حساب صلة الدم، مضيفة أن غياب الشفافية منذ البداية يزيد الأمور تعقيدًا، فالأهل لا يوضحون تفاصيل الممتلكات ولا يتركون أوراقًا رسمية مرتبة، فيجد الإخوة أنفسهم أمام غموض يفتح الباب للنزاع والخصام.
وأشارت “شهد أحمد” إلى أن البنات في كثير من العائلات لا يحصلن على حقوقهن كاملة في الميراث، حيث يتعرضن لضغوط مباشرة وغير مباشرة للتنازل عن نصيبهن لصالح الإخوة الذكور، موضحة أن بعض الأسر تعتبر ميراث البنات عيبًا أو حملًا ثقيلًا، مما يدفع الكثير منهن إلى الصمت حفاظًا على العلاقة مع العائلة، رغم أن الشرع أعطاهن حقًا واضحًا لا يجوز المساس به.
كذلك أوضح “أحمد السيد” أن الأهل كان بإمكانهم فعل الكثير لتجنب هذه النزاعات، مثل كتابة الوصايا بشكل واضح وتوثيق الممتلكات رسميًا قبل الوفاة، مضيفًا أن الصراحة بين الأبناء وتوضيح الحقوق أثناء حياة الوالدين كانت كفيلة بمنع الخلافات، كما أكد أن غياب التخطيط المسبق يترك الباب مفتوحًا أمام الطمع والخصام.
وأكدت “مريم طارق” أن الخلافات على الميراث تترك جروحًا عميقة في العلاقات الأسرية، حيث تتحول المحبة إلى عداوة، وتضيع صلة الرحم التي أوصى بها الدين، موضحة أن كثيرًا من الإخوة والأقارب توقفوا عن زيارة بعضهم سنوات طويلة بسبب قطعة أرض أو شقة، لدرجة أن المناسبات لم تعد تجمعهم كما كان في الماضي، ليصبح المال سببًا في تدمير الروابط التي بناها العمر كله.
كما أشارت “نور فتحي” إلى أن القانون مهم لحماية الحقوق في الميراث، لكنه وحده لا يكفي، لأن معظم القضايا تأخذ سنوات طويلة في المحاكم، وفي هذه الفترة قد تتفكك العلاقات الأسرية تمامًا، مؤكدة أن الالتزام بتعاليم الدين والضمير هما الأساس الحقيقي، فلو التزم كل شخص بما أمر به الله لما احتاج الإخوة إلى قاعات القضاء.
وأوضحت “هاجر السيد” أن التنازل عن جزء من الميراث من أجل الصلح لا يُعد ضعفًا كما يراه البعض، بل هو تضحية تستحق كل الاحترام، كما بينت أن من يقدم هذه الخطوة يثبت أن محبته لإخوته وحرصه على لم شمل العائلة أهم من أي مال، معتبرة أن الحفاظ على العلاقات الإنسانية أغلى بكثير من أي ميراث يمكن أن يزول مع الوقت.
وأكد “إيهاب أحمد” أن النصيحة الأهم لأي أسرة لم تمر بعد بتجربة تقسيم الميراث هي أن ترتب أوضاعها منذ حياة الوالدين، من خلال توثيق كل شيء وكتابة وصية واضحة حتى لا يتركوا مجالًا للنزاعات، موضحًا أن الصراحة بين الأهل والأبناء، وتربية الأبناء على الخوف من الله والعدل، هما الضمان الحقيقي لبقاء المودة وصلة الرحم بعد الوفاة.
الميراث بين حدود الشرع وممارسات الناس
أكد الشيخ محمد حسبو أن من يتعمد حرمان أحد الورثة من نصيبه الشرعي بعد وفاة الوالدين، فقد ارتكب ظلمًا عظيمًا، وهو من الكبائر، لأنه أكل مالًا بغير حق، وتعدى حدود الله في الميراث، مستشهدًا بقول الله تعالى: “تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارًا خالدا فيها”.
وأوضح “حسبو” أن من يأكل أموال الورثة ظلمًا، فقد توعده الله بعذاب شديد، مستدلًا بالحديث الشريف: “إن الله يعذب الذين يعتدون في الميراث كما يعذب الزناة وشاربي الخمر”، مبينًا أن من يفعل ذلك يبتلى في الدنيا بضيق في الرزق ويمحق الله بركة ماله، ويحاسب في الآخرة حسابًا عسيرًا.
وأشار الشيخ محمد حسبو إلى أن العادات الجاهلية التي تحرم البنات من الميراث لا يقرها الإسلام، بل هي منكر عظيم، مستشهدًا بقول الله تعالى: “للذكر مثل حظ الأنثيين”، موضحًا أن من يجبر ابنته على التنازل عن حقها فقد ظلمها، وسيحاسب على ذلك أمام الله.
كما شدد “حسبو” على أن القطيعة بسبب الميراث من أعظم الفتن، وهي من أسباب فساد ذات البين، لافتًا إلى قول النبي ﷺ: “لا يدخل الجنة قاطع رحم”، مؤكّدًا أن الإثم يقع على من بدأ بالظلم، كذلك على من يستمر في القطيعة دون محاولة للإصلاح.
وبين الشيخ محمد حسبو أن الوصية لا تجوز لوارث إلا إذا أجازها باقي الورثة بعد الوفاة، ويشترط ألا تتجاوز ثلث المال وألا تخالف نصوص الميراث الشرعية، مشيرًا إلى أن توزيع المال في الحياة كهبة جائز بشرط العدل وعدم الإضرار.
وأكد “حسبو” أن من يحلف يمينًا كاذبة ليخفي حق أحد الورثة أو ليستولي عليه، فقد ارتكب اليمين الغموس، وهي من الكبائر التي تغمس صاحبها في النار، مستدلًا بقول النبي ﷺ: “من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة”.
وأوضح الشيخ محمد حسبو أن من يتنازل عن حقه طوعًا لا قهرًا ولا خوفًا، ابتغاء مرضاة الله وصلة الرحم، فهو مأجور بإذن الله، مستشهدًا بقول الله تعالى: “فمن عفا وأصلح فأجره على الله”.
ونصح “حسبو” الوالدين أثناء حياتهم بضرورة توثيق الممتلكات وتحديد الملكية، وتعليم الأبناء العدل والشفافية، وعدم التمييز بينهم في العطايا، وترك وصية واضحة ضمن الضوابط الشرعية، مع غرس القيم الدينية في نفوس الأبناء منذ الصغر.
كذلك أشار الشيخ محمد حسبو إلى أنه يستحب توثيق الملكيات وتوزيعها كهبة في الحياة عند الحاجة، بشرط العدل وعدم الإضرار، أما تقسيمها كميراث قبل الوفاة فلا يصح، لأن الحي لا يورَّث.
وبين “حسبو” أن غرس القيم الإسلامية في الأبناء يبدأ من الصغر، عبر القدوة الحسنة من الوالدين، والقصص النبوية والقرآنية، والحوار والمناقشة، والتربية على الأمانة والرحمة والعدل، وتشجيع السلوك القويم والثواب عليه.
الميراث امتحان يكشف معدن القلوب
يكشف الميراث معادن البشر الحقيقية، فيظهر من يتمسك بشرع الله ويؤثر الحفاظ على الروابط العائلية، ومن ينقاد وراء الطمع فيقطع الأرحام ويشعل النزاعات بين الإخوة، يؤدي إهمال كتابة الوصايا وتوثيق الممتلكات في حياة الوالدين إلى فتح أبواب الخلاف بعد الوفاة، فتتحول القضايا البسيطة إلى نزاعات كبيرة تتوارثها الأجيال.
ويحكم القانون بالفصل في المنازعات، لكنه لا يقدر على ترميم القلوب أو إعادة المحبة، فسنوات المحاكم الطويلة تترك شروخًا عميقة لا تجبرها الأحكام وحدها، ويثبت التنازل عن جزء من الميراث أنه فعل قوة لا ضعف، وأن التضحية في سبيل جمع الشمل أعظم من أي ثروة، فالأخ الذي يقدّم هذه الخطوة يخلد مكانته في قلوب إخوته.
كما يؤكد الالتزام بالشرع أن العدل أساس الاستقرار، وأن من يخشى الله لا يظلم إخوته، بل يعطي كل ذي حق حقه دون مماطلة أو خصام، ويذكر الواقع أن الأموال والثروات تزول، لكن المودة وصلة الرحم تبقى، وأن الأسرة التي تحافظ على وحدتها أعظم بركة من أي ميراث يتركه الآباء.