تحقيق ـ بسمة البوهي
في زمن أصبحت الجريمة مشهد متداول على الشاشات وأجهزة الهواتف، ولم تعد الصدمة تجد مكانًا في وجدانُنا، وتسلُل الوحشية إلى الوعي الجمعي حتى تكاد تُرى بلا دهشة، فلم تعد جرائم القتل تشعرنا بالذعر وتنشر على مواقع التواصل الإجتماعي ببرود، وكأنها فيلم سينمائي لا يستدعي الحزن أو الغضب، ومشاهد الدم لا تُحدث رجة في القلوب، بل الأغرب من ذلك أن يصبح رد فعل الناس هو مجرد تصوير الجريمة دون محاولة إنقاذ الضحية وفك الإشتباك، هل كثافة هذه المشاهد جعلت العيون ترى دون أن تتأثر، والقلوب تنبض دون أن تهتز.
رأي المواطنين في هذه الظاهرة المنتشرة
أكد “أحمد عبده”، أننا مُنذ السنوات التي مضت عندما كنا نسمع عن جريمة قتل، كان القلب يرتجف حزنًا وخوفًا، أما الأن فقد أصبحت هذه الأخبار عادية، وهذا هو ما يرعبنا.
وتقول “هبة محمد”، أن تكرار مشاهد القتل على مواقع التواصل أدى إلى تبلد المشاعر، ولم تعد الصدمة كما كانت من قبل لأن الناس يتعاملون مع هذه المشاهد كما لو كانت جزءًا من فيلم سينمائي، أو مسلسل لا يستدعي تأثر حقيقي.
ويضيف “محمود إبراهيم”، أرى أن الأشخاص الذين يقومون بتصوير الجريمة ليسوا ضعفاء، بل أن تصرفهم هذا قد يكون بدافع الخوف على أُسرهم، إذا تدخل وتعرض للأذى، أو خوفًا من المسائلة القانونية.
ويوضح “عبد الحميد السيد”، أصبح الناس يعتمدون على بعضهم البعض في التدخل عند وقوع أي مشكلة وليس في الجرائم فقط، إذ يظن كل شخص أن هناك من يستجرأ ويتدخل لفض الإشتباك، فينتهي الأمر دون تدخل من أي شخص، وهكذا تبقى «الإعتمادية» هي الحاجز الذي يمنع الناس من المبادرة والتصرف في المواقف الحرجة.
تجمعت أراء الناس بين المؤيد والمعارض، حيث يرى البعض أن التصوير من الممكن أن تكون وسيلة لإثبات الجريمة ومساعدة الشرطة في إظهار الحقيقة، وأخرون يعبرون عن غضبهم من تحول موقف الناس من أشخاص متفاعلين إلى متفرجين، والبعض الآخر يقول أن المواقف تختلف حسب الظروف وليس كل من يصور قادر على التدخل.
رأي الطبيب النفسي في هذه الظاهرة
يؤكد الدكتور “عاطف الشوبكي” استشاري الطب النفسي ومدير مستشفى العزازي للصحة النفسية، أن البلادة لها أكثر من وجه، أولًا البلادة فى التفكير ويقصد بها نقص القدرات العقلية، وتؤدى إلى أن الشخص لايستوعب الموقف وعناصره، فيؤدى إلى بلادة مشاعره، وإلى سلوك غير متناسب مع الحدث.
ويستكمل الدكتور النفسي، ثانيًا بلادة المشاعر، وقد تكون بسبب تمركز الإنسان حول ذاته فلا يتفاعل ولا ينتبة إلا ما يمثل مكافأة وتدعيمًا له مثل الشخصيات الفصامية و الاعتمادية وربما غيرهما، وهذا في الحالات الدنيا من البلادة التى لا يلاحظها إلا البعض.
ويضيف الدكتور عاطف الشوبكي، أما عن المشاهد التى تحدث أمام المارة فمن الصعب أعتبار الجميع فى حالة بلادة لأسباب كثيرة، ولا ننكر تدنى الأخلاقيات والأنانية والتشفي، لكن لا يمكن تعميم ذلك على الجميع منها أن أُناسًا تحركوا لإنقاذ أشخاص وتم إيذاءهم وربما أفراد من عائلاتهم، أو أن بعضهم يفتقر إلى كيفية المواجهة والتصرف فى مثل هذه المواقف، والبعض قد يعاني من أمراض أو يشعر بالهلع من مواجهة الموقف.
ويوضح الدكتور عاطف، أن الجرائم العنيفة تؤثر بشكل مباشر على الصحة النفسية، خاصةً عند انتشارها عبر مواقع التواصل الإجتماعي، وأن بعض الأشخاص قد يفقدون القدرة على التمييز بين الواقع والخيال، وخصوصًا من يعانون من اضطرابات مثل الفصام والوسواس القهري، مما يجعلهم أكثر عُرضة لتبلد المشاعر وتصل إلى تقليد السلوكيات العنيفة.
ويشير الدكتور النفسي، إلى أن الإعتياد على مشاهد العنف قد تؤدي إلى تبلد المشاعر وفقدان الحس الإنساني، وأن الدين والرياضة والهوايات تعمل على تعزيز الوعي، وأيضًا أدوات فعالة لمواجهة تبلد المشاعر.
هل أدمن المجتمع الكارثة
تكرار مشاهد العنف والجرائم بشكل عام على السوشيال ميديا، جعل الناس يتعاملون معها كأحداث يومية لا تثير الخوف أو التعاطف، ومع تكرار هذه المشاهد أدت إلى نوع من أنواع التبلد العاطفي، حيث لم تعد الكارثة تسبب صدمة أو حزن كما في السابق.
هل نعيش زمن اللامبالاة
مع كثرة تكرار الجريمة ومشاهد القتل، لم تعد تحدث صدمة بل تمر كخبر عابر أو محتوى قابل للمشاركة، فلهذا يبدو أننا نعيش في زمن تتزايد فيه مظاهر اللامبالاة بشكل مخيف، حيث يتم نشر الجرائم على وسائل التواصل بدون فلترة أو معالجة إنسانية.
والعديد من المؤشرات القوية التي تدل على أننا نسير نحو حالة من التبلد الإنساني، لكثرة المشاهد والفيديوهات العنيفة المتداولة والإنهيارات الأخلاقية، فلذلك أصبح الإنسان أكثر عرضة لفقدان الحساسية إتجاه الألم والمعاناة، وأصبحت المشاعر وكأنها رفاهية لا يملكها الجميع.
كيف أصبح الإنسان من متفاعل إلى متفرج
أصبح التصوير ونشر الحدث أهم من التدخل فية، مما خلق نوعًا من “الفرجة الرقمية” التي تضعف الحس الإنساني، ونتيجة لتراكم عوامل نفسية وإجتماعية أبرزها ما يعرف في علم النفس “تأثير المتفرج”، وهذه الظاهرة تشير إلى أن وجود عدد كبير من الناس في موقف طارئ يقلل من إحتمال تدخل أيًا منهم.
ينقسم الناس بين من يرى التصوير وسيلة للعدالة، ومن يراه تخليًا عن الإنسانية، لكن الحقيقة أن المسؤولية لا تتوقف عند الضغط على زر الكاميرا، بل تبدأ من الإحساس بالواجب إتجاة الآخر، والوعي المجتمعي هو خط الدفاع الأول ضد تبلد المشاعر.
وإنتشار جرائم القتل لا تؤثر فقط على الأمن بل تهدد البنية النفسية للمجتمع، وتبلد المشاعر ليس مجرد حالة فردية بل مؤشرًا خطيرًا على فقدان التعاطف الجماعي، وعلينا أن نعُيد النظر في دورنا كمشاهدين، ونختار أن نكون جزءًا من الحل لا مجرد عدسة تراقب الألم.