تحقيق – سوزان الجمال
في زمن بعيد، حينما كانت “الكتاتيب” المنهل الوحيد لتعليم الأطفال، كانت العصا جزءًا أساسيًا من شخصية المُعلم، ومع تطور مناهج التعليم وأساليبه تغيرت أشياء كثيرة في المنظومة التعليمية، سواء شكل الفصول أو المناهج أو أسلوب التعليم ذاته، لكن بقيت فكرة “العصا لمن عصى” حاضرة.
ولم تتغير أو يطالها التطور، فصنعت صورة ذهنية للمدرسة في عقل الطالب بأنها “مكان للتعذيب” وليس التعلُّم، الأمر الذي تكرر كثيرًا في الآونة الأخيرة، لتصبح المدارس في عيون الطلاب “بيوت للرعب”.
قالت “هبة عادل”: ” تعرضت للعنف بسبب التأخير في سداد ثمن الدرس الخصوصي، الطفلة “هبة عادل” كانت إحدى ضحايا عنف وإهمال المدارس، حيث تجرد معلم لغة عربية ودراسات اجتماعية ودين، من الرحمة وانهال بالضرب عليه لتأخرها في سداد ثمن الدرس الخصوصي، السبت الماضي.
وتروي “أمل عبدالله” والدة الطالبة “هبة”، ما حدث مع ابنتها قائلة: “المدرس فضل يضرب في بنتي لحد ما ورم إيديها من الضرب علشان اتاخرت في دفع فلوس الدرس، ودي مش كانت أول مرة دايمًا كان عامل رعب للتلاميذ وبيجبرهم إنهم لازم ياخدوا معاه درس”.
وأضاف “محمود أحمد” التي حدثت معه واقعة مختلفة ستظل محفورة في ذهنه طوال حياته، بعدما تلقعى صفعة مفاجئة على وجهه أثناء وقوفه في الطابور المدرسي: “كانت في الطابور الصباحي اتناول طعام ورميت ورقة على الأرض، تفاجات بصفعة على وجهي أمام الجميع، وفي ذلك الوقت كانت أبكي يوميًا بسبب أنني اتهزأت قدام صحابي”.
ويروي والده “أحمد محمد”، تفاصيل الواقعة التى تعرّض لها ابنه داخل المدرسة: “كنت في شغلي ولقيت زوجتي بتتصل بي وتقول لي الحقني، إبنك جاي مضروب وهدومه مقطعة ومنهار، عشان ولىّ أمر تلميذ وأمه ضربوه في طابور المدرسة، وقال لي ولىّ الأمر الذي ضرب إبني إن والد ووالدة وأحد زميله اتهموه بإنه ضرب ابنهم وجُم ضربوه وسط صحابه”.
وأبدى “محمود” اندهاشه من الواقعة موضحًا أن ابنه تعرّض لإيذاء نفسي وبدني أمام زملائه، وأن مدرّسيه لم يتحركوا للدفاع عنه: “ابنى اتضرب قدام كل الناس، وأم التلميذ اللي ضربته قالت له أنت ضربت ابنى وأنا رديت لك الضربة قدام الناس كلها، ده كلام يا ناس، أنا مش عايز غير حق ابني”.
ورأت الطالبة “هاجر”محمد، ارتكبت جريمة بشعة بتأخرها في دورة المياه، فعاقبتها إحدى المعلمات بالضرب بالخرطوم، حتّى كسرت إصبع يدها، وقال ولي أمر “هاجر”: “إنه فوجئ بتورم يد ابنته في الصف الثاني الابتدائي بإحدى مدارس مدينة الإبراهيمية الشرقية، وعندما سألها عن السبب أخبرته أن معلمة بالمدرسة اعتدت عليها باستخدام “خرطوم” لتأخرها في دورة المياه.
وقال الدكتور “جمال فرويز” استشاري الطب النفسي وأستاذ بكلية الطب جامعة عين شمس: “غالبًا ما يُصاب الأطفال الذين يتعرضون للعنف على أيدي المعلمين أو الآباء بمشكلات عاطفية وسلوكية، كما يؤثر الضغط النفسي أيضًا سلبيًا على مهاراتهم المعرفية وأدائهم الأكاديمي، في حين أن التأثير على الصحة العقلية للطفل لا يحظي باهتمام يُذكر”.
وأضاف “فرويز”: “فإن الأبحاث التي تُظهر التأثيرات على الأداء الأكاديمي، تولِّد اهتمامًا كبيرًا بين المعلمين وأولياء الأمور على حدٍّ سواء، واستخدمت دراسة نُشرت عام 2007 تصميما مستقبليا يمتد على مدى 17 عامًا، درس من خلاله المؤلفون عينة من 231 فتى وفتاة تعرضوا للإساءة اللفظية من قِبَل المعلمين، بدءًا من مرحلة الطفولة ووصولا إلى التخرج في المدرسة الثانوية.
وتابع استشاري الطب النفسي: “وأظهرت النتائج أن الإساءة اللفظية من قِبَل المعلم أثناء الطفولة كانت مرتبطة بالمشكلات السلوكية، كما أظهرت ارتباط الإساءة باحتمالية منخفضة للحصول على شهادة الثانوية العامة بعمر 23 عامًا، مؤكدًا أن نتائج الدراسة السابقة أن العواقب الوخيمة للإساءة المدرسية لا تقتصر على العنف البدني فقط، لكن الإساءة أو التنمر اللفظي لها عواقب أيضًا”.
وعرَّف تقرير صادر عن مركز السيطرة على الأمراض الأميركي “CDC” عام 2014، التنمر بأنه سلوك عدواني غير مرغوب فيه من قِبَل البعض، يتضمَّن اختلالًا ملحوظًا أو متصورًا في القوة، ويتكرر عدة مرات أو يُرجح بشدة أن يتكرر، قد يؤدي التنمر إلى إلحاق الضرر أو الضيق بالشخص المستهدف، بما في ذلك الأذى الجسدي أو النفسي أو الاجتماعي أو التربوي.
وهناك نوعان من التنمر، “مباشر وغير مباشر”، يشمل الأسلوب المباشر السلوكيات الجسدية، مثل دفع شخص ما، بالإضافة إلى العدوان المنطوق أو المكتوبة، أما التنمر غير المباشر فيتضمَّن سلوكيات مثل نشر شائعات عن الشخص محل التنمر تكون خاطئة أو مضللة أو ضارة.
ويُمثِّل التنمر تحديًا مشابها لأشكال أخرى من سوء المعاملة والإهمال، ولكنه فريد من نوعه من نواحٍ رئيسية، منها أنه يُطبَّع ويُتسامح معه، بل قد يصل الأمر إلى حد المكافأة والإعجاب به باعتباره قوة وسُلطة، فمثلًا في الولايات المتحدة الأميركية، تعرَّض أكثر من 77% من الطلاب الأميركيين للتنمر اللفظي والعقلي والبدني.
بالإضافة إلى نحو 85% من هذه الحوادث لا تتلقى أي نوع من التدخل، حيث إن من الشائع تجاهل التنمر، كما أن المبلغين عن حدوث التنمر في المدارس قد يتحولون إلى كبش فداء، وقد يُنبَذون هم أيضًا، كذلك من جوانب التنمر الغريبة أيضًا أن اللوم يُلقى على الضحايا خلاله.
وقد يؤدي التنمر إلى إلحاق الضرر أو الضيق بالشخص المستهدف، بما في ذلك الأذى الجسدي أو النفسي أو الاجتماعي أو التربوي، لكن شيوع التنمر له عواقب لا يُستهان بها، ويمكن أن يساهم في تطوير الاكتئاب والقلق وتدني احترام الذات، وقد يصل بالبعض في مرحلة المراهقة والشباب إلى تعاطي المخدرات وخطر التورط في الجريمة.
ويمكن أن يؤدي التنمر إلى زيادة الضغط العاطفي والتفكير الانتحاري، أيضًا ربطت الأبحاث التنمر بالإصابة بالقلق الاجتماعي، بالمثل قد يرتبط التعرُّض للتنمر بحدوث مشكلات النوم، والتبول في الفراش، على سبيل المثال، وجدت دراسة أن الأطفال الذين يتعرضون للتنمر بين سن 8/10 سنوات هم أكثر عُرضة لتجربة المشي أثناء النوم أو الذعر الليلي أو الكوابيس في سن 12 عامًا.
هذا بخلاف الأعراض الجسدية للتنمر التي تشمل آلام المعدة، والصداع، والألم المزمن، وجميعها مشكلات جسدية غير مُبررة طبيًا، أيضًا يمكن أن يكون للتنمر تأثير سلبي محتمل على الدماغ والنمو الاجتماعي/النفسي، كما أنه يرتبط بانخفاض الأداء الأكاديمي، وحدَّد باحثو هارفارد العاملون في مستشفى ماكلين في بلمونت، ماساتشوستس.
ويوجد بعض أنواع تشوهات الدماغ التي لوحظت مع حوادث الإساءة والإهمال التي حدثت في الطفولة، يوضح الباحث مارتن تيتشر: “تؤدي تفاعلات الطفل مع البيئة الخارجية إلى تكوين روابط بين خلايا الدماغ، ثم يتم تقليم هذه الوصلات خلال فترة البلوغ، لذا فإن أيًّا كان ما يمر به الطفل، سواء كان ذلك جيدًا أو سيئا، فإنه يساعد في تحديد كيفية عمل دماغه”.
وفي دراسة أُجريت على مجموعة الطلاب اليونانيين، قُيِّمت الإساءة العاطفية من قِبَل المعلمين والدعم الاجتماعي من الأسرة والأقران، ومدى تأثير هذه العوامل على الثقة بالنفس والأداء النفسي في عينة من طلاب المدارس اليونانية الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 9/12 عامًا.
وأظهرت النتائج أن التعرض للإيذاء العاطفي من قِبَل المعلمين كان مؤشرا لحدوث مشكلات سلوكية لدى طلاب المدارس، لكن الدراسة نفسها أظهرت أن تأثير الإساءة العاطفية من قِبَل المعلمين على الأداء النفسي قد تضاءل جدا عند حصول الطالب على الدعم الاجتماعي الذي يُعزز الثقة بالنفس، وفقًا لما أظهرته الدراسة، فالدعم الاجتماعي هنا يُعَدُّ عاملا وقائيا مُهما لتحقيق المرونة ضد الإساءة العاطفية من قِبَل المعلمين.
وتبقى المشكلة الأكبر في هذا النوع من الإساءات أن عواقبه تستمر مع الطفل حتى بعد مرحلة البلوغ، وجدت دراسة أجراها عام 2014 باحثون في “King’s College London”، في المملكة المتحدة أن الآثار الاجتماعية والجسدية والعقلية السلبية للتنمر في مرحلة الطفولة لا تزال واضحة حتى بعد بلوغ 40 عامًا.
وجد الباحثون في الدراسة أيضًا، أنه في سن الخمسين، كان المشاركون الذين تعرضوا للتنمر عندما كانوا أطفالًا أكثر عُرضة لأن يكونوا في حالة صحية بدنية ونفسية أسوأ، ولديهم أداء إدراكي أسوأ من الأشخاص الذين لم يتعرضوا للتنمر، وُجد أن ضحايا التنمر على الأرجح قد يصبحون عاطلين عن العمل، ويكسبون أقل.
ويكون ولديهم مستويات تعليمية أقل من الأشخاص الذين لم يتعرضوا للتنمر، كما أنهم كانوا أقل احتمالًا لأن يكونوا في علاقة ناجحة أو لديهم دعم اجتماعي جيد، ما يعني أنهم ظلوا يدفعون ثمن الإساءات التي تعرضوا لها في الطفولة طوال العقود التالية من حياتهم.