تحقيق ـ بسملة الجمل
قد تستيقظ امرأة ذات صباح على زلزال يهز كيانها، لا صوت، لا تفسير، فقط ورقة صامتة تقول: “أنتي طالق”، لا مواجهة، لا عتاب، ولا حتى فرصة لقول كلمة أخيرة، هكذا يسدل الستار على حياة شاركت فيها بالعمر والمشاعر، ليبقى السؤال: كيف يتحول قرار مصيري إلى فعل منفرد، الطلاق الغيابي ليس مجرد إنهاء علاقة، بل أحيانًا صفعة تتلقاها المرأة دون سابق إنذار، فتتصدع نفسيتها وتتغير ملامح عالمها إلى الأبد.
الطلاق الغيابي قانونيًا هو انفصال يتم من طرف الزوج فقط، دون حضور الزوجة، وغالبًا دون علمها، ويُسجل في المحكمة ويُرسل لها كإخطار رسمي لاحقًا، ورغم أنه إجراء شرعي إلا أنه في الواقع قد يتحول إلى وسيلة للهروب من المسؤولية، وكثير من النساء يجدن أنفسهن فجأة محرومات من حقوق مالية أو حضانة أطفال.
صدمة الطلاق الغيابي.. دعاء عاشت مطلقة 18 شهرًا دون أن تدري
في واحدة من أغرب القضايا التي وثقتها محكمة الأسرة، حيث كشفت مأساة إنسانية عايشتها “دعاء.م.”، تبلغ من العمر 30 عامًا، القادمة من محافظة الشرقية، والتي وجدت نفسها مطلقة منذ أكثر من عام ونصف دون أن تعلم، بينما كانت تعيش تحت سقف واحد مع زوجها “صابر.ع”، وتمارس دور الزوجة بكل تفاصيله.
وتبدأ القصة كأي حكاية ريفية تقليدية، حين تقدم لخطبة دعاء شاب من الجيران، ووافق والدها سريعًا، وباركت العائلة الزيجة، وانتقلت دعاء بعد الزواج إلى القاهرة حيث يعمل زوجها، كما رزقا بعدها بثلاث أطفال، أحدهما من ذوي الهمم، ولكن سريعًا ما بدأت الخلافات المادية تطفو على السطح، وظهر وجه آخر لزوجها وصفته في التحقيقات بـ”البخيل” و”المتهرب من مسؤولياته”.
كذلك العجز عن تغطية نفقات علاج الابن المريض كان بداية الانهيار، ولم يكن أمام صابر إلا اتخاذ قرار غريب وغير متوقع وهو طلاق زوجته غيابيًا دون علمها، وبالاتفاق مع المأذون، لكنه استمر في معاملتها كزوجته، يعيش معها في نفس المنزل، ويمارس الحياة الزوجية، وكأن شيئًا لم يكن.
واستمرت دعاء في هذا “الزواج الوهمي” لمدة 18 شهرًا، حتى بدأت سلسلة من المشكلات والاعتداءات الجسدية، وفي يوم ما تعرضت للضرب والسحل، وأصيبت بسلاح أبيض “سكين”، ما دفعها للتوجه إلى قسم شرطة مصر القديمة لتحرير محضر رسمي ضد زوجها.
ولكن صابر ببراعة من اعتاد المراوغة، نجح في استدرار عطفها، وطلب منها التراجع عن البلاغ والعودة للمنزل، مدعيًا الرغبة في الصلح، وما إن وصلت دعاء إلى باب الشقة، حتى صدمها بعبارته القاتلة: “من النهاردة رجلك مش هتخش الشقة، أنا مطلقك من سنة ونص”.
أصابتها الصدمة بالذهول، كيف يعيش معها طيلة هذه الفترة وكأنها زوجته، كيف خدعها بهذه البساطة، ولماذا أخفى الطلاق، الأسئلة لم تنته، لكنها كانت بداية معركة قضائية مريرة خاضتها دعاء للحصول على حقوقها الشرعية.
واكتشفت أن زوجها تعمد الاتفاق مع المأذون على عدم إرسال نسخة من وثيقة الطلاق للسجل المدني، ليحرمها من حقها في النفقة والمستندات الرسمية، وبالفعل عانت عامًا كاملًا في أروقة المحاكم حتى استطاعت الحصول على قسيمة طلاق رسمية، وبدأت المطالبة بحقوقها في نفقة العدة والمتعة ونفقة الأطفال.
وعلى الرغم من الظلم الذي تعرضت له، لم تكن دعاء الضحية الوحيدة، بل كانت مجرد حالة في بحر من نساء يكتشفن أنهن مطلقات بعد أشهر وسنوات من الانفصال الفعلي، في ظاهرة مقلقة تطرح أسئلة كثيرة عن دور المأذون، والثغرات القانونية، وغياب رقابة حقيقية تحمي المرأة من الطلاق الغيابي المتعمد الذي يستخدم كسلاح انتقامي.
هند ضحية طلاق غيابي.. مفاجأة قلبت قصة حب إلى مأساة قانونية
داخل جدران محكمة الأسرة بالتجمع الخامس، وقفت “هند” تحمل قصة لا تصدق، فصلها الأول كان زواجًا عن حب، أما فصولها التالية فقد كتبتها الخديعة والقانون، لتصبح بطلتها ضحية جديدة لظاهرة الطلاق الغيابي.
تروي هند أن حكايتها بدأت عام 2018، حين تزوجت من “عادل” بعد قصة حب طويلة، كانت تحلم بحياة مليئة بالحب والأمان والطفولة المنتظرة، لكن الحلم بدأ يتلاشى بعد عامين من الزواج، حين لاحظت أنها لم تُرزق بطفل، وبدأت رحلة البحث عن السبب.
وبإصرار الزوجة المحبة طلبت من زوجها إجراء فحوصات طبية بعد توصية الأطباء، لكنه كان يتهرب دائمًا، حتى انقلبت المواجهة إلى صدمة، حيث تقول هند: “سألته ليه مش عايز نخلف، وليه مش بيعمل التحاليل، ففاجأني بكلمة قتلتني وأنا واقفة: أخلف منك إزاي وأنا مطلقك من 6 شهور”.
سقطت هند مغشيًا عليها، غير مصدقة أن من عاشت معه لعامين كان قد طلقها غيابيًا منذ الأشهر الأولى للزواج، وظل يخفي عنها الحقيقة، ويعاملها كزوجته في كل تفاصيل الحياة اليومية، رغم أن العلاقة لم يعد لها أي غطاء قانوني.
لم تصمت هند وتوجهت إلى محامي، لتبدأ معركة قانونية مليئة بالمفاجآت، وأثناء جلسات المحاكمة، وقف زوجها أمام القاضي يؤكد أنه طلقها بالفعل بعد 6 شهور فقط من الزواج، بحجة “رفضها للعلاقة الزوجية”، وهو ما أشعل غضب هند داخل القاعة، لتصرخ أمام الجميع: “كذاب، أنا على ذمتك بقالي سنتين، ليه ما قولتليش، ليه عيشتني في وهم”.
لم تتوقف القضية عند ذلك الحد فبحسب أوراق الدعوى، استخدم عادل حيلة قانونية لعرقلة إثبات الطلاق، إذ طلقها في محافظة الغربية رغم أنه يقيم بالجيزة، حتى يضمن بقاء وثيقة الطلاق لدى مأذون بعيد عن محل سكنها، ويصعب عليها الوصول إليها.
وسط هذا التعقيد القانوني والإنساني، أمرت المحكمة بعرض هند على مصلحة الطب الشرعي بعد ادعاءات زوجها، وأجلت الجلسة إلى 25 سبتمبر للفصل في القضية، بينما بقيت هند ضحية جديدة لتراخي الرقابة على توثيق الطلاق الغيابي، وغياب وعي الكثير من النساء بحقوقهن القانونية.
مفاجأة في بطاقة الرقم القومي، شيماء تكتشف أنها مطلقة منذ عام دون أن تدري
بينما كانت “شيماء محمد” ذات الثلاثين عامًا، تقف في طابور مكتب السجل المدني لتجديد بطاقة هويتها، لم تكن تعلم أن لحظة روتينية كهذه ستقلب حياتها رأسًا على عقب، ولم تكن الأوراق العادية هي المفاجأة، بل الخبر الصادم الذي وجدته مدونًا في بياناتها “الحالة الاجتماعية مطلقة”.
تجمدت الدماء في عروقها للحظات، وقامت بإعادة قراءة الكلمة مرة تلو الأخرى، لعل هناك خطأ، لكنها لم تكن تحلم، لقد أصبحت مطلقة بالفعل منذ قرابة عام، دون أن يبلغها أحد، ودون أن تنهي أي إجراء، والأدهى أن زوجها كان قد غادر البلاد منذ فترة بعد سلسلة من الخلافات الزوجية.
وتقول “شيماء” إنها لم تستوعب الصدمة حتى الآن، فهي التي كانت تنتظر عودة زوجها لمحاولة الصلح، وكانت ترسم طريقًا جديدًا لحياتهما، بعيدًا عن التوترات، من أجل طفليهما، لكن بدلاً من الصلح، وجدت نفسها أمام واقع قاسي طلاق غيابي تم دون علمها أو حتى إشعار بسيط.
وحين تواصلت مع زوجها لسؤاله عن حقيقة الأمر، فوجئت برده المستفز الذي حملته نبرة الانتصار، حيث قال لها ببرود: “أردت أسيبلك مفاجأة تعرفيها في الوقت المناسب”، وكأن حياتها مجرد لعبة مؤجلة النهاية.
لم تجد “شيماء” أمامها خيارًا سوى اللجوء إلى القضاء، لتوثيق الطلاق رسميًا، والمطالبة بحقوقها القانونية وهي نفقة، مؤخر، وسكن لاحتضان طفليها، ومنذ ذلك اليوم بدأت رحلة جديدة عنوانها “استرداد الكرامة والحقوق” في مواجهة الطلاق الغيابي، الذي بات فخًا يُنصب لكثير من النساء في صمت.
من زوجة إلى ضحية اغتصاب.. كيف حول الطلاق الغيابي حياة نهلة إلى جحيم صامت
لم تكن تتخيل “نهلة” وهو اسم مستعار حفاظًا على خصوصيتها، أن رحلة الحب التي استمرت ست سنوات ستنتهي بهذه القسوة، حيث تزوجت من الرجل الذي حلمت به طويلًا، ورغم الخلافات البسيطة في الأشهر الأولى من الزواج، قررت السفر إليه عندما اغترب، خاصةً بعد أن حملت بطفله، ظنًا منها أن الحياة ستستقر بوجوده.
وبمساعدة أهلها لحقت به في غربته، وعاشت هناك قرابة ثلاثة أشهر، وعادت وهي تحمل طفلها الأول بين ذراعيها، ظنًا منها أن المستقبل بدأ يتضح، لكن الواقع كان أكثر مرارة مما توقعت، فما إن عادت إلى بيت العائلة، حتى بدأت الخلافات مجددًا، ولم تمضي أيام حتى طُردت من المنزل.
ذهبت “نهلة” إلى قسم الشرطة تطلب حقها في مسكن الزوجية، لكنها تلقت الصدمة الكبرى: وثيقة طلاق غيابي مسجلة رسميًا، تعود إلى ما قبل سفرها إليه، أي قبل أشهر من معاشرته لها، وأشارت “نهلة” أنها أصيبت بانهيار عصبي، حيث لم تصدق، وأول ما فعلته أنها تأكدت أنها ليست أمًا لطفل غير شرعي، بعدها شعرت بذل لا يوصف، اكتئاب وخزي وغضب، كيف يمكن لرجل أن يعيش مع امرأة ويعاشرها، وهو يعلم يقينًا أنها ليست على ذمته.
وتابعت: “كنت أظنه زوجي، أؤدي واجباتي نحوه وأحاول الحفاظ على بيتنا، كنت أمنحه نفسي ظنًا مني أن ذلك حقه الشرعي، فكان يبتسم في كل مرة، وكنت أعتقد أنها ابتسامة رضا أو نشوة رجل، لكنني الآن فقط أدرك معناها، كانت ابتسامة شيطان يتلذذ بالانتقام، لقد كان يذلني متخفيًا وراء قناع الزوج، مستغلًا جهلي وثقتي، ومتماديًا في خيانته لي ولإنسانيتي”.
وبعد هذه الصدمة المدوية، قررت نهلة ألا تصمت، حيث قامت برفع دعوى قضائية تتهم طليقها بـ”الاغتصاب تحت غطاء الزواج”، مؤكدة أنها لم تكن تعلم بأنها مطلقة، وأن معاشرته لها بعد الطلاق الغيابي تمت دون علمها أو رضاها الحقيقي.
وحين حاول المتهم التهرب مدعيًا أنها لا تزال زوجته، كانت المفاجأة أن المحكمة استندت إلى وثيقة الطلاق التي قدمها بنفسه في أوراق سابقة، لتكون دليله ضده، وبعد عام ونصف من المعاناة داخل قاعات المحكمة، صدر الحكم النهائي لصالح “نهلة”، واعتُبر زوجها السابق مدلسًا، وأدين بمعاشرتها وهي مطلقة منه شرعًا وقانونًا دون علمها، ليحكم عليه بالسجن عامًا واحدًا، وتغريمه 10 آلاف جنيه مصري.
32 عامًا من الصمت… وعندما انتهى الصبر اكتشفت أنها مطلقة منذ سنوات
لم تكن “عزة” تتخيل أن نهاية مشوار زواجها الذي استمر أكثر من ثلاثة عقود ستكون بهذه القسوة، حيث تزوجت وهي ابنة السادسة عشر عامًا، وأنجبت أربع بنات، ثلاثة منهن بلغن الجامعة، وأصغرهن كانت حينها لا تزال في المرحلة الإعدادية.
وقررت أن تتحمل وتستمر في الزواج رغم الخلافات، فقط من أجل بناتها، وعاشت سنوات طويلة دون دخل شخصي، متفرغة لتربية أولادها، بينما غاب الزوج عنها ماديًا وعاطفيًا، حتى فوجئت ذات يوم باتصال من محامي يخبرها بخبر صادم: “زوجك طلقك غيابيًا، ومن المفترض أن تتوجهي إلى المحكمة لاستلام قسيمة الطلاق”.
وتضيف “عزة”: “لم أكن أعيش معه فعليًا، لكنه في البداية كان يسأل عن بناته بين الحين والآخر، أما الآن، فقد مرت أربع سنوات لم يدفع فيها نفقة، ولم يرفع سماعة الهاتف للاطمئنان عليهن، رغم أنه ليس مجرد مليونير، بل ملياردير”.
رحلة “عزة” مع المعاناة لم تتوقف عند الطلاق، بعد أن تابعت ابنتها الصغرى دراستها بنظام الدبلومة الأمريكية، تكفلت الأم بجميع المصروفات لمدة ثلاث سنوات، وعندما طالبت الأب باسترداد حقوقها المالية، فوجئت بأنها مطالبة أولًا بسداد المبالغ للمدرسة وتقديم الإيصالات للمحكمة، رغم امتلاكها أحكامًا قضائية تُثبت استحقاقها للمبالغ.
وتطورت القضية لتصل إلى محكمة الاستئناف، وهناك استغل محامي الزوج ثغرة قانونية، فأُعيدت القضية إلى الدرجة الأولى مجددًا، لتبدأ من الصفر.
والصدمة الأكبر كانت عندما اكتشفت “عزة” أن زوجها سبق له الزواج، وأنه أنجب بنتين من زواجه الأول، ثم انفصل عن زوجته لأنه “يرفض إنجاب البنات”، بحسب تعبيره، فتزوج للمرة الثانية منها بهدف إنجاب الذكور، وبعد سنوات اكتشفت أنه متزوج من امرأة أخرى ولديه منها ولدين، ولم تعلم بأمرهم إلا عندما بلغ أحدهما السادسة من عمره والآخر الرابعة، حينها واجهته، ليخبرها ببرود: “انتي حرة، مش عاجبك ما تكمليش”.
قررت “عزة” أن تُكمل عامين بعد تلك اللحظة، تصفهما بأنهما كانا “أبشع سنوات حياتها”، حتى تخرجت بناتها الكبار، فأعلنت قرارها: “اكتفيت، سأكمل الرحلة وحدي مع ابنتي الصغيرة، لم أعد قادرة نفسيًا على التحمل”.
الطلاق الغيابي بين التراخي والتحرر.. كيف يرى المجتمع هذه الظاهرة
ومن خلال الحديث مع بعض المواطنين تنوعت آرائهم، فأكدت “ماجدة النجدي” أن الطلاق الغيابي يعكس حالة من التراخي في العلاقات الزوجية، حيث يصعب على الطرف المتضرر أن يتعامل مع غياب الآخر بشكل قانوني أو عاطفي، مضيفة أن المجتمع غالبًا ما ينظر إلى هذا النوع من الطلاق بنظرة مشككة.
ويعتبر نوعًا من الهروب من المسؤولية أو التهاون في التعامل مع الأزمات الزوجية، ورغم ذلك، أشارت إلى أن هناك من يرى في الطلاق الغيابي فرصة لتحرير الذات من علاقة غير صحية، ويعتبرونها بداية لمرحلة جديدة بعيدة عن القيود الاجتماعية التقليدية.
الطلاق الغيابي بين العراقة والحداثة، كيف غيرت التغيرات الاجتماعية رؤيته
وأشارت “سلمى هاني” إلى أن الطلاق الغيابي ليس ظاهرة جديدة، بل كان موجودًا منذ فترة طويلة، لكنه أصبح أكثر وضوحًا في الوقت الحالي بسبب التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية التي ساعدت في تسريع وتيرة التواصل وإظهار هذه الأنماط بشكل أكبر.
موضحة أن الطلاق الغيابي قد يحدث في حالات كثيرة نتيجة لتغيرات في الظروف الحياتية مثل السفر الطويل أو الهروب من المسؤوليات، وهو يعكس تغيّرًا في مفهوم الزواج والالتزام في العصر الحديث، ورغم أنه قد يكون قديمًا في ممارساته، إلا أن الانفتاح على العالم والتغيرات القانونية جعلت المجتمع يتعامل مع هذه الظاهرة بشكل مختلف عن الماضي.
الطلاق الغيابي بين الظلم الاجتماعي والغياب القسري للمسؤولية
وأوضحت “أميرة علي” أن الطلاق الغيابي قد يعتبر نوعًا من الظلم الاجتماعي في بعض الحالات، خاصةً عندما يجبر أحد الأطراف على التعايش مع الوضع لفترة طويلة دون أن يكون لديه القدرة على إتمام الإجراءات القانونية أو العاطفية، وتابعت أن هذا النوع من الطلاق قد يسبب ضغطًا نفسيًا.
كذلك اجتماعيًا على الطرف المتضرر، الذي يُنظر إليه أحيانًا على أنه ضحية للإهمال أو الهروب من المسؤولية، وعلى الرغم من أن بعض الحالات قد تكون نتيجة لظروف قاهرة مثل السفر أو الغياب القسري، إلا أن المجتمع في الغالب لا يميز بين الأسباب الحقيقية، مما يجعل الشخص الذي يمر بتجربة الطلاق الغيابي يشعر بنوع من الظلم الاجتماعي، إذ يتوقع منه أن يتعامل مع هذه الحالة بشكل منفرد ودون دعم.
الطلاق الغيابي حكم شرعي أم إشكالية أخلاقية
وبالحديث مع أحد علماء الأزهر الشريف، تحدث عن ظاهرة الطلاق الغيابي التي باتت تنتشر في بعض المجتمعات، مؤكدًا أن الطلاق الغيابي صحيح شرعًا، متى تلفظ به الزوج بلفظٍ صريح مقرون بالنية، سواء علمت به الزوجة أو لم تعلم، فالمعرفة ليست شرطًا لوقوع الطلاق، وإنما الشرط هو النية واللفظ، وهو ما اتفقت عليه المذاهب الفقهية الأربعة.
الأبعاد الأخلاقية للطلاق الغيابي في الإسلام
لكن عند الوقوف على هذه المسألة من ناحية أخلاقية، يظهر البعد الإنساني الذي حرص عليه الإسلام في كل تشريعاته، فالله سبحانه وتعالى قال: “وعاشروهن بالمعروف”، والطلاق الغيابي، رغم جوازه، قد يكون خاليًا من هذا “المعروف” إذا استُخدم كأداة للإهانة أو الانتقام أو التهرب من المواجهة، وهنا يُحذر الشيخ من أن “من يُطلّق زوجته دون علمها بنية الإضرار بها، فقد حمل وزرًا أمام الله”، مستدلًا بقوله تعالى: “ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا”.

محكمة الأسرة
كيفية حساب العدة في حالة الطلاق الغيابي
ويتابع الشيخ قائلاً: “إذا وقع الطلاق دون علم الزوجة، فالعدة تُحسب شرعًا من تاريخ وقوع الطلاق، لا من وقت معرفتها به، لكن إذا تأخر علمها كثيرًا، نأخذ بالأحوط ونبدأ العدة من وقت العلم، خاصةً إذا وُجد احتمال لاختلاط الأنساب أو حصول حمل”.
التعامل الإسلامي مع الطلاق كحل للهروب من المواجهة
وإن كان بعض الأزواج يستخدمون الطلاق الغيابي كحل للهروب من المواجهة، فإن الإسلام يُفضل إعلام الزوجة واحترامها حتى في لحظة الفراق، ويعلق الشيخ قائلًا: “الشهامة والمروءة تقتضي أن يواجه الزوج زوجته، لا أن يتركها تكتشف الأمر مصادفة. فالكرامة لا تُسقط عند الطلاق، بل تُختبر فيه”.
إثم الزوجة في حال عدم علمها بالطلاق
أما من جهة المرأة، فيؤكد الشيخ أن “لا إثم على الزوجة إذا لم تكن تعلم أنها مطلقة، فعلمها شرط للمسؤولية، وليس للصحة، والإثم لا يقع إلا بعلم وقصد”.
توثيق الطلاق.. ضرورة لحفظ الحقوق وتفادي النزاعات
وعن توثيق الطلاق، يشير إلى أنه “ليس شرطًا في صحة الطلاق، لكنه ضرورة لحفظ الحقوق، وتفادي النزاعات، وهو ما أقره القانون واعتبره وسيلة لحماية الطرفين”، وبعض المذاهب كالمذهب المالكي ترى أن الإشهاد مستحب، لا واجب، لكنه أقرب للعدالة.
حالات يُستحب فيها الطلاق الغيابي
وختامًا، ينوه الشيخ إلى أن هناك حالات يُستحب فيها الطلاق الغيابي، كوجود خطر من المواجهة، أو استحالة التواصل، أو غياب الزوجة الطويل، بشرط ألا يكون الغياب وسيلة للإهانة أو التلاعب، الطلاق الغيابي إذًا، ليس مجرد ورقة تُرمى في الخفاء، بل موقف شرعي وأخلاقي يُحاسب فيه الإنسان أمام الله أولًا، وأمام ضميره ثانيًا.
الطلاق الغيابي في القانون المصري بين الاعتراف الرسمي والآثار القانونية
يعد الطلاق الغيابي من أنواع الطلاق المعترف بها رسميًا في القانون المصري، حيث يتم توثيقه إما لدى المأذون الشرعي أو أمام المحكمة دون الحاجة إلى حضور الزوجة، ويعتبر الطلاق صحيحًا وساري المفعول من تاريخ وقوعه وتوثيقه، إلا أن القانون المصري اشترط ضرورة إخطار الزوجة بالطلاق خلال مدة لا تتجاوز سبعة أيام من تاريخ التوثيق.
وفي حال تأخر الإخطار، فإن الطلاق يظل صحيحًا من الناحية القانونية، إلا أن هذا التأخير قد يؤثر على بعض حقوق الزوجة مثل احتساب مدة العدة والنفقة، وإذا ثبت أن الزوج تعمد إخفاء الطلاق عن الزوجة، فقد يواجه المساءلة القانونية بما يحفظ حقوق الزوجة ويعاقب الإضرار بها.
حقوق الزوجة بعد الطلاق الغيابي بين المطالبة والضياع
ويبدأ الطلاق الغيابي بأن يتوجه الزوج إلى المأذون الشرعي أو المحكمة المختصة، حيث يقدم إقرارًا رسميًا برغبته في الطلاق مع تقديم بيانات الزوجة كاملة وصحيحة، ويشترط وجود شاهدين عدلين على واقعة الطلاق لضمان صحة الإجراءات، وعقب ذلك يتم استخراج شهادة الطلاق الرسمية، ثم يلزم الزوج بإخطار الزوجة خلال مدة سبعة أيام، ويتم ذلك عبر وسائل الإخطار الرسمية لضمان علم الزوجة بحقوقها وتمكينها من اتخاذ ما يلزم من إجراءات قانونية.
لا يجوز للزوجة الطعن على الطلاق لمجرد أنه تم غيابيًا، إذ إن الطلاق الغيابي لا يُبطل بغياب الزوجة عن مجلس الطلاق، ولكن، إذا شكت الزوجة في وجود شبهة تزوير أو انعدام الشهود أو وجود أخطاء جوهرية في البيانات الرسمية، فمن حقها اللجوء إلى القضاء للطعن على الطلاق والمطالبة بإلغائه أو تصحيح البيانات، كما أنه بعد علم الزوجة بالطلاق الغيابي، سواء فور وقوعه أو بعد مدة طويلة.
يحق لها المطالبة بحقوقها الشرعية مثل نفقة العدة التي غالبًا ما تقدر بثلاثة أشهر، ونفقة المتعة، وكذلك المؤخر المثبت في عقد الزواج. وتتم المطالبة بتلك الحقوق بناءً على شهادة الطلاق أو أي وثائق تثبت تاريخ الطلاق، ويتيح القانون للزوجة الحق في المطالبة بحقوقها بأثر رجعي من تاريخ الطلاق، بشرط ألا تكون هذه الحقوق قد سقطت بالتقادم، خاصةً إذا لم يتم إخطارها رسميًا بالطلاق.
الطلاق الغيابي والطلاق بحكم المحكمة وجهان لقصة انفصال واحدة
ويميز القانون المصري بين الطلاق الغيابي والطلاق بحكم المحكمة، إذ يتم الطلاق الغيابي بإرادة منفردة من الزوج دون الحاجة إلى رفع دعوى أو الحصول على حكم قضائي، بينما يكون الطلاق بحكم المحكمة بناءً على طلب الزوجة لضرر أو خلع، ويتطلب ذلك إجراءات قضائية وإثبات الضرر أمام المحكمة. ويختلف أثر كل نوع على إجراءات الحقوق والواجبات بين الطرفين بعد الطلاق.
كيف يتحول الطلاق الغيابي إلى وسيلة لحرمان الزوجة من حقوقها
أما عن الحضانة، فإن الطلاق الغيابي لا يؤثر على أحقية الأم في حضانة الأطفال طالما توافرت الشروط القانونية اللازمة لذلك، وتنظم المحكمة حق الرؤية بناءً على طلب الأب، بما يراعي مصلحة الأطفال ويحمي حقوق الطرفين، وجدير بالذكر أن بعض الأزواج قد يلجأون إلى استخدام الطلاق الغيابي.
وذلك للإضرار بالزوجة عبر حرمانها من علمها بالطلاق وما يترتب عليه من حقوق مالية، ولكن القانون المصري ألزم الزوج بالإخطار الرسمي للزوجة ومنحها حق المطالبة بحقوقها حتى بعد مرور فترة طويلة، مع توقيع عقوبات قانونية على الزوج حال ثبوت تعمده الإخفاء.
مناقشات تشريعية لتقييد الطلاق الغيابي وحماية حقوق المرأة
وفي سياق آخر، تجري مناقشات موسعة داخل الأوساط التشريعية حول ضرورة تعديل أحكام الطلاق الغيابي والطلاق الشفوي، حيث تتجه المقترحات إلى اشتراط حضور الزوجة أثناء الطلاق أو على الأقل ضمان إخطارها الفوري لضمان حفظ حقوقها وعدم المساس بمركزها القانوني، ورغم أن هذه التعديلات لم تصدر بشكل نهائي حتى الآن، إلا أن النقاشات بشأنها لا تزال قائمة، مدفوعة برغبة في تحقيق قدر أكبر من العدالة وحماية حقوق النساء في حالات الطلاق الغيابي.
وفي النهاية، يكشف الطلاق الغيابي عن فجوة عميقة بين النصوص القانونية والواقع الاجتماعي، حيث تتحول حقوق المرأة أحيانًا إلى ضحية لصمت القوانين أو تراخي الرقابة، بينما يحلم الكثيرون ببداية جديدة بعد الانفصال، حيث يجد آخرون أنفسهم عالقين في دوامة من الألم والخداع، ومع تزايد هذه الظاهرة، يبقى السؤال معلقًا: متى نحمي إنسانية المرأة قبل أن نحمي الإجراءات الورقية، ومتى يصبح للعدالة صوت أعلى من أوراق الطلاق الصامتة.