تحقيق ـ بسملة الجمل
كانت ترتدي زي المدرسة، لكن بدلاً من الذهاب إلى حصتها الأولى، استقلت شاحنة صغيرة متجهة إلى المصنع، بين ضجيج الماكينات وروائح القماش، جلست طفلة في عمر الزهور، تعمل بصمت يشبه الصدمة، وكأنها تسأل نفسها “هل هذا مكاني، أليس من المفترض أن أكون على مقعد في الصف، لا على كرسي أمام ماكينة خياطة”.
في عمق المدن الجديدة، حيث تنمو المصانع كالفطر، تقفز الفتيات من مرحلة الطفولة إلى دنيا الكبار قبل أوانهن، هناك تحت وطأة الحاجة، والغياب شبه التام للرقابة، تتحول أحلام الطفلات إلى ساعات عمل طويلة، تتقاضين في نهايتها أجرًا لا يليق بكرامتهن ولا بأعمارهن.
فتيات صغيرات يتخلين عن حقهن في التعليم، ويخضن معارك الحياة مبكرًا، في بيئة لا ترحم، دون سند أو حماية كافية، وبين غفلة المجتمع وتراخي القوانين، تستمر القصة، كنها لا تنتهي بنهاية سعيدة، بل بطفلة أنهكها العمل، قبل أن تكمل لعبتها الأولى.
فاجعة بنات المنوفية.. تسع عشرة زهرة تذبل على طريق العمل
شهد الطريق الإقليمي بمحافظة المنوفية، وتحديدًا أمام قرية مؤنسة التابعة لمركز أشمون، حادثًا مأساويًا اهتز له وجدان المصريين، حين اصطدمت شاحنة نقل ثقيل بسيارة ميكروباص.
كانت تقل 19 فتاة من قرية كفر السنابسة، خرجن في طريقهن للعمل بأحد الحقول الزراعية، وأسفر الحادث عن وفاة 18 فتاة وسائق الميكروباص في الحال، فيما أصيبت ثلاث فتيات بإصابات بليغة، نقلن على إثرها إلى المستشفى في حالة حرجة.
كان الفتيات المتوفيات يعملن بأجر يومي لا يتجاوز 130 جنيهًا في حقول العنب القريبة من المنطقة الصناعية بكفر داوود، خرجن من منازلهن مع بزوغ الفجر، بحثًا عن لقمة عيش، ولم يعدن أبدًا.
وتراوحت أعمار الضحايا بين الرابعة عشرة والثالثة والعشرين، ومن بينهن: “شروق خالد” 20 عامًا، “هدير عبدالباسط” 21 عامًا، “شيماء محمود” 21 عامًا، “تقى محمد” 20 عامًا، “جنى المحي” 19 عامًا، “هنا مشرف” 14 عامًا، “مروة أشرف” 19 عامًا،.
بالإضافة إلى”آية زغلول” 21 عامًا، “ميادة يحيى” 17 عامًا، “ملك”، “سمر”، “إسراء”، “رويدا، ضحى”، و”أسماء خالدة قنديل”، نعوشهن البيضاء حملتها سيارات الإسعاف، كتب على كل منها اسم الضحية لتوديعها من قبل ذويها، في مشهد مؤلم لا ينسى.
لم يكن الحادث مجرد مأساة مرورية؛ بل كشف عن أزمة أعمق تتمثل في تشغيل الفتيات القاصرات في ظروف عمل غير آمنة، ومن دون حماية قانونية كافية، فتيات في عمر الزهور يجبرن على ركوب وسائل نقل غير آدمية.
بالإضافة إلى أنهم يقضين ساعات طويلة في العمل بأجر زهيد، هذه الحادثة فتحت من جديد باب التساؤلات عن ضعف الرقابة، إلى جانب تغاضي بعض أصحاب الأعمال عن القوانين، وغياب آليات حماية القاصرين في سوق العمل.
الطفولة ليست مكانًا للعمل بل للتعليم والحماية
ومن خلال الحديث مع بعض المواطنين تنوعت آرائهم، فأكد “أيمن محمد” أنه لا يمكن أن يقبل على الإطلاق أن تعمل ابنته، أو أي طفلة في سن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، في مصنع أو ورشة، معتبرًا أن هذا النوع من العمل في هذا العمر هو انتهاك صريح لطفولة الفتيات وحقوقهن الأساسية.
مضيفًا أنه في هذا السن الصغير، يجب أن تكون الفتاة في مقاعد الدراسة، تنمو وتتعلم وتحلم بمستقبلها، لا أن تزج في بيئة عمل شاقة قد تعرضها للخطر النفسي والجسدي، إن الطفولة ليست مرحلة للعمل، بل للتربية والتعليم والحماية، كما رفض تمامًا أن تستغل الظروف الاقتصادية لتبرير ما لا يمكن تبريره أخلاقيًا أو إنسانيًا.
وأوضحت “ماجدة النجدي” أنها لا تتمنى أبدًا أن تضطر ابنتها لترك المدرسة من أجل العمل، حتى لو كانت الظروف الاقتصادية صعبة، مشيرة إلى أن التعليم هو السند الحقيقي لأي فتاة، وبدونه تفقد الكثير من حقوقها وفرصها في الحياة.
مؤكدة، قائلة: “أدرك أن الفقر قد يدفع بعض الأسر لاتخاذ قرارات قاسية، لكنني أؤمن أن التضحية بتعليم البنت ليست حلًا، بل بداية لسلسلة من المعاناة، سأبحث عن أي طريقة أخرى لمساعدة الأسرة دون أن أحرم ابنتي من حقها في الدراسة، لأن العلم هو الأمان الوحيد الذي يمكن أن يحميها في المستقبل”.
كما أشار “هاني منجدي” إلى أن فكرة تحميل الفتيات الصغيرات مسؤوليات العمل في سن مبكرة تحت مبرر “تعليم المسؤولية” هي فكرة مضللة وخطيرة، مؤكدًا أن الطفولة ليست مرحلة للعمل، بل للتعلم والنمو واللعب في بيئة آمنة.
موضحًا أن العمل في سن صغيرة لا يعلم المسؤولية، بل يسلب من الطفلة حقها الطبيعي في أن تعيش كطفلة، المسؤولية تبنى بالتربية والتعليم، وليس بالعمل الشاق والخروج لمصانع أو ورش وهي لا تزال في عمر الزهور، هذا النوع من المعاناة يترك ندوبًا نفسية تدوم طويلًا، ويفرض على الطفلة أدوارًا أكبر من طاقتها.
كذلك أكدت “سلمى هاني” أن عمل الطفلات في سن مبكرة، خاصةً في بيئات غير مؤهلة، يعرضهن بشكل مباشر لمخاطر عديدة، أبرزها التحرش والانتهاكات، فضلًا عن غياب أي حماية قانونية حقيقية في كثير من الحالات، مضيفة أن البنت في عمر 13 أو 14 سنة لا تملك الأدوات النفسية أو الاجتماعية للدفاع عن نفسها وسط بيئة عمل قاسية.
بالإضافة إلى جودها في أماكن مغلقة أو وسط عمال بالغين دون رقابة أو إشراف يجعلها هدفًا سهلًا للتحرش أو الاستغلال، وهو أمر نراه ونسمع عنه كثيرًا، لكن غالبًا ما يتم التستر عليه أو تجاهله، حماية الفتاة من هذا المصير مسؤولية المجتمع بأسره، لا مجرد قرار أسري فردي.
كما أوضح “محمد علي” أن تعامل المجتمع مع عمل الفتيات القاصرات فقد حساسيته تدريجيًّا، وبات الأمر يُنظر إليه باعتباره “أمرًا معتادًا”، لا يثير الدهشة كما كان في السابق، قائلًا: “للأسف، الناس بدأت تتعود تشوف بنات صغيرين بيشتغلوا في مصانع وورش من غير ما تستغرب أو تعترض”.
مضيفًا: “اللي كان زمان يعتبر مأساة، بقى النهارده مشهد عادي، وده شيء مرعب، لأن الطبيعي إننا نرفض ونحاسب ونحميهم، مش إننا نمر على المشهد وكأنه مش موجود، التجاهل ده جزء من المشكلة، وبيخلي الاستغلال يستمر بدون مقاومة حقيقية”.
الآثار النفسية القاسية على الفتيات العاملات
أكد الدكتور محمد الوصيفي أستاذ الطب النفسي وعلاج الإدمان بكلية الطب جامعة المنصورة، أن بيئة العمل القاسية تترك آثارًا نفسية عميقة على الأطفال، خاصةً الفتيات، مشيرًا إلى أنها تؤدي إلى القلق المزمن، واضطرابات النوم، ومشاعر العجز والذنب، بالإضافة إلى ضعف تقدير الذات والإحساس بعدم الأمان والاضطهاد، خصوصًا في حال تعرض الطفلة للاستغلال أو العنف الجسدي أو اللفظي أو الجنسي.

الدكتور النفسي محمد الوصيفي
وأوضح الدكتور محمد الوصيفي أن العمل المبكر يعيق النمو العاطفي والاجتماعي للأطفال، حيث يمنعهم من بناء علاقات سوية مع أقرانهم، ويعطل تطور المهارات الاجتماعية مثل التعاون والتعاطف، مؤكدًا أن هذا النمط من الحياة ينتج نضجًا مبكرًا قسريًا، لكنه سطحي وغير صحي.
وأشار “الوصيفي” إلى أن هناك علامات نفسية واضحة تظهر على الأطفال الذين يُجبرون على العمل في سن مبكرة، أبرزها الانطواء أو السلوك العدواني، وفرط الحساسية للنقد، إلى جانب شكاوى جسدية مستمرة مثل الصداع وآلام العضلات دون سبب عضوي، وتدني الأداء الدراسي، إن كانت الطفلة لا تزال تتابع تعليمها، فضلًا عن الحزن المزمن والنظرة السوداوية للحياة.
ولفت الدكتور النفسي إلى أن الفارق بين طفلة عاملة وأخرى متعلمة شاسع، موضحًا أن الطفلة العاملة غالبًا ما تتحمل مسؤوليات تفوق عمرها، وتفقد براءة الطفولة، وتُصاب بالقلق والتعب المزمن، في حين أن الطفلة المتعلمة تنمو اجتماعيًا بشكل سليم، وتشعر بالأمان، ولديها تطلعات واضحة نحو المستقبل.
كما أوضح الدكتور محمد الوصيفي أن غياب اللعب والتعليم والاستقرار الأسري يشكل عبئًا نفسيًا مضاعفًا على الطفلة العاملة، فاللعب يعد متنفسًا للانفعالات، والتعليم مصدر للثقة والمعنى، والاستقرار الأسري عامل أساسي لخفض القلق وتعزيز القدرة على التكيف.
كذلك أكد الدكتور محمد الوصيفي أستاذ الطب النفسي وعلاج الإدمان أن الطفلة العاملة قد ترى نفسها كوسيلة إنتاج فقط، لا كإنسانة لها قيمة، محذرًا من الرسائل المتكررة التي تتلقاها بأنها غير مهمة إلا بما تنتجه، والتي تخلق صورة ذاتية سلبية للغاية.
اضطرابات نفسية تلاحق الطفلات العاملات
وأشار “الوصيفي” إلى أن أكثر الاضطرابات النفسية شيوعًا بين الأطفال العاملين هي اضطرابات القلق، والاكتئاب الطفولي، واضطرابات التكيف، وفي بعض الحالات تصل إلى اضطرابات ما بعد الصدمة “PTSD”.
ولفت الدكتور محمد الوصيفي إلى أن العمل المبكر قد يكون بداية لمشكلات نفسية طويلة الأمد، مثل الإدمان، والدخول في علاقات غير آمنة خلال المراهقة، والعنف الأسري، إضافة إلى تطور أنماط شخصية اعتمادية أو اجتماعية.
وأوضح “الوصيفي” أن بيئة المصنع تحديدًا تشكل ضغطًا نفسيًا مضاعفًا على الفتاة العاملة، إذ تفرض عليها الانضباط القسري وساعات العمل الطويلة وسط ضجيج مزعج وغياب للدعم، ما يؤدي إلى إجهاد نفسي مزمن وفقدان الإحساس بالزمن والمستقبل.
كما أكد الدكتور محمد الوصيفي أن الضغط النفسي الناتج عن بيئة العمل القاسية قد ينعكس على الفتاة، إما بسلوكيات عنيفة تجاه النفس أو الآخرين، أو انسحاب كامل من العلاقات الاجتماعية، أو حتى الخضوع المفرط والتكسر النفسي.
دور الأسرة في الحماية النفسية
كذلك أشار الدكتور النفسي إلى أن دور الأسرة لا يستهان به في حماية الطفلة نفسيًا في حال اضطرت للعمل، من خلال الحوار والدعم العاطفي والتقدير، وتأكيد أن العمل مؤقت وليس بديلًا عن الطفولة أو التعليم.
وحذر “الوصيفي” من تعود بعض الأسر على دخل الطفلة الصغيرة واعتباره بديلًا عن تعليمها، مؤكدًا أن هذا يعزز فكرة تحويل الطفل إلى “أداة اقتصادية”، ويمحو هويته كإنسان في طور النمو، ويُدخل الأسرة في دائرة فقر نفسي واجتماعي.
كما أوضح الدكتور محمد الوصيفي أن الفارق بين الدعم والإهمال من الأسرة كبير؛ فالدعم يخفف الأثر النفسي السلبي، ويمنح الطفلة شعورًا بالأمل، بينما الإهمال يُعمّق جراحها النفسية، ويزيد خطر الانحراف أو الاكتئاب.
وأكد الدكتور النفسي أن التعامل مع طفلة اضطرت للعمل مبكرًا يتطلب دعمًا نفسيًا منظمًا، يشمل جلسات علاج فردية أو جماعية، وإعادة دمجها في بيئة تعليمية آمنة، وبناء مهارات تساعدها على استعادة ثقتها بنفسها والتعبير عن مشاعرها.
كرامة الطفلة فوق الإنتاج.. نداء إنساني للأهالي
وفي ختام حديثه، وجه الدكتور محمد الوصيفي رسالة للأهالي قائلًا: “دخل اليوم لا يجب أن يكون على حساب مستقبل الطفلة وحياتها النفسية، الإنسان لا يقاس بقدرته على الإنتاج فقط، بل بقدر ما نمنحه من أمان وفرصة للنمو الحقيقي، اعملوا على حماية كرامة أطفالكم، لا استنزافها”.
ليست القصة في مجرد أرقام أو شهادات، بل في وجوه صغيرة أنهكها التعب، وطفولة سرقت قبل أوانها، في كل فتاة تجلس خلف ماكينة خياطة أو تقف في ورشة وسط آلات صاخبة، هناك حلم لم يكتمل، وحق ضائع لم تجد من يدافع عنه.
ما بين صمت المجتمع، وغفلة قانون الطفل، تبقى الفتيات القاصرات الحلقة الأضعف في دائرة الاستغلال، والمطلوب اليوم ليس فقط التعاطف، بل تحرك فعلي من الجهات المعنية، وتغيير حقيقي في نظرة المجتمع، فحماية الطفولة ليست رفاهية، بل واجب لا يحتمل التأجيل.