تحقيق – مريم محمد و نسمة هاني
ولم تعد حوادث الطرق مجرد احتمال، بل أصبحت واقعًا يوميًّا يتكرر بالوتيرة نفسها وبالسيناريو ذاته، حادثة تقع كل يوم وضحايا يتساقطون بالعشرات، بينما تكتفي البيانات الرسمية بإحصاء الأعداد.
تحوّل السؤال من”من الذي تُوفي؟” إلى “كم عدد من مات؟”، وكأن الناس مجرد أرقام تُدوّن في سجلات، والمأساة أنّ هؤلاء الضحايا ليسوا من أصحاب السيارات الفارهة، ولا ممن يمتلكون تأمينًا شاملًا، بل هم البسطاء الذين يغادرون بيوتهم كل صباح بحثًا عن لقمة عيش، ولا يعودون أبدًا، لأن الطريق لم يرحمهم، ولأن الإهمال لا يُفرّق بين فقير وغني، ولا بين صغير وكبير.
الطريق الإقليمي.. ليس استثناءً بل نموذجًا متكرّرًا
حادثة الطريق الإقليمي الأخيرة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، فهي مجرد تكرار مأساوي لعشرات الحوادث التي تقع أسبوعيًّا على طرق مصر، يربط هذا الطريق بين ست محافظات، وهو شريان حيوي، لكنه يفتقر إلى أبسط قواعد السلامة، ورغم أنه تحت التطوير منذ ما يزيد على ثمانية أعوام، لا تزال أجزاء كبيرة منه تعمل بنظام “اتجاه واحد ذهابًا وإيابًا”، وكأن أرواح الناس لا تستحق الحماية.
وجميع عناصر الكارثة مجتمعة طريق ضيّق، إنارة ضعيفة، غياب تام للرقابة، وسائقون مرهقون يعملون تحت ضغط، والنتيجة واحدة: “ميكروباص ينقلب، شاحنة تدهس، وجثث تتناثر على الأسفلت”، في مشهد يبدو وكأنه مأخوذ من فيلم عن نهاية العالم.
السؤال الصعب..الذي لا أحد يجيب عنه
تموت الأرواح يوميًّا على الطرق، والمشهد بات محفوظًا، حادث مروّع، صور تُنشر، بيان رسمي، ثم صمت، فنسيان، طرق توصف بأنها “قيد التطوير” منذ سنوات، ومليارات تُخصص لها، لكن الأرض لا تزال محفوفة بالحفر، بلا تأمين، ولا تنظيم، “لماذا لا تُغلق هذه الطرق أثناء أعمال الصيانة، لماذا يُترك المواطن يواجه مصيره على طريقٍ تحت الإنشاء، لماذا يتحمّل السائق وحده نتيجة بطء التنفيذ وسوء التخطيط؟”.

حوادث لا تنتهي
وهنا يبرز السؤال الأهم، الذي يخشى كثيرون من طرحه، “هل الموت على الطرق.. قضاء لا يُرد، أم قرار ناتج عن إهمال وسوء إدارة؟”.
الطريق الإقليمي غير آمن رغم أعمال التطوير
أوضح “أحمد عبد المنعم”، وهو أحد السائقين المعتادين على استخدام الطريق الإقليمي، أن حالته لا تزال تمثل خطرًا داهمًا على حياة المواطنين، على الرغم من مرور سنوات على بدء أعمال الإصلاح والتوسعة.
ويستكملا قائلًا: يُعدّ هذا الطريق من أخطر الطرق التي سلكتها على الإطلاق، فرغم ما يُقال عن أعمال التطوير الجارية، إلا أننا لا نلمس أي تحسُّن حقيقي على الأرض، أجزاء طويلة من الطريق بلا إنارة، والتحويلات غير واضحة، وكأن أرواح الناس لا تساوي شيئًا”.
تساءل “محمود شوقي”، أحد المقيمين بالقرب من الطريق بمنطقة أشمون، “أين ذهبت أموال التجديد؟”، والتي أُعلن عنها أكثر من مرة دون نتائج ملموسة، قائلًا: “تُعلَن مشروعات وتُرصد مليارات، ولكن الواقع لا يعكس شيئًا مما يُقال، ما زال الطريق محفوفًا بالمخاطر، والحوادث تتكرر بشكل مؤلم، إذا كانت هناك ميزانيات صُرفت فعلًا، فأين ذهبت، ومن يُحاسَب على هذا الإهمال الجسيم الذي أودى بحياة المئات”.
مواطنون يروون.. هذا الطريق يقتلنا
ويروي”محمود شوقي”، أحد المقيمين بمنطقة أشمون بمحافظة المنوفية، تعليقًا على تكرار الحوادث بالطريق الإقليمي، إن حالة الطريق أصبحت تمثل تهديدًا دائمًا لحياة المواطنين، رغم ما يُعلن من مشروعات للتطوير، وهذا الطريق لم يعد صالحًا للحياة، ولا للقيادة الآمنة، وعود كثيرة ومبالغ طائلة تم الإعلان عن تخصيصها للصيانة والتطوير، لكننا لا نرى إلا طريقًا تزداد فيه الحفر، وتغيب عنه الإنارة، وتتفكك فيه الأرواح، “نتساءل منذ سنوات، أين ذهبت الأموال؟ ولماذا لا يتغيّر الواقع”.
كما أشار “علاء البدري”، أحد السائقين المعتادين على المرور عبر الطريق من جهة الجيزة، إلى خطورة الوضع في قطاع آخر من الطريق ذاته، قائلًا: “هذا الطريق لم يعد صالحًا للحركة الآمنة من الجيزة حتى المنوفية، الانحدارات مكشوفة، والإشارات مفقودة، ولا رقابة تُذكر، حادث انقلاب الأتوبيس لم يكن استثناءً، بل هو نتيجة طبيعية لطريق تتراكم فيه الأخطاء دون إصلاح، وكأن أرواح الناس لا تعني شيئًا”.
وأشار “إبراهيم فوزي”، من أهالي محافظة الشرقية، إن الطريق الإقليمي بات مصدر تهديد حقيقي لحياة المواطنين، ليس في محافظة واحدة، بل على امتداد خطّه من الدلتا حتى الصعيد.
وان هذا الطريق لم يعد صالحًا للسير عليه في أي اتجاه غير ممهد، تنعدم فيه الإنارة، ولا توجد أي وسائل أمان كالحواجز أو العلامات الواضحة، مررت به أكثر من مرة من جهة بنها وحتى أطراف الفيوم، ولم أجد فرقًا، الطريق كله خطر الحوادث فيه لا تعرف موقعًا بعينه، لأنها تقع في كل مكان، والدم يسيل على الأسفلت من محافظة إلى أخرى، أين الدولة من كل هذا، وأين خُطط التطوير التي يسمعوننا عنها منذ سنوات.
أبرز الحوادث التي شهدتها مصر.. وتوفي فيها العشرات من الموطنين
حادث الطريق الإقليمي محافظة المنوفية “27 يونيو 2025”
شهد مركز أشمون بمحافظة المنوفية حادثًا مروعًا أسفر عن وفاة 19 شخصًا، وإصابة 3 آخرين بإصابات متفرقة، وقع الحادث على الطريق الإقليمي نتيجة السرعة الزائدة، وعدم الالتزام باللوائح المرورية، فضلًا عن تحميل السيارة عددًا من الركاب يفوق الحد المسموح به، وضعف تطبيق القانون.

حادث الإقليمي
الطريق الإقليمي بالشرقية “13 مايو 2025”
وقعت حادثة مأساوية حيث أصيب فيها 20 شخصًا بسحجات وكدمات وكسور متفرقة في أنحاء الجسد، أعلى طلعة السعدين في الطريق الإقليمي باتجاه العاشر من رمضان، نتيجة اصطدام مباشر بين شاحنة نقل كبيرة “تريلا” واوتوبيس ركاب مسببًا في انقلاب.
الطريق الإقليمي بمحافظة الجيزة “6 يناير 2025”
وقعت حادثة مأساوية، فارق شاب الحياة بعد انقلاب دراجتة، أعلى الطريق الإقليمي بمنطقة العياط محافظة الجيزة، والسبب وراء ذلك السائق فقد التحكم في الدراجة أثناء القيادة بسرعة على طريق غير ممهد بشكل كامل، غياب صيانة الطريق من الحفر والاسفلت.
الطريق الإقليمي محافظة مطروح “7 إبريل 2025”
عند الكيلو 80 بطريق مطروح، الإسكندرية الإقليمي الدولي، وقع حادث مروع ومخيف، حيث لفظ شخص أنفاسه الأخيرة، وأصيب 3 آخرون بسحجات وكدمات وكسور متفرقة بأنحاء الجسد، وأن السبب السائقون قادوا بسرعة غير مبررة مما أدى إلى تصاد، وأحد السائقين قام بحركة مفاجئة نتيجة عدم وضوح الاتجاهات على الطريق.
الطريق الإقليمي بمحافظة السويس “14 اكتوبر 2024”
لفظ 12 طالبًا أنفاسهم الأخيرة، وأصيب 33 طالبًا بكسور متفرقة في الجسد، على الطريق الإقليمي الجديد بتجاة السخنة، نتيجة السرعة الزائدة وفقدان السيطرة، والطريق ذو منحدرات خطيرة، ومشهد اعتراضات من من الطلاب حول تكرار الحوادث.
المأساة لا تتوقف عند هذه الحوادث
لكنّ الكارثة لا تقتصر على هذه الحوادث وحدها، ما ذُكر من حوادث هو مجرد نماذج لحوادث تم توثيقها وتداولها إعلاميًا، بينما تقع عشرات الحوادث الأخرى يوميًا دون أن يسمع بها أحد، ودون أن تحظى باهتمام يُناسب حجم الفقد والألم، بعض الحوادث تمرّ في صمت، بلا صور، وبلا بيانات، وكأن أرواح من قضوا فيها لا تستحق حتى الذكر.
المأساة الحقيقية أن هذه الحوادث ليست استثناء، بل أصبحت نمطًا يتكرر، من الشمال إلى الجنوب، من المدن إلى القرى، وعلى طرق مختلفة، زراعية، وصحراوية، وسريعة، المشهد واحد: طريق يفتقر لأدنى شروط الأمان، وسائقون يعملون تحت ضغط، وغياب للرقابة والصيانة، ونتيجة واحدة تتكرر كل مرة: “دماء على الأسفلت، وأسر تُفجع، وحياة تُزهق، ثم صمت طويل، وكأن شيئًا لم يكن”.
أصوات من الشارع.. المواطنون يعلّقون على الحوادث
قال أحمد إسماعيل: “إذا أُجري تحليل مخدرات للسائق وثبتت براءته، فيُحتمل أن يكون خرج لكسب رزقه، ومن الظلم أن يُدان ظلمًا، أمّا إذا ثبت أنّه كان تحت تأثير المخدرات، أو تصرّف بإهمال، فلابد من محاسبته، لأن الحادث أودى بحياة أشخاص وأوقف حياة آخرين، نرجو أن تُطبق العدالة، وأن تُظهر التحقيقات الحقائق بشكل واضح”.
وأضاف “محمد جمال”، في حال ثبوت الخطأ أو تعاطي السائق، يجب أن يُعاقب بالسجن، وأن تُفرض عليه دية لا تقل عن نصف مليون جنيه لكل ضحية، لابد من تشديد العقوبات لتكون رادعة، ويُحدد لكل حالة مدة حبس لا تقل عن عشرين عاماً”.
وأوضح “عمار ياسر”، حتى وإن كان السائق من الأشخاص المحترمين، فإنّ ذلك لا يُعفيه من ضرورة اتخاذ الاحتياطات اللازمة، التعامل مع الأرواح يتطلب وعيًا ومسؤولية، ولا يجوز الاستهانة بقواعد القيادة، من يشعر بالإجهاد أو بعدم التركيز، عليه أن يتوقف فورًا، لأن الطريق ليس مكانًا للمخاطرة”.
حين تتحوّل الطرق إلى مقابر.. الأرقام تتحدث
تعكس الإحصائيات الرسمية حجم الأزمة المتفاقمة على الطرق في مصر، إذ سجّل تقرير صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2024، وقوع أكثر من 7,000 حادث مروري في مختلف أنحاء الجمهورية، أسفرت عن وفاة ما يقرب من 2,000 شخص، وإصابة أكثر من 8,000 آخرين.
ويُلاحظ أن النسبة الأكبر من الضحايا هم من العاملين بالقطاع غير الرسمي، وركّاب الميكروباصات والنقل الجماعي، أي الفئات الأقل حظًّا في وسائل الأمان والتأمين، وتشير الإحصاءات كذلك إلى أن الطرق السريعة والإقليمية تُعد من أكثر المواقع تكرارًا للحوادث الجسيمة، وعلى رأسها الطريق الإقليمي.
أنظمة ذكية هناك.. وإهمال قاتل هنا
بينما تفتقر بعض الطرق الحيوية في مصر لأبسط مقومات السلامة، تُدار الطرق السريعة والإقليمية في دول أخرى بأنظمة ذكية وشاملة، تُراعي حياة الإنسان قبل أي اعتبارات أخرى.
ففي عدد من الدول، تم تزويد الطرق بأنظمة مراقبة رقمية متقدمة، وكاميرات حرارية، ولوحات إلكترونية تفاعلية تُنبه السائقين لحظيًا بأي تغيرات في الحالة المرورية أو الطقس، كما يتم إغلاق أي قطاع تحت الإصلاح بالكامل لضمان سلامة العابرين.
أما في مصر، فلا تزال بعض الطرق، وعلى رأسها الطريق الإقليمي، تعمل بنظام “الذهاب والإياب” في نفس الاتجاه، أثناء الصيانة، دون فصل، ودون تحذيرات كافية، وكأن سلامة الإنسان ترفٌ لا ضرورة له.
التطوير على الورق.. والموت على الطريق
رغم إعلان وزارة النقل وهيئة الطرق منذ أعوام عن خطط طموحة لتطوير الطريق الإقليمي، لا يزال الواقع بعيدًا كل البعد عن تلك التصريحات، ففي مارس 2022، صرّحت الوزارة بأن الطريق سيخضع لتحديث شامل، يشمل توسعة الحارات المرورية، تركيب فواصل خرسانية، وإنارة كاملة للطريق.
كما خُصصت له اعتمادات مالية بملايين الجنيهات، ضمن مشروعات البنية التحتية القومية، لكن وحتى منتصف عام 2025، لا تزال القطاعات الأخطر من الطريق تفتقر إلى الإنارة، ولا توجد فواصل كافية تفصل بين الاتجاهين، فضلًا عن استمرار العمل في بعض المناطق دون إغلاق للطريق، وهو ما يتسبب في وقوع كوارث شبه يومية.
وتبقى الأسئلة معلّقة، “أين ذهبت تلك الاعتمادات، ولماذا لم يتحقق ما وُعد به، ومن يتحمل مسؤولية استمرار هذا الإهمال القاتل؟”.
تُعد الطرق المتدهورة في مصر ليست مجرد مشكلة بنية تحتية، بل أزمة يومية تمس حياة المواطن في كل لحظة، من الضروري أن يحظى هذا الملف باهتمام عاجل، فسلامة الناس تبدأ من تأمين الأرض التي يسيرون عليها، الحلول معروفة، والمقترحات متوفرة، لكنها تنتظر إرادة حقيقية، وقرارات تخرج من الأدراج إلى أرض الواقع، من أجل مستقبل أكثر أمانًا وعدالة.
في مصر الطرق لم تعد فقط وسيلة انتقال، بل أصبحت مرآة تعكس واقعًا يجب مواجهته بشجاعة، التحديات كبيرة، نعم لكنها ليست مستحيلة، إذا تضافرت الجهود بين الدولة والمواطن، وارتفعت قيمة الإنسان فوق أي حسابات أخرى، فكل متر يُرصف جيدًا، وكل حفرة تُغلق، هي استثمار في الحياة.
الطريق الآمن هو حق أصيل لكل مواطن، وهو أول درجات الكرامة والعدالة الاجتماعية، وليس رفاهية كما يتصوره البعض، الطرق ليست مجرد مسارات إسفلتية، بل شرايين تنقل الناس إلى أعمالهم، إلى مدارسهم، إلى بيوتهم، وربما إلى الأمل.
وإذا كان الطريق إلى الأمان يبدأ بخطوة، فإن تلك الخطوة تبدأ بسؤال لا يجب أن نكفّ عن طرحه: “كم روحًا أخرى يجب أن تُزهق، حتى نُدرك أن إصلاح الطرق، هو إنقاذ لحياة”.