إنفراد – نسمة هاني
تتسع ظاهرة التنمّر بين الأطفال في المدارس ومواقع التواصل، لتترك وراءها آثارًا نفسية عميقة لا تُرى بالعين، لكنها تُغيّر في سلوك الطفل وطريقته في رؤية العالم، وفي خضمّ هذه الظاهرة، يختلط الأمر على كثيرين بين الانطواء الناتج عن التنمّر والعزلة المرتبطة بالتوحّد، فيظن البعض أن الطفل الذي يفضل العيش بمفرده أو يتجنّب الآخرين مصابٌ بالتوحّد، بينما تكون الحقيقة أنه يهرب من الأذى أو السخرية.
لكن أين ينتهي التوحّد وتبدأ آثار التنمّر، وهل يمكن أن يقود أحدهما إلى الآخر، تساؤلات كثيرة يطرحها الآباء والمعلّمون، خاصة مع ازدياد الحالات التي يُظهر فيها الأطفال سلوكًا انعزاليًا مقلقًا، وهنا يبرز دور الأسرة في الفهم والاحتواء قبل إصدار الأحكام.
“ليس مرضًا بل حالة إنسانية”.. رؤية الدكتورة سامية خضر حول التوحّد والتنمّر
توضح الدكتورة سامية خضر أستاذ علم الاجتماع، أنَّ التوحّد ليس مرضًا طارئًا أو ناتجًا عن التنمّر، بل هو حالة عصبية ونفسية يولد بها الإنسان، ويُعبَّر عنها في ميل الشخص إلى العيش منفردًا، وتفضيل العزلة عن الآخرين، وربما تناوله الطعام أو اللعب بمفرده.
وتؤكد أنَّ الطفل المتوحّد لا يكره الناس، بل يجد صعوبة في التواصل معهم أو في فهم مشاعرهم، مما يجعله يبدو وكأنه يفضّل الوحدة، بينما هو في الواقع يعيش في عالم خاص به يحتاج من الآخرين أن يفهموه ويحتضنوه لا أن يخافوا منه أو يبتعدوا عنه.
وتضيف أنَّ التنمّر سلوك عدواني قاسٍ يقوم على الإهانة والسخرية وعدم الرحمة، ويختلف تمامًا عن التوحّد، لكنَّه قد يتقاطع معه في نتائجه النفسية، إذ يؤدي التنمّر المستمر إلى انسحاب الطفل من المجتمع وشعوره بالعجز والخوف من الآخرين، وفي بعض الحالات، إذا كان الطفل يعاني من توحّدٍ خفيف، فإنَّ تعرّضه للتنمّر قد يُضاعف من حالته ويزيد من عزله، لأنه يفقد الثقة في التواصل مع الناس.

الدكتورة سامية خضر أستاذ علم الإجتماع
وتُشير الدكتورة سامية، إلى أن الأسرة هي خط الدفاع الأول؛ فكل طفل يعاني من التوحّد يحتاج إلى بيتٍ واعٍ، وأسرةٍ تحتويه وتفهم طريقته في التعبير، بدلًا من تركه في عزلةٍ متزايدة، كما أن الطفل المتنمَّر عليه يحتاج إلى الحماية والدعم النفسي حتى لا يتحوّل خوفه إلى انسحاب دائم أو اكتئاب.
التعليم ليس كتبًا فقط.. بل أمانٌ نفسي للأطفال
وتشدد الدكتورة سامية خضر، على أن المدرسة شريك أساسي في حماية الأطفال، فالمعلمون والإداريون ليسوا فقط ناقلي علم، بل حُماةٌ لبيئة آمنة نفسياً، وتؤكد أهمية تطبيق سياسات واضحة ضدّ التنمّر، وتدريب المعلمين على ملاحظة التغيّرات السلوكية لدى التلاميذ، لأن كثيرًا من حالات العزلة تمرّ دون أن ينتبه إليها أحد.
كما تدعو إلى دمج الأطفال المختلفين داخل الأنشطة المدرسية، وعدم عزلهم أو معاملتهم كحالات خاصة، فالمشاركة تعيد بناء الثقة وتمنح الطفل إحساسًا بالانتماء.
وتقول “خضر”: المجتمع الذي يتعلّم كيف يتعامل مع الاختلاف، هو المجتمع الذي يزرع الرحمة في أجياله القادمة، فالتفهّم ليس مجاملة، بل وقاية من الألم.
وتختتم الدكتورة سامية، أن المجتمع الواعي هو الذي يحتضن أطفاله على اختلافهم، ويمنحهم الأمان قبل التعليم، كما تقول ليس ترفًا تربويًا، بل خط الدفاع الأول عن نفسية الطفل، فبكلمة طيبة أو حضنٍ دافئ قد ننقذه من عزلةٍ تمتدّ لعمرٍ كامل.
في النهاية لا يمكن القول إنّ التوحّد يولّد التنمّر أو أنّ التنمّر يسبّب التوحّد، لكنّ كليهما يشتركان في جرحٍ واحد: الخوف من العالم الخارجي، فالطفل الذي يختلف عن الآخرين لا يحتاج إلى سخريةٍ تُقصيه، بل إلى تفهّمٍ يُقرّبه، والطفل الذي يعاني من التنمّر لا يحتاج إلى لومٍ أو صمت، بل إلى يدٍ تمتد نحوه وتخبره أنّه ليس وحده.