تحقيق ـ بسملة الجمل
قد تمتلك منزلًا واسعًا، لكن قلبها ضاق بما فيه، لم تعد الجدران تسع حزنها، ولم يعد البيت يُشبه الحياة بعد أن رحل من كانت تعيش لأجله، هكذا تبدأ حكاية نساء تركن بيوتهن، بكل ما فيها من دفء وأمان، وسكنّ المقابر، بحثًا عن سكينة مفقودة أو قرب لا يعوض.
مشهد قد يبدو غريبًا، لكنه يتكرر بصمت في زوايا بعيدة من المدينة، ترويه الأعين المنكسرة، والقلوب التي لم تستوعب الفقد، ما بين الحزن والوفاء، والإنكار والانهيار، تمتد أسئلة كثيرة حول هذا السلوك: هل هو نداء قلب مفجوع، أم انكسار نفس تحتاج من يحتويها، بين الرغبة في البقاء قرب الراحلين، وغياب الدعم من الأحياء، تنكشف مأساة لا يراها الكثيرون، لكن المقابر تعرفها جيدًا.
حلمت بهم يطبطبون عليها.. فاختارت أن تبقى بجوارهم للأبد
اختارت “أم أيمن” أن تسكن بين القبور، بعدما لم يعد في الحياة ما يشعرها بالأمان، تركت بيتها، ومعاشها، وذكرياتها القديمة، لتعيش وسط مقابر أبنائها الأربعة الذين رحلوا عنها دفعة واحدة، في حادث مأساوي لا تغيب تفاصيله عن ذهنها، تحاصرها مشاعر الذنب، وتطاردها لحظات الندم، وتردد دائمًا بنبرة مكسورة: “ربنا حقق لي دعائي”، وكأنها تبحث عن غفران مستحيل، أو عن فرصة أخيرة للصلح مع القدر.
وتتذكر “أم أيمن” ما حدث في التسعينات كما لو كان بالأمس، تصف لحظة الفاجعة قائلة إن أبناءها الأربعة كانوا يلعبون “الكوتشينة” في المطبخ، بينما كان والدهم يقلي البطاطس وترك شعلة الغاز دون أن يحكم إغلاقها، مؤكدة أن تماسًا كهربائيًا ناتجًا عن سلك عاري تسبب في انفجار، أودى بحياة أبنائها الأربعة في لحظات، تعترف بأنها كانت تدعو عليهم كثيرًا في لحظات غضب لأنهم كانوا أشقياء، لكنها لم تتخيل أن تتحقق كلماتها بهذه القسوة.
كما تحاول أن تتمالك دموعها وهي تذكر أسماء أولادها: “سيد” كان في الصف الأول الثانوي، “هدى” في ثالثة إعدادي، “إيمان” في أولى إعدادي، و”هند” في رابعة ابتدائي، مؤكدة أن أبناءها كانوا جميلين وحنونين، وأنهم رغم شقاوتهم، كانوا أكثر الناس قربًا لقلبها، موضحة أنها كانت تراهم دائمًا في أحلامها، يأتون إليها بملابس جديدة، ويطبطبون على كتفها، ويطلبون منها ألا تحزن، بينما هي لا تزال تعيش على أطلالهم، تعيد مشهد موتهم في ذاكرتها كل ليلة، وتتحدث إليهم وكأنهم لم يغادروا.
وتشير “أم أيمن” إلى أنها لم تسلم من قسوة الحياة بعد رحيل أولادها، تحكي عن ابنها الوحيد الباقي “أيمن”، الذي تغير بعد زواجه، حتى أنه في لحظة غضب قال لها: “أمي ماتت”، لتشعر وكأنها فقدته هو الآخر، مؤكدة أنها دعت عليه بالموت كما دعت على من قبله، وأنها تشعر بالذنب تجاه نفسها وتجاه الجميع، وتسترجع واقعة أخرى مشابهة حين دعت على زوجة طليقها بعد زواجهم، فتوفيت هي وأبناؤها في ظرف عامين، مما جعلها تعيش في دائرة من الشعور بالذنب والرهبة من دعائها.
وتعيش “أم أيمن” يومها في المقابر وسط ظروف قاسية، بلا أمان ولا خصوصية، مشيرة إلى أنها تخرج كل فترة إلى بني سويف لتشتري حاجاتها من الزيت والسكر والصابون، لكنها ما إن تعود حتى تجد كل شيء قد سرق، حتى البطاطين والحصر لم تسلم من لصوص الليل، مؤكدة أنها لا تستطيع العيش في المقابر كثيرًا بسبب الخوف والوحدة، لكنها لا تجد ملجأ آخر، خاصةً بعد أن ضاق بها البيت، وضاقت بها الحياة.
وتفكر “أم أيمن” في أن تبحث عن سكن آخر يضمن لها القليل من الراحة والأمان، على أن تظل تزور أبناءها من حين لآخر، وتستودعهم دعواتها، تقول إن معاشها لا يكفي لحياة كريمة، وإنها رغم ذلك ذهبت إلى العمرة ثلاث مرات، بحثًا عن طمأنينة لم تجدها على الأرض، وتختم حديثها بنداء للأمهات: “ما تدعوش على عيالكم مهما كانوا، الكلمة بتطلع بتوصل، وأنا بدعي دلوقتي على أيمن، يمكن يرتاح زي ما أنا ارتحت لما روحي اتسحبت مع أولادي من زمان”.
البحث عن السكينة بين الأموات هربًا من جفاء الأحياء
ومن خلال الحديث مع بعض المواطنين تنوعت آرائهم، فأكد “عمر سامح” أن سكن بعض النساء في المقابر بعد وفاة أزواجهن أو أبنائهن لا يعد جنونًا كما يراه البعض، بل هو تعبير صادق عن الحزن والارتباط العاطفي الشديد.
كذلك يرى أن الحزن حين يتجاوز طاقة الإنسان يدفعه إلى البحث عن السكينة في أماكن غير مألوفة، حتى وإن كانت المقابر، مشيرًا إلى أن البعض يجد فيها عزاءً لا يوفره الأحياء، وهدوءًا لا يمنحه البيت الخالي.
الوفاء لا ينتهي بالموت.. بل يبدأ بجواره
وأوضحت “سلمى هاني” أن بقاء بعض النساء بجوار قبور أحبّائهن ليس بالضرورة مرضًا نفسيًا، بل في أحيان كثيرة يكون انعكاسًا عميقًا لمشاعر الوفاء والحب، مشيرة إلى أن الحزن يأخذ أشكالًا مختلفة، وأن البعض لا يستطيع تجاوز الفقد بسهولة، فيتعلقون بالمكان الذي يحتضن من فقدوه، وكأنهم يحاولون تعويض الغياب بالجوار.
الحياة لا تتوقف بالموت.. لكن البعض يحتاج من يذكره
وأشار “أيمن محمد” إلى أن المجتمع بحاجة ماسة لتوعية من يعيشون في المقابر بدافع الحزن، بدلًا من تركهم فريسة للوحدة والانهيار النفسي، معتبرًا أن ترك هؤلاء الأشخاص دون احتواء أو دعم يعمق أزمتهم، ويجعلهم يغوصون أكثر في دائرة الفقد، مؤكدًا أن الدور المجتمعي والأسري مهم في إعادة ربطهم بالحياة من جديد، وتذكيرهم بأن الرحيل قدر، لكن استمرار الحياة ضرورة.
حين يغيب الاحتواء.. تصبح المقابر أحن من البيوت
وأكد “أحمد السيد” أن ما يدفع بعض النساء لترك منازلهن والعيش بجوار القبور يرتبط بتقصير واضح من الأسرة والدولة معًا، حيث تترك المرأة لتواجه حزنها بمفردها دون دعم نفسي أو اجتماعي، فيتحول الفقد إلى عزلة، والعزلة إلى انسحاب كامل من الحياة، فتجد في المقابر سكنًا أحن من بيت فقد معناه.
الشرع يرفض إقامة الأحياء بين الموتى تحت وهم الحنين
أكد الشيخ عبدالعال عزت أحد علماء الأزهر الشريف، أن ترك الإنسان لمنزله والانتقال للعيش بجوار المقابر بدافع التعلق بالميت أمر لا يجوز شرعًا، موضحًا أن هذا التصرف فيه إيذاء للموتى وتعد على حرمة القبور، وهو أمر نهى عنه الإسلام بشكل واضح، مشيرًا إلى أن العيش بجوار القبور لا يعود بالنفع لا على الميت ولا على الحي، بل يعد سلوكًا مرفوضًا دينيًا لما فيه من مخالفة لأدب زيارة القبور، وتحويلها من موضع للعظة والدعاء إلى سكن دائم لا يليق بمكانة الموت.
السكن في المقابر اعتداء على الوقف وامتهان لكرامة الموتى
وأشار الشيخ عبدالعال عزت إلى أن السكن الدائم في المقابر لا يجوز شرعًا، لما فيه من مخالفة لاحترام حرمة الموتى، مؤكدًا أن الأصل في المقابر أنها أماكن مخصصة لدفن المسلمين، ولا ينبغي استخدامها في غير ما خصصت له، موضحًا أن أغلب المقابر تكون أراضي وقف، وشرعًا لا يجوز التعدي على الوقف أو تغييره عن غرضه الأساسي، كما أن السكن فيها يعد امتهانًا لكرامة الموتى ومخالفة لما دعا إليه الإسلام من توقير للمقابر وأهلها.
الحزن لا يدان.. لكن ترك الحياة والسكن في المقابر مرفوض شرعًا
وأوضح “عزت” أن سكن المرأة بجوار قبر زوجها أو ابنها بدافع الحزن والتعلق لا يعد معصية ولا بدعة في حد ذاته، لكنه شدد على أن هذا السلوك مرفوض من الناحية الشرعية إذا ترتب عليه إهمال للحياة أو تعدي على حرمة المقابر، مشيرًا إلى أن الإسلام لا يحاسب الإنسان على مشاعره، بل على أفعاله، موضحًا أن المبالغة في الحزن إلى درجة ترك البيت والسكن في المقابر تعد أمرًا غير مستحب شرعًا، لما فيه من ضرر نفسي واجتماعي، ولأنه لا يحقق نفعًا للميت ولا للحي.
البكاء جائز بضوابط.. والنياحة والعويل منهي عنهما في الإسلام
وأكد الشيخ عبدالعال عزت أن التعبير عن الحزن على الميت جائز شرعًا ما دام في إطاره الطبيعي والشرعي، دون تجاوز أو اعتراض على قضاء الله وقدره، موضحًا أن الضوابط الشرعية تقتضي أن يظل البكاء ضمن حدود الرضا والصبر، دون أن يتحول إلى مظاهر جزع كرفع الصوت بالعويل أو النياحة أو لطم الخدود وشق الجيوب، وهي الأفعال التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم.
كذلك أشار “عزت” إلى أن الحزن شعور فطري لا يحاسب عليه الإنسان، مستدلًا بحديث النبي ﷺ حين بكى على ابنه إبراهيم وقال: “إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون”، لكن الحزن المنهي عنه هو ما يصحبه اعتراض وسخط، لقوله ﷺ: “ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية”.
مخاطبة الميت وزيارة قبره جائزة ما دامت خالية من البدع
وأشار “عزت” إلى أنه يجوز شرعًا مخاطبة الميت والجلوس عند قبره لساعات، خاصةً إذا كان الهدف هو الدعاء له والتذكر بالآخرة، مؤكدًا أن هذا الفعل لا حرج فيه ما دام خاليًا من البدع أو الأقوال المخالفة للعقيدة، موضحًا أن جمهور العلماء رجّحوا أن الميت يسمع كلام الزائر، مستدلين بقول النبي ﷺ: “ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلّم عليه، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام”، مؤكدًا أن زيارة القبور سنة نبوية، ومقصدها العبرة والدعاء، لا الانهيار أو التعلق المرضي.
الأموات يدركون من يزورهم.. ويردون السلام بإذن الله
وأكد الشيخ عبدالعال عزت أن روح الميت تشعر بمن يزوره وتسمع حديثه، مستدلًا على ذلك بما ورد في السنة من أحاديث تدل على إدراك الميت لزيارة الأحياء له، ومن ذلك قول النبي ﷺ: “ما من أحد يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام”، مشيرًا إلى أن هذا الشعور لا يعني اتصالًا مباشرًا كالحياة، لكنه نوع من الإدراك الروحي الذي يكرمه الله به، خاصةً لمن مات على طاعة، موضحًا أن زيارة القبور تظل من السنن التي تجمع بين الدعاء للميت والتذكير بالمآل.
البكاء رحمة مشروعة.. والنياحة من مظاهر الجاهلية المنهي عنها
وأوضح “عزت” أن البكاء على الميت جائز شرعًا، وهو رحمة من الله يرق بها قلب الإنسان، مستشهدًا ببكاء النبي ﷺ على ابنه إبراهيم، موضحًا أن ما نهى عنه الإسلام هو الندب والصويت والنياحة ورفع الصوت بالحزن بشكل مبالغ فيه، مؤكدًا أن هذه المظاهر تعد من أفعال الجاهلية التي حذر منها النبي ﷺ، كما بين أن الإسلام دعا إلى الصبر والاحتساب عند الفقد، لا إلى التشنييع والمبالغة في إظهار الحزن، مشيرًا إلى أن هذه العادات لم تكن من هدي النبي ﷺ ولا من سنته، بل كان يوصي بالرضا بقضاء الله والدعاء للميت بالرحمة والمغفرة.
الصويت والعويل لا يكرّمان الميت… بل يخالفان الشريعة
وأكد الشيخ عبدالعال عزت أن استئجار “ندابات” للصويت على الميت لا يجوز شرعًا، معتبرًا أن ذلك من الأمور المنهي عنها في الشريعة الإسلامية لما فيها من مبالغة في إظهار الحزن، وتشبه بعادات الجاهلية التي حذر منها النبي ﷺ، موضحًا أن هذا الفعل يخالف هدي الإسلام في التعامل مع الموت، والذي يدعو إلى الصبر والرضا والتسليم بقضاء الله، لا إلى إثارة الجزع والعويل، مؤكدًا أن الرحمة بالميت تكون بالدعاء والصدقة، لا بالصراخ والنحيب.
وهكذا يبقى السكن في المقابر ظاهرة تحمل في طياتها جراحًا أعمق من أن ترى بالعين، وأوجاعًا لا يخففها الزمن، نساء حملن الحزن على أكتافهن، ولم يجدن مأوى إلا بجوار من فقدن، فصارت القبور بيوتهن، والذكريات أنيس وحدتهن، لكن بين ألم الفقد ونداء القلب، يقف الشرع والمجتمع داعيًا إلى الصبر والاحتواء، لا إلى الهروب والانطواء، فالوفاء لا يقاس بالبقاء قرب القبر، بل بالدعاء والرضا، ولا عزاء حقيقي إلا حين تعود الحياة لأصحاب القلوب المكسورة، بدعم حقيقي ووعي لا يخذل.