تحقيق – مريم ناصر
يرى كثير من الشباب أن الهجرة تمثل بارقة أمل لمستقبل أفضل، سواء عبر استكمال التعليم في الخارج، أو البحث عن فرصة عمل تضمن لهم حياة كريمة، أو تحقيق مكانة اجتماعية مرموقة لا يجدونها في أوطانهم.
ورغم أن الهجرة قد تبدو بالنسبة لهم فرصة للخلاص من الأزمات المحلية، فإن الحقيقة لا تكون دائمًا كما يتوقعون، فالحلم الذي يتطلعون إليه قد يصطدم بواقع مغاير، حيث يواجه المهاجرون تحديات كبيرة في الدول المستقبلة، بدءًا من صعوبة التكيف مع بيئة جديدة، وصولاً إلى العزلة المجتمعية وصعوبة إيجاد فرص عمل تتناسب مع مؤهلاتهم.
أسباب التعلّق المتزايد للشباب بحلم الهجرة
تحول حلم الهجرة لدى قطاع واسع من الشباب العربي إلى خيار يفرضه الواقع أكثر مما تغذيه الأحلام، البطالة، وتدهور الأوضاع المعيشية، وتدني الأجور تدفع الآلاف كل عام للتفكير في الرحيل، بحثًا عن فرصة حقيقية لحياة كريمة، لا يرى هؤلاء في وطنهم ما يكفي من الحوافز أو الدعم، بل يجدون أنفسهم عالقين في دوامة من الانتظار والإحباط، بينما تبدو لهم البلدان الأخرى أكثر استقرارًا، وأكثر احترامًا لطموحاتهم.
لكن الدوافع الاقتصادية ليست وحدها في المشهد، هناك من يسعى للهروب من واقع اجتماعي ضاغط، أو بيئة خانقة لا تمنح مساحة للتعبير أو التقدم، وتزيد وسائل التواصل من حدة هذه الرغبة، إذ تصدر يوميًا صورًا وقصص نجاح لشباب خاضوا تجربة السفر وحققوا ما عجزوا عنه في بلادهم، وهكذا، لا يعود التعلق بالهجرة مجرد حلم، ولكن يتحول إلى خطة فعلية تنتظر أول فرصة للتنفيذ.
أصوات من الواقع حينما يتحول الحلم إلى دافع للرحيل
يرى “حسين البس” أن الهجرة لم تعد خيارًا أو مغامرة مجهولة، بل أصبحت واقعًا يفرض نفسه على جيل، يؤمن أن الخارج قد لا يكون مثاليًا، لكنه يمنح مساحة من الأمل، والنظام، والفرص التي يفتقدها في بلده، ويوضح “لم أتخذ قرار السفر هروبًا من الواقع، بل رغبة في البحث عن بداية جديدة أعيش فيها بكرامة، وأحقق ما أطمح إليه دون أن أُحارب يوميًا على أبسط حقوقي”.
ويعبر عن مرارة الواقع الذي يعيشه منذ تخرجه، موضحًا أنه لم يجد سوى أعمال بأجور مناسبة ودون أي أمان وظيفي، وهو ما جعله يشعر بإنعدام التقدير تجاه الشباب، “أنا مش بس عايز أسافر عشان الفلوس، ويضيف “لا أسعى إلى الهجرة من أجل المال فقط، بل أطمح إلى العيش في مكان يقدر جهدي، ويمنحني فرصة حقيقية لأكون إنسانًا ناجحًا”، من وجهة نظره، لا تمثّل الهجرة هروبًا من المسؤولية، بل هي محاولة جادة لصناعة مستقبل يليق بطموحاته.
يصارع “إبرام ناصر” أفكاره ومشاعره كلما فكر في الهجرة، فبينما تراوده الرغبة في حياة أفضل بالخارج، يشده شعور الانتماء والخوف من الغربة إلى التراجع، ويقول بنبرة تعبر عن الحيرة، “كثيرًا ما أفكر في السفر، لكن في كل مرة أجد نفسي ممزقًا بين حلمي وبين ما لا أستطيع التخلي عنه”.
ويشير إلى أن قصص النجاح التي يسمعها عن أصدقائه في إيطاليا لا تغريه بما يكفي لتجاوز قلقه من الوحدة والبداية من الصفر، ويؤكد إبرام، وهو لا يزال يبحث عن إجابة لحيرته المستمرة، “ليست المسألة مجرد فرصة عمل، بل قرار مصيري أشعر أنه يأخذ مني أكثر مما قد يمنحني”.
وتعبر “سارة عصام” عن شعورها بالتردد والضياع بين الرغبة في السفر والبقاء في وطنها، تقول: “في البداية كنت متحمسة للسفر، ولكن مع مرور الوقت وبعد أن فهمت كل تفاصيل الهجرة، بدأت أتساءل إذا كان هذا الخيار هو الأنسب لي”، سارة ترى أن الهجرة ليست الحل السحري للمشاكل الاقتصادية التي تواجهها، بل قد تكون بداية لمشاكل جديدة، خاصة عندما تكون الهجرة محفوفة بالمخاطر، كما شهدت ذلك من بعض معارفها.
ويروي “بيتر ميخائيل” إن الصورة التي تخيلها عن الهجرة كانت مثالية، لكنه اصطدم بواقع مختلف تمامًا مليء بالتحديات، أبرزها صعوبة التأقلم والوحدة، والاندماج كان أصعب مما توقعت، لكنني تعلمت كثيرًا من التجربة.
ورغم الصدمة، يؤمن بيتر أن الغربة صنعت منه شخصًا أقوى وأكثر وعيًا، وإن أتيحت له الفرصة مجددًا، فلن يتردد في السفر مرة أخرى، ولكن بعين أكثر نضجًا واختيار أكثر دقة.
رؤية المختصين في الهجرة بين الطرق القانونية والمخاطر المحتملة
يرى الدكتور “أحمد خطاب” الخبير الاقتصادي، أن مسألة الهجرة باتت خيارًا مطروحًا بقوة بين الشباب، لكنها تستوجب الوعي والتمييز بين الهجرة الشرعية وغير الشرعية، فالأولى تعد مسارًا قانونيًا يفتح آفاقًا جديدة للتطور وتحقيق الذات، أما الثانية فهي مجازفة قد تودي بالحياة، ولا تحقق إلا مزيدًا من المعاناة.

الدكتور “أحمد خطاب” الخبير الاقتصادي
ويشير إلى أن الدولة المصرية نجحت بشكل كبير في تقليل نسب الهجرة غير الشرعية بنسبة تتراوح ما بين 80% إلى 90%، من خلال إحكام الرقابة على الحدود، وتوفير بدائل واقعية عبر المشروعات القومية الكبرى التي استوعبت أعدادًا كبيرة من الشباب في قطاعات البناء، والتصنيع، والبنية التحتية.
ويؤكد أن التحسن التدريجي في مؤشرات الاقتصاد المصري منذ عام 2016، ساهم في توفير فرص عمل حقيقية، خاصة في مجالات تعتمد على المهارات الفنية والمهنية، غير أن التحدي الأكبر قائمًا أمام خريجي التخصصات النظرية، الذين يفتقر كثير منهم إلى المهارات العملية المطلوبة في سوق العمل، ولهذا يشدد على ضرورة تطوير الذات من خلال الالتحاق بدورات تدريبية في اللغات الأجنبية، والبرمجة، وتكنولوجيا المعلومات.
ويضيف أن تحويلات المصريين بالخارج تعد أحد أعمدة دعم الاقتصاد الوطني، إذ تسهم بشكل مباشر في توفير العملة الأجنبية، وتخفيف الضغط على ميزان المدفوعات، ويرى أن هذه التحويلات لا تحسن الوضع الاقتصادي على المدى القصير فقط، بل تلعب دورًا استراتيجيًا في دعم الاستقرار المالي للدولة، وتمويل المشروعات التنموية طويلة الأجل.
ويختتم الدكتور “خطاب” رأيه بالتأكيد على أن الهجرة الشرعية يمكن أن تكون وسيلة فعالة لتحسين الواقع الاقتصادي للفرد، شريطة أن تسبقها دراسة دقيقة وتخطيط سليم، كما يدعو الشباب إلى تطوير أنفسهم مهنيًا، والابتعاد عن الطرق المجهولة وغير الآمنة التي لا تفضي إلا إلى الخطر والندم.
ويؤكد الدكتور “مصطفى جمال” استشاري وخبير في شؤون الهجرة ورئيس مجلس إدارة شركة MG للهجرة، أن الهجرة غير الشرعية تمثل مشكلة مركبة ومتجذرة منذ سنوات طويلة، ويرجع نشأتها إلى غياب فرص كافية للهجرة الشرعية، مما دفع الكثير من الشباب في دول العالم الثالث للبحث عن أبواب بديلة للوصول إلى الدول الأوروبية.
ويضيف أن الإعلام، والأعمال الفنية، وحتى الأفلام القديمة ساهمت في تكريس صورة نمطية لدى الشباب مفادها أن النجاح الحقيقي لا يتحقق إلا خارج حدود أوطانهم، مما غذى رغبة السفر والهروب، وهذا التصور ترسخ في أذهان الشباب منذ سن صغيرة، فأصبح الحلم الأوروبي مرتبطًا بالنجاح والمكانة.
ومع ازدياد الأزمات الاقتصادية في أوروبا، بدأت هذه الدول في فرض قيود صارمة على الهجرة الشرعية، مما أدى إلى ظهور طرق غير قانونية يديرها سماسرة وقراصنة، مستغلين أحلام الشباب اليائسة، وأصبحت قضية الهجرة غير الشرعية على رأس أولويات الاجتماعات بين الدول الأوروبية ودول شمال إفريقيا.
يشير الدكتور إلى أن مصر بذلت جهودًا كبيرة مؤخرًا للحد من هذه الظاهرة، من خلال تأمين الحدود، وتشديد الرقابة بالتعاون مع دول البحر المتوسط، ونجحت بالفعل في تقليل نسبة الهجرة غير الشرعية بنسبة كبيرة، مما جعلها لم تعد دولة معبر للهجرة كما في السابق.
ويختتم الدكتور “جمال” حديثه بتوجيه رسالة واضحة للشباب، الهجرة ممكنة، لكن عبر الطرق القانونية فقط، فمصر دولة كبيرة ولها مكانتها، ويجب أن يحترم شبابها أنفسهم ومستقبلهم بالسفر وفق إطار شرعي، يحفظ حقوقهم، ويجنبهم المصير المجهول.
هجرة العقول بين الانحسار الواقعي والطموح المستمر
شهدت معدلات الهجرة الشرعية في مصر تراجعًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، إذ انخفض عدد المهاجرين من 400 في عام 2019 إلى 247 فقط في عام 2023، بما يعادل نسبة تراجع تقارب 22%، ويعود هذا الانخفاض إلى جهود الدولة في تحسين الاقتصاد، وتشديد الرقابة، وزيادة الوعي بمخاطر الهجرة غير الشرعية.
رغم هذا التراجع، تحظى الدول الأوروبية والأمريكية حلمًا للكثير من الشباب، لما توفره من فرص تعليمية ومهنية أكبر، وتغذي هذه الرغبة تصورات راسخة بأن الخارج أكثر عدلًا وتقديرًا للكفاءات، رغم تعقيد إجراءات الهجرة وشروطها الصارمة.

الهجرة
في مواجهة هذا الواقع، اتجهت الدولة إلى إطلاق برامج تدريب وتأهيل مهني تستهدف الشباب، إلى جانب مشروعات قومية تسعى لتوفير بدائل واقعية للهجرة، وتأتي هذه التحركات في محاولة لتحسين بيئة العمل وتوفير فرص حقيقية داخل الوطن.
ورغم بقاء الهجرة خيارًا قائمًا لدى بعض الشباب، إلا أن وعيًا جديدًا بدأ يتشكل بأهمية المسارات القانونية للهجرة، وأهمية البقاء للمساهمة في البناء الوطني، فالرهان اليوم لم يعد فقط على السفر، بل على خلق فرص داخلية تحفظ الكرامة وتضمن المستقبل.