تحقيق – نسمة هاني
في مجتمعٍ لا يزال يحكم على النساء بمقاييس قديمة، ويختزل دورهن في الأمومة والإنجاب، تقف كثير من النساء في مواجهة صامتة مع نظرات قاسية، وتعليقات مؤذية، واتهامات غير منصفة، العقم الذي قد يكون خارجًا تمامًا عن إرادتهن، يتحول إلى سجنٍ اجتماعي ونفسي، تحاصِرهن فيه العائلة، والمجتمع، وأحيانًا أقرب الناس إليهن.
ويظن البعض أن الألم في العقم هو ألم طبي فحسب، لكن الحقيقة أن الجرح الأعمق لا تسببه الإبرة أو الدواء، بل الكلمة الجارحة، والنظرة المتفحصة، والاتهام المُبطّن بالعجز، وكأن المرأة وُجدت فقط لتكون أمًّا، وما لا يدركه الكثيرون، أن العقم قد يصيب الرجل أو المرأة أو كلاهما، أو قد يكون دون سبب طبي واضح، ومع ذلك تظل المرأة هي المتهم الأول.
نقترب من معاناة هؤلاء النساء، نستمع إلى حكاياتهن، ننقل أصواتهن التي كثيرًا ما خُنقت خلف الجدران، ونسلط الضوء على نظرة المجتمع، وآراء المتخصصين، علّنا نفتح نافذة للفهم، ومساحة للرحمة.
وجع صامت.. حكايات من وراء العقم
تحكي سلوي السيد “تزوجت منذ 10 سنوات، ومررت بتجارب كثيرة من العلاج، ولكن الحمل لم يحدث، منذ العام الأول للزواج، بدأت الأسئلة تنهال “لسه فين البيبي” لم أعد أخرج كثيرًا، حتى في المناسبات العائلية، لأن نظرات الناس تُشعرني وكأنني ناقصة”.
وقالت منى محمد : “زوجي يعلم أن المشكلة ليست عندي، لكنه لا يدافع عني أمام عائلته، والدته تقول لي مباشرة “روحي شوفي لك شيخ أو حد يعالجك”، رغم أن التحاليل تثبت أن العيب منه، صمتُه يؤذيني أكثر من كلامهم”.
وأوضح عبد الرحمن، “زوجتي لا تنجب، ورفضت أن أطلقها أو أتزوج غيرها، لكني أدفع الثمن كل يوم، من تعليقات أصدقائي وزملائي، ومن إصرار والدتي على أن أتركها، الزواج ليس فقط للإنجاب، وهذا ما لا يفهمه الكثيرون”.
وتروي هدى عماد “أطلقت بعد ثلاث سنوات من الزواج لأنني لم أنجب، لم يمنحني أحد فرصة كافية للعلاج أو حتى الدعم، المجتمع قاسٍ جدًا مع النساء، لا يرى فينا شيئًا سوى الرحم”.
في حديثٍ مع الدكتور “محمد عبد الله”، المتخصص في قضايا الصحة الإنجابية، ألقى الضوء على إحدى القضايا الاجتماعية الشائكة المرتبطة بالعقم، ولا سيما النظرة المجتمعية تجاه المرأة في هذا السياق.
قال الدكتور: “للأسف ما زالت بعض المجتمعات تنظر إلى العقم بنظرة مجحفة، ترتبط بثقافة قديمة تختزل دور المرأة في الإنجاب فقط، وتغفل عن كونها كيانًا متكاملًا، هذه النظرة لا تعكس الواقع الطبي، لأن العقم ليس حكرًا على النساء، بل تشير الدراسات إلى أن نحو 40% من حالات العقم تعود لأسباب عند الرجل، و40% عند المرأة، و20% تكون مشتركة أو غير مفسرة، لكن رغم هذا التوازن، تبقى المرأة المتهم الأول دائمًا، بسبب موروثات اجتماعية تحتاج إلى مراجعة عميقة”.
وعند سؤاله عن أهمية الدعم النفسي والاجتماعي في رحلة علاج العقم، أوضح أن هذا الجانب لا يقل أهمية عن الجانب الطبي، بل يُعد جزءًا أساسيًا في التعامل مع المرضى، مشيرًا إلى أن كثيرًا من النساء والرجال يدخلون في دوامات من الاكتئاب، والشعور بالذنب، والانهيار العاطفي، بسبب النظرة الاجتماعية القاسية، أو الضغط الأسري المستمر، للأسف، منظومتنا الصحية تفتقر إلى إدماج خدمات الدعم النفسي بشكل ممنهج داخل وحدات علاج العقم، نحتاج إلى مراكز متخصصة، وأطباء نفسيين مدربين على التعامل مع هذه الحالات، فضلًا عن حملات توعوية لكسر العزلة المحيطة بالمرضى.
وفي ختام حديثه، أعرب الدكتور “عبد الله” عن أمله في تغيّر النظرة المجتمعية تجاه من يعانون من العقم، قائلًا: “أتمنى أن نتجاوز فكرة أن الإنجاب هو المعيار الوحيد لنجاح الزواج أو اكتمال المرأة أو الرجل، يجب أن نرى الزواج كشراكة إنسانية تقوم على المودة والرحمة والدعم المتبادل، العقم لا يُنقص من قيمة أحد، بل هو ابتلاء طبي قد يُصيب أي شخص، ومع التقدم العلمي والبدائل مثل التلقيح الصناعي والتبني، يجب أن نحتفي بالتنوع في أشكال الأسرة، لا أن نُقصي من لم يُرزق بأطفال، التغيير يبدأ من الوعي، ومن احترام إنسانية الآخر دون أحكام مسبقة”.
رآي الدكتورة سامية خضر صالح، أستاذ علم الاجتماع، حول نظرة المجتمع للمرأة غير المنجبة
وقالت “الدكتورة سامية خضر” إن مسألة الإنجاب كانت في السابق شديدة الأهمية، خاصة في ظل عدم خروج المرأة للعمل، وأوضحت أنه كان يُنظر للمرأة غير المنجبة على أنها ناقصة أو بها عيب، وكانت “الخلافة” أو الإنجاب من أولى أولويات المجتمع.

الدكتورة سامية خضر أستاذ علم الإجتماع
وأضافت أنه اليوم، تغيّرت الأوضاع قليلاً، فصحيح أن الإنجاب لا يزال مهمًا، لكنه لم يعد يحتل نفس المركزية، خصوصًا مع انشغال المرأة بالعمل وتغير شكل الحياة الاجتماعية، وأشارت إلى أن الناس أصبحوا أقل تواصلاً، ولم تعد العائلات تلتقي بشكل يومي كما في السابق، مما خفف جزئيًا من الضغوط الواقعة على المرأة غير المنجبة.
أوضحت “الدكتورة سامية” أن المجتمع قديمًا كان يحمّل المرأة وحدها مسؤولية الإنجاب، وبالتالي إذا تأخر الحمل أو لم يحدث، كانت تُتهم مباشرة بالعقم، وأضافت أن غياب الوعي الطبي ساهم في ترسيخ هذا التصور، رغم أن الأسباب قد تكون من الرجل أو مشتركة.

رغبة الأم في الإنجاب
كما أكدت أن الموروثات الثقافية والتقاليد جعلت من الإنجاب الغاية الأساسية للمرأة، مما جعل العقم يُعتبر فشلًا شخصيًا لها، مشيرة إلى أن هذا التصور لا يزال قائمًا، وإن بدرجة أقل، بسبب تغير أدوار المرأة في المجتمع.
وأضافت الدكتورة “سامية خضر” إن الموروث الشعبي كان ولا يزال يربط بين المرأة والإنجاب بشكل مباشر، خاصة في الفترات التي كانت فيها الحياة أكثر بساطة وتفرغًا، وأضافت أن هذه النظرة ترسخت عبر الأمثال والحكايات الشعبية.
وأوضحت أن الحياة الآن أصبحت أكثر تعقيدًا وسرعة، والمرأة أصبحت تُشارك في العمل والحياةد العامة، ومع ذلك لا تزال بعض الرسائل الإعلامية والمجتمعية تُغذّي الفكرة بأن الإنجاب هو الغاية الأساسية للمرأة.
وأكدت “أستاذ علم الإجتماع” أن الناس قديمًا كانوا يرون في الأبناء لا سيما الذكور نوعًا من الضمان الاجتماعي في الكِبر، وسندًا نفسيًا بعد وفاة الزوج، وأشارت إلى أن هذا المفهوم جعل الأمومة تُختزل كدور أساسي ووحيد للمرأة، ورغم أن المرأة اليوم أصبحت تعمل وتشارك في شتى مناحي الحياة، فإن هذا المفهوم لا يزال حاضرًا بقوة في الوعي الجمعي.
وتوضح إن غياب الأبناء قد يكون مزعجًا نفسيًا للمرأة، لأنه شعور فطري لدى أغلب النساء بأن يكون لديهن طفل يحتضنهُن أو يُسندهن، وأوضحت أن المرأة تتصور أن الابن قد “يحمل عنها” مشقات الحياة، أو أن البنت “لن تتركها أبدًا”، وأضافت أنه في العصر الحالي، مع انشغال المرأة بعملها ومهامها اليومية، أصبح من الأسهل تجاوز هذا الشعور، لكنه لا يختفي تمامًا فالعقم، بحسب تعبيرها، لا يزال يحمل أثرًا نفسيًا واجتماعيًا، حتى وإن لم يُظهر المجتمع ذلك علنًا.
إحصائيات حديثة حول العقم في مصر والعالم العربي
تشير أحدث التقارير الصادرة عن منظمة الصحة العالمية إلى أن نحو 17.5% من سكان العالم يعانون من العقم، أي ما يعادل شخصًا واحدًا من كل ستة أشخاص، دون فروق كبيرة بين الدول ذات الدخل المرتفع أو المنخفض.
وفي السياق المصري، أظهرت الدراسات أن نسبة العقم لدى النساء تبلغ حوالي 15%، بينما تصل نسبة العقم لدى الرجال إلى نحو 70%، نتيجة لعوامل متعددة أبرزها التلوث والتدخين المفرط.
مبادرات قائمة لدعم النساء المتأثرات بالعقم
“جمعية الثقافة والفكر الحر” تُعد جمعية الثقافة والفكر الحر من أبرز المؤسسات التي تقدم ورش دعم نفسي جماعي للنساء والفتيات المتأثرات بالحروب والنزوح، مما يساهم في تعزيز الصحة النفسية والاجتماعية لهن.
هوسبيس مصر (Hospice Egypt)
تُقدم مؤسسة هوسبيس مصر، التابعة لمؤسسة جوساب للتنمية الاجتماعية، خدمات رعاية تلطيفية مجانية للمرضى في مراحلهم الأخيرة، بما في ذلك الدعم النفسي والاجتماعي، مما يساهم في تحسين جودة الحياة للمرضى وأسرهم.
دعوة للتغيير المجتمعي
في خضم مجتمعٍ لا يزال يُقَيِّم المرأة من خلال قدرتها على الإنجاب، تتعرض العديد من النساء لضغوط نفسية واجتماعية جراء نظرات الاتهام واللوم، إن العقم، سواء كان ناتجًا عن أسباب طبية أو غير معروفة، لا يجب أن يكون معيارًا للحكم على قيمة الإنسان.
إن التغيير يبدأ من إعادة تعريف مفهوم الأسرة، والاعتراف بأن الزواج شراكة إنسانية تقوم على المودة والرحمة، وليس فقط على الإنجاب، كما يجب أن يتحمل الرجل مسؤولياته في مواجهة الضغوط المجتمعية، وأن يكون داعمًا لشريكته في جميع الظروف.
ندعو إلى تعزيز الوعي المجتمعي من خلال برامج تعليمية وإعلامية تُسلط الضوء على قضايا العقم، وتُشجع على الدعم النفسي والاجتماعي للمتأثرين به. كما نحث على توفير خدمات طبية ونفسية متكاملة، تُمكن الأفراد من التعامل مع هذه التحديات بكرامة وأمل، فلنُسهم جميعًا في بناء مجتمعٍ أكثر تفهمًا ورحمة، يُقدِّر الإنسان لذاته، لا لقدراته البيولوجية فقط.
رؤية دينية تدعو إلى التعاطف والرحمة
يؤكد الشيخ “عربي” أن نظرة المجتمع القاصرة تجاه المرأة غير المنجبة لا تستند إلى أساس ديني صحيح، بل هي انعكاس لأعراف اجتماعية قديمة ويقول: الزواج في الإسلام يقوم على أسس المودة والرحمة والسكن، كما جاء في قوله تعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً”، ولم يُشترط الإنجاب لصحة الزواج أو لاستمراريته.
وأضاف “ابتلاء العقم لا يُنقص من قدر الإنسان عند الله، بل قد يكون سببًا في رفعة درجاته، لذا يجب على المجتمع أن يتعامل مع هذا الابتلاء بتعاطف وإنسانية، لا باللوم والإقصاء”.
الدراما تسلط الضوء على الألم الخفي
في السنوات الأخيرة، بدأت بعض الأعمال الفنية والدرامية في الاقتراب من معاناة النساء غير القادرات على الإنجاب، وإن كان ذلك بشكل محدود، من بين هذه الأعمال، تبرز حلقات من مسلسل “سجن النسا”، الذي عُرض في رمضان عام 2014، حيث تم تناول قضايا نسائية شائكة، من بينها العقم، والضغوط المجتمعية على المرأة.

حلم الأمومة
وقد تميز العمل بطرحه الإنساني العميق، دون أحكام أو تنميط، مما ساعد على فتحي النقاش حول موضوعات كانت تُعتبر من المحظورات في الإعلام العربي،
مثل هذه الأعمال تُعتبر خطوة مهمة في كسر الصورة النمطية، وتشجيع المجتمع على النظر إلى المرأة بعين الرحمة، لا بمقياس الخصوبة فقط.
أصوات فردية تقاوم الوصمة
في ظل غياب خطاب مجتمعي شامل، بدأت بعض الأصوات الفردية تبرز عبر منصات التواصل الاجتماعي، محاولة كسر حاجز الصمت المحيط بقضية العقم.
من أبرز هذه المبادرات، حملة إلكترونية أطلقتها الناشطة الاجتماعية دعاء حسن تحت عنوان “مش بس أم”، تهدف إلى تسليط الضوء على النساء اللاتي لم ينجبن، سواء لأسباب طبية أو لاختيار شخصي، من خلال نشر قصصهن وتقديم محتوى توعوي يدعو إلى احترام خياراتهن وتقدير إنسانيتهن.
تقول دعاء أحمد: “كل امرأة هي كيان متكامل، لها أحلامها وقدراتها ودورها في المجتمع، ولا يجب اختزالها في دور واحد فقط، اطلقت هذه الحملة لأقول نحن موجودات، ولسنا ناقصات”.
كيف ينظر العالم إلى العقم
ينظر كثير من المجتمعات الغربية، يُنظر إلى العقم باعتباره تحديًا طبيًا وإنسانيًا، وليس معيارًا يُقاس به قدر الإنسان أو قيمته، فعلى سبيل المثال، في دول مثل السويد وألمانيا وكندا، تتوفر برامج دعم شاملة للأزواج الذين يواجهون صعوبات في الإنجاب، تشمل جلسات دعم نفسي، ومشورة زوجية، إلى جانب تغطية حكومية واسعة لتكاليف العلاج.
كما تُشجَّع ثقافة التبني والأسرة البديلة، وتُقدَّم على أنها أحد الأشكال النبيلة لتكوين الأسرة، وليس بديلًا ناقصًا، وتُعرض قصص الأمهات والآباء بالتبني في وسائل الإعلام بإيجابية واحترام، مما يعزز من قبول المجتمع لهؤلاء ويُقلل من الشعور بالخجل أو الوصمة.
وعلى النقيض من ذلك، لا يزاهد العقم في كثير من المجتمعات العربية يُعامَل بوصفه “وصمة” أو “نقصًا”، خاصة حين يتعلق الأمر بالمرأة، رغم التقدم الطبي والتكنولوجي، وهذا الاختلاف في النظرة لا يعود فقط إلى البنية الثقافية، بل إلى غياب حملات التوعية، والنقاشات المفتوحة، والمناخ العام الذي يسمح بتناول هذه القضايا الحساسة بشفافية وتعاطف.
إن تجاوز الوصمة يبدأ من تغيير طريقة التفكير الجماعي، كما يُظهر النموذج الغربي، الذي يضع صحة الإنسان النفسية والجسدية فوق التقاليد الجامدة.