تحقيق ـ بسملة الجمل
ليس كل زفاف تقرع له الطبول قد بدأ بقصة حب، وليس كل فستان أبيض دليلًا على حلم وردي، في زمن طغت فيه المصلحة على المشاعر، بات “جواز المصالح” واقعًا يتخفى خلف كلمات مثل تفاهم، واستقرار، وفرصة.
في زمن تتبدل فيه القيم وتختلط فيه النوايا، لم يعد الزواج دائمًا نهاية قصة حب، بل أحيانًا مجرد بداية لاتفاق غير معلن، فتاة تقبل العريس لأنه “سيوفر لها حياة متكاملة مادياً”، وشاب يطلب يدها لأنها “بنت مسؤول مهم”، المشاعر تؤجّل، والحسابات تُقدّم، والقلوب تُهمّش في زفة ظاهرها فرح وباطنها صفقة.
هذا هو زواج المصالح، لا حب فيه ولا كراهية، فقط مزيج بارد من العقل والمصلحة، لكنه دائمًا يطرح سؤالًا قاسيًا، «متى أصبح الزواج مشروعًا استثماريًا لا علاقة له بالقلب».
حلم الثراء الذي انتهى على كرسي متحرك
لم تكن “سماح.ف.” تتخيل أن طريق الثراء قد ينتهي بها إلى العجز والندم، حين قررت الارتباط برجل يكبرها بستة عشر عامًا، حيث لم يكن الحب أو التوافق هو الدافع، بل كان الطمع في المال، والاعتقاد بأن الثروة قادرة على شراء السعادة والطمأنينة.
وتقول “سماح” في دعوى طلاق للضرر أقامتها أمام محكمة الأسرة بروض الفرج: “ظننت أنني وجدت الكنز الذي سينقلني إلى حياة الرفاهية، فتغاضيت عن فارق السن ومستواه الثقافي المحدود، ووافقت على الزواج من رجل جاهل لا يربطني به أي انسجام فكري أو اجتماعي”.
وقضت خمس سنوات في بيت الزوجية، لكنها لم تذق فيها طعم الراحة أو الثراء الذي كانت تحلم به، قائلة بنبرة يملئها الحزن والندم: “كل ما حصلت عليه هو الضرب، والإهانة، والبخل الشديد، حتى أصبحت أفكر أحيانًا في الخلاص منه بأي وسيلة”.
لكنها لم تتوقع أن زوجها سيكون الأسرع في تدمير حياتها، فقد انتهى بها الأمر ضحية للعنف الأسري، وخرجت من منزله على كرسي متحرك، بعد أن تعرضت لاعتداء عنيف كاد أن يودي بحياتها، مضيفة: “كان زواج مصلحة، لكنه كان أغلى صفقة دفعت فيها صحتي وكرامتي ومستقبلي”.
من الحلم بالرجل المثالي إلى كابوس الابتزاز الجنسي
لم تكن “ميادة.ش.” تعلم أن دخولها في علاقة زواج ستتحول إلى فخ مرعب، يُهدد خصوصيتها وسمعتها ومستقبلها، حيث كانت تظنه رجلًا من “أولاد الأصول”، كما كان يردد، ابن عائلة عريقة، مهذب ومجتهد في عمله بمجال التسويق وبيع الأدوية، لكنها لم تكن تعلم أن كل ذلك لم يكن سوى واجهة يخفي خلفها نصابًا محترفًا، يتقن التمثيل والخداع، ويجيد اللعب بـ”البيضة والحجر”.
وتقول “ميادة”، في دعوى طلاق للضرر أقامتها أمام محكمة الأسرة بمدينة نصر: “تعرفت عليه من خلال عمله، وبدت تصرفاته رزينة وكلامه مقنعًا، فوثقت به سريعًا، وبعد أربعة أشهر فقط طلب الزواج، وافقت دون تردد، وكنت أعتقد أنني أخيرًا وجدت الرجل الذي كنت أحلم به”.
لكن الحقيقة كانت أكثر سوداوية مما تخيلت، ستة أشهر فقط من الزواج، ثم اختفى دون إنذار، لم يكتفي بالهروب، بل بدأ في تنفيذ خطته الدنيئة، فأرسل إليها مقاطع وصورًا لهم معًا التقطت خلال فترة زواجهما، وهددها بنشرها إذا لم تدفع له مائة ألف جنيه.
وتابعت “ميادة” قائلة: “خفت على سمعتي وسمعة عائلتي، ودفعت المبلغ مضطرة، لكنه لم يكتفي بذلك، ولم يفي بوعده معي، بل اختفى من جديد، وتركني معلقة لا مطلقة ولا متزوجة”.
قصة “ميادة” ليست مجرد حكاية شخصية، بل نموذج صارخ لانتهاك الثقة، واستغلال العلاقة الزوجية لتحقيق أهداف دنيئة، إنها صرخة من قلب امرأة وجدت نفسها ضحية زواج قائم على الكذب والابتزاز، في مجتمع لا يرحم الضحية بقدر ما يبرر للجاني.
باع شبابه طمعًا في الأمان.. فخرج منه مهدودًا خلف القضبان
لم يكن “محسن فريد”، الشاب الذي لم يتجاوز التاسعة والعشرين من عمره، يحلم بالكثير، كل ما أراده هو فرصة عمل تضمن له حياة كريمة، وسقفًا يحتمي تحته من قسوة الأيام، لكن حين ضاقت به سبل الرزق، قرر أن يسلك طريقًا لم يكن يحسب عواقبه، وطريق زواج المصلحة.

السجن بسبب ورطة تكلفة الزواج
واختار أن يتزوج من أرملة تدعى “أميمة.ص.”، تكبره بثلاثين عامًا، معتقدًا أن المال يعوض الفارق في السن والعاطفة، ولم يخفي نواياه، بل صارحها بأن دافعه الأساسي هو حاجته لمن تعيله وتوفر له الاستقرار المالي، فقبلت به، دون اعتراض.
ويحكي محسن قصته أمام محكمة الأسرة بالسيدة زينب، حيث يواجه دعوى طلاق: “ظننت أنها ستكون طوق النجاة، لكنها كانت الطوفان، حيث عشت معها سنة وستة أشهر، لم أذق فيها طعم الراحة، كانت تتفنن في إذلالي وإهانتي، وكأنها تنتقم من شبابي الذي وهبته لها”.
لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك الحد، فقد انتهى به الحال مطرودًا من منزل الزوجية، ومتهمًا في قضية سرقة حررت ضده، ليقضي ستة أشهر خلف القضبان، ضاعت فيها كرامته ومستقبله، كما أضاف قائلًا: “أقسم بالله أنها تعلم أنني لم أحبها، وأن زواجي بها كان بدافع الحاجة، لكنها خدعتني، واستغلت ضعفي، ثم ألقت بي حين ملتني ووقعت في حب رجل آخر”.
وفي النهاية، قصة “محسن” لا تختلف كثيرًا عن قصص الكثير من الذين اعتقدوا أن المال وحده كافي لبناء حياة زوجية، لكنه تعلم بعد أن دفع الثمن غاليًا، أن الزواج إن لم يبنى على الاحترام والتكافؤ، فإن نتائجه تكون مؤلمة، بل كارثية.
زواج المصلحة… صفقة لا تدوم
ومن خلال الحديث مع بعض المواطنين تنوعت آرائهم، فأكدت “أمنية السيد” في تعليقها على ظاهرة زواج المصلحة، أن هذا النوع من الزواج غالبًا ما يكون محكومًا عليه بالفشل منذ البداية، لأنه يفتقد إلى أبسط مقومات الحياة الزوجية وهم «الحب، التفاهم، والتقدير».
مضيفة: “كثيرون يتزوجون اليوم لأهداف مادية أو نفعية بحتة، منهم من يسعى للزواج من أجنبية بهدف الحصول على الجنسية، أو ترتبط فتاة برجل ثري أو صاحب منصب فقط من أجل المال والنفوذ، وفي النهاية، تبقى العلاقة أشبه بصفقة مؤقتة، تنتهي بمجرد الحصول على المصلحة المطلوبة”.
وترى “أمنية” أن هذه الزيجات نادرًا ما تنجح أو تستمر، لأن الأساس الذي تقوم عليه هشّ، ولا يصمد أمام ضغوط الحياة، قائلة: “حتى إن استمرت شكليًا فإنها تخلو من الروح، وتكون مجرد إطار فارغ يجمع جسدين، لا قلبين”.
العاطفة أساس استمرار العلاقة.. والمصلحة تفسد كل شيء
أكدت “سلمى هاني” أن الحب والمشاعر هما الأساس الحقيقي لاستمرار أي علاقة زوجية ناجحة، فبدونهما تصبح الحياة بين الزوجين مجرد التزام ثقيل يخلو من الدفء والراحة النفسية، وترى أن القبول المتبادل ضروري منذ البداية، لأن الإنسان لا يستطيع أن يكمل حياته مع شخص لا يشعر تجاهه بأي انسجام أو ود.
وأضافت “سلمى”: “حين تحدث خلافات في الزواج القائم على الحب، فإن المشاعر الصادقة غالبًا ما تكون سببًا في تجاوزها، لأن الطرفين يخافان خسارة بعضهما، أما في زواج المصلحة، فتنعدم المشاعر، وتتحول العلاقة إلى صفقة مؤقتة، يتحمل فيها أحد الطرفين الآخر فقط حتى تتحقق مصلحته، ثم يتخلى عنه وكأنه لا يعرفه”.
كما تابعت: “لا يوجد شخص يستطيع التعايش مع علاقة باردة وخالية من المشاعر، زواج المصلحة غالبًا ما ينتهي عند أول مشكلة، لأنه لا يملك ما يجعله يصمد”، وتؤمن “سلمى” أن أي علاقة بلا حب ولا مشاعر، حتى وإن استمرت من الخارج، فهي ميتة من الداخل، فالعاطفة هي ما يمنح الزواج روحه، ويمنحه القدرة على الاستمرار رغم كل التحديات.
زواج المصلحة.. ظاهرة تزداد انتشارًا في صمت
أوضح “عمر سامح” أن زواج المصلحة أصبح ظاهرة ملموسة في المجتمع، وإن كانت تتم في صمت وبعيدًا عن الأضواء، مشيرًا إلى أن تزايد الضغوط الاقتصادية وغياب الوعي العاطفي يدفع بعض الأشخاص إلى الدخول في علاقات زوجية ليس بدافع الحب، وإنما لتحقيق أهداف مادية أو اجتماعية، مثل الحصول على الجنسية، أو الطموح إلى مستوى مادي أعلى، أو حتى الهروب من ضغوط الواقع.
وتابع “عمر”: “البعض ينظر إلى الزواج كوسيلة للخروج من أزمة، أو لتحقيق مكسب معين، دون أن يدرك أن العلاقة الزوجية تحتاج إلى مشاعر حقيقية، وتفاهم إنساني، وليس مجرد مصالح متبادلة، ولذلك كثيرًا ما تنتهي هذه العلاقات بالفشل، لأنها تفتقر إلى الأساس العاطفي الذي يبقي أي علاقة على قيد الحياة”.
ويؤكد “عمر” أن استمرار هذه الظاهرة يعود إلى التفاوت الطبقي، وضعف ثقافة الاختيار المبني على التوافق، وليس على المصلحة، كذلك يرى أن المجتمع بحاجة إلى تعزيز مفهوم الزواج القائم على الحب والاحترام، لا على المصلحة والمنفعة المؤقتة.

مشكلات الزواج
خبير اجتماعي: زواج المصلحة بناء هش محكوم عليه بالانهيار
وأكد “أسامة محمود” دكتور علم الاجتماع بجامعة حلوان، أن زواج المصلحة لا يحقق الاستقرار النفسي أو العاطفي، لأنه يفتقد أهم أسس الحياة الزوجية السليمة، مثل التكافؤ الاجتماعي، والتوافق الطبقي، والتقارب العمري، والمستوى التعليمي، مضيفًا أن هذا النوع من الزواج غالبًا ما يقوم على الطمع والانتهازية والسعي وراء المال أو المكانة الاجتماعية، لا على الحب أو التفاهم أو الاحترام المتبادل.
ويشرح الدكتور “محمود أسامة” أن الكثير من الشباب يُقبلون على هذا الزواج بهدف تحقيق نقلة طبقية سريعة، فنجد شابًا فقيرًا يرتبط بامرأة تكبره بعشرين عامًا طمعًا في ثروتها، أو فتاة تترك تعليمها لتتزوج من رجل غني في عمر والدها، وكل ذلك تحت شعار “الاستقرار المالي”، ولكن في الواقع، تكون النتيجة غالبًا انهيار العلاقة عند أول أزمة، لأنها لم تبنى على أسس متينة أو مشاعر صادقة.
كذلك يرى دكتور “علم الاجتماع” أن وراء انتشار هذه الظاهرة أسبابًا متعددة، على رأسها الفقر، والبطالة، وارتفاع تكاليف المعيشة، إلى جانب ضعف الوعي الديني، وسوء التنشئة الاجتماعية التي ترسّخ قيم الطمع والاعتماد على الآخرين، وتُهمّش مفاهيم العطاء والتضحية والمسؤولية.
ويحذر “أسامة” من أن القافلة الزوجية التي تسير في مسار مادي بحت، دون محبة أو انسجام، تكون هشة وضعيفة أمام التحديات، وغالبًا ما تنتهي بالطلاق أو الهجر، مؤكدًا أن الشباب أصبحوا يميلون إلى الزواج من المرأة العاملة لتشاركهم الأعباء المالية، بينما باتت بعض الفتيات يبحثن عن الرجل “الجاهز” الذي يوفر لهن حياة رفاهية، حتى وإن كان ذلك على حساب المشاعر والاستقرار الحقيقي.
وفي النهاية، اختتم الدكتور “محمود أسامة” حديثه بالتنبيه إلى أن زواج المصلحة لا يحقق أهداف الزواج النبيلة، مثل إنجاب الأطفال وتكوين أسرة متماسكة، بل ينتج علاقة مؤقتة تحمل الكثير من الألم النفسي، وتترك آثارًا سلبية عميقة في حياة الشريكين.
في زمن أصبحت فيه المادة تحكم الكثير من العلاقات، يبدو زواج المصلحة كصفقة عابرة أكثر منه ميثاقًا إنسانيًا وعاطفيًا، هو زواج قد يبدأ بالاتفاق، لكنه غالبًا ما ينتهي بالانفصال، لأنه يفتقر إلى أبسط مقومات الاستمرار: الحب، والاحترام، والتفاهم.
لقد كشف هذا التحقيق أن زواج المصلحة ليس حلاً للأزمات، بل بوابة لأزمات أكبر وأعمق، تترك آثاراً سلبية على الأفراد والمجتمع بأسره، وبين قصص ضحايا وصرخات خبراء، يتجلى الدرس الأهم، «الزواج الناجح لا يُبنى على المصالح، بل على القلوب، زواج المصلحة ليس مخرجًا من الأزمات كما يظنه البعض».
بل بوابة مفتوحة نحو مشكلات أعمق، قد تدمر النفوس وتفكك العلاقات وتطفئ وهج الحياة الأسرية، فالعلاقات التي تبنى على الطمع تنكسر سريعًا، لأنها تفتقد إلى المشاعر التي تمنحها القوة والاستمرارية، ووراء كل قصة من هذا النوع، جرح لا يلتم، وندم لا ينسى، وتجربة مريرة تؤكد أن الزواج الحقيقي لا يقوم على المصالح، بل على الحب، والصدق، والتفاهم، فحين يغيب الحب، يسقط كل شيء، حتى ولو كانت البدايات مكسوة بالذهب.