إنفراد ـ بسملة الجمل
لم يكن يتخيل طفل في العاشرة من عمره، أن اسمه سيكون أول ما يضحك زملاءه قبل أن يكتشفوا شخصيته، ولا أن بطاقة المدرسة ستثير موجة من الأسئلة في كل مرة تعرض فيها على معلم جديد، هو ولد، لكن اسمه يحمله إلى خانة الإناث، ومعه يحمل شعورًا دائمًا بالارتباك، والنقص، والرغبة في الاختباء من اسمه قبل الناس.
كذلك اختيار اسم لا يشبه جنس الطفل ليس مجرد اختلاف شكلي، بل صدمة هوية متكررة، يواجهها الطفل في كل موقف اجتماعي، في كل نداء، وفي كل وثيقة رسمية، بين الضحك والسخرية والوصم، تترسخ مشاعر الرفض والقلق، وتبدأ ملامح أزمة نفسية قد لا تُمحى بسهولة.
فهل يدرك الأهل ما يترتب على “اسم ظريف” أو “اختيار غير معتاد”، وهل يملك المجتمع ما يكفي من الوعي لاحتواء هذا الاختلاف، أم أنه يضيفه إلى قائمة التنمر الممنهج ضد كل من لا يندرج في القوالب المعتادة.
ويؤكد كثير من المواطنين أن اختيار اسم لا يتوافق مع جنس الطفل قد يترك أثرًا نفسيًا عميقًا، خاصةً في المراحل العمرية الأولى التي تتشكل فيها الهوية، فحين ينادى الطفل باسم أنثوي رغم كونه ذكرًا، أو العكس، تبدأ ملامح الارتباك والحرج بالظهور تدريجيًا، وقد تتطور مع الوقت إلى شعور بالرفض أو الانعزال عن المجتمع.
التأثير النفسي العميق لاسم لا يشبه الطفل
أوضح الدكتور محمد الوصيفي أستاذ الطب النفسي وعلاج الإدمان بكلية الطب في جامعة المنصورة، أن الاسم يعد جزءًا جوهريًا من تكوين هوية الطفل النفسية والاجتماعية، ويؤدي عدم توافقه مع جنسه البيولوجي إلى حالة من “الارتباك الهويّاتي”، خاصةً إذا لم تقدم الأسرة تفسيرًا واضحًا لهذا التناقض، مشيرًا إلى أن مثل هذه الحالات تربك الطفل وتؤثر لاحقًا على فهمه لهويته الجنسية والاجتماعية.

الدكتور النفسي محمد الوصيفي
بداية الوعي.. ومتى تظهر الأزمة
وأكد “الوصيفي” أن الأطفال يبدأون ملاحظة الفروق بين الأسماء والأجناس في سن مبكرة، غالبًا بين عمر 4 و6 سنوات، وفي هذه المرحلة، إذا شعر الطفل أن اسمه لا يشبه أسماء أقرانه، يبدأ في التساؤل والشعور بالغرابة، وربما الخجل والانكماش، خاصةً في البيئة المدرسية أو في الأماكن العامة التي تشهد تفاعلًا اجتماعيًا مكثفًا.
الاسم والثقة بالنفس.. علاقة غير متوقعة
وشدد أستاذ الطب النفسي وعلاج الإدمان على أن الاسم الذي يشعر الطفل بأنه يعبر عنه، يعزز من شعوره بالقبول والانتماء، بينما الاسم المختلف قد يولد شعورًا دائمًا بالنقص أو الرفض، خصوصًا إذا رافقه سخرية أو تعليقات محرجة من المحيطين.
التنمر والانسحاب الاجتماعي.. آثار لا تمحى
وأشار “الوصيفي” إلى أن التنمر المرتبط باسم الطفل هو من أخطر أشكال الأذى النفسي، مؤكدًا أن تكرار السخرية قد يقود إلى خزي داخلي، انسحاب اجتماعي، ضعف في تقدير الذات، بل وقد يتطور الأمر إلى القلق أو الاكتئاب، موضحًا أن بعض الأطفال يرفضون الذهاب إلى المدرسة خوفًا من التعرض لتلك المواقف.
هل تعامل المجتمع والمدرسة يخفف الأزمة أم يعمّقها
وأوضح الدكتور محمد الوصيفي أن تعامل المؤسسات التعليمية والمجتمع مع هذه الحالات غالبًا ما يكون سلبيًا، ويتضمن أحيانًا نوعًا من التنمر غير المباشر من المعلمين أو الزملاء، مما يزيد الضغط النفسي على الطفل، ورغم وجود مدارس تتفهم الأمر وتسعى لتهيئة بيئة آمنة، فإن هذه التجارب تظل استثناءً وليس قاعدة.
العزلة وصعوبات التواصل.. امتداد للألم النفسي
كذلك أكد الدكتور أستاذ الطب النفسي وعلاج الإدمان أن بعض الأطفال يطورون رهابًا اجتماعيًا أو حساسية مفرطة تجاه نظرة الآخرين، ما يؤثر على قدرتهم على بناء علاقات صحية، ويعيق تطورهم النفسي والاجتماعي في مراحل لاحقة من العمر.
الآثار تمتد إلى المراهقة والبلوغ
وأشار “الوصيفي” إلى أن بعض الآثار النفسية لا تتوقف في الطفولة، بل تمتد إلى سن المراهقة والبلوغ، وتتمثل في اضطراب الهوية، ضعف الثقة بالنفس، والقلق الاجتماعي، وفي بعض الأحيان، يلجأ المراهق للعلاج النفسي بسبب مشاكل تعود جذورها لاختيار اسم غير مناسب في الطفولة.
هل يجب تغيير الاسم، ومتى
وشدد الدكتور محمد الوصيفي على أن تغيير الاسم في سن مبكرة، وخصوصًا قبل دخول المدرسة أو في سنواتها الأولى، يخفف كثيرًا من الأثر النفسي السلبي، كما أكد على أهمية أن يتم التغيير في بيئة داعمة، مع شرح مبسط للطفل يحفظ كرامته ويعزز خصوصيته.
نصيحة مباشرة للأهالي: لا تجعلوا الاسم عبئًا
كذلك نصح أستاذ الطب النفسي وعلاج الإدمان الآباء والأمهات باختيار أسماء واضحة في دلالتها على الجنس، ومناسبة ثقافيًا ومجتمعيًا، مشيرًا إلى أن السعي وراء التميز أو الغرابة في الأسماء قد يعرض الطفل لمعاناة لا ذنب له فيها.
شهادات من العيادة.. والواقع يؤكد خطورة المشكلة
وأوضح “الوصيفي” أنه تعامل في عيادته مع حالات مشابهة، كان أبرز أعراضها الانسحاب الاجتماعي، القلق من نظرات الآخرين، وأحيانًا الاكتئاب، وكان التدخل العلاجي يشمل جلسات فردية مع الطفل، وتوعية الأهل، والتواصل مع المدرسة، وفي بعض الحالات تم تغيير الاسم بعد تفهّم الأسرة لأبعاد المشكلة.
كذلك اختتم الدكتور محمد الوصيفي أستاذ الطب النفسي وعلاج الإدمان بكلية الطب في جامعة المنصورة، حديثه قائلًا: “الاسم ليس مجرد حروف، بل رسالة يلتقطها الطفل عن نفسه، فليكن دعمًا لهويته، لا عبئًا عليها”.
اختر لطفلك اسمًا يضمده لا يجرحه
إن الاسم الذي يبدو للبعض تفصيلة بسيطة أو اختيارًا عابرًا، قد يتحول في حياة طفل إلى باب دائم للأذى والارتباك، خاصةً حين لا يعكس هويته بوضوح، ففي عالم لا يزال يحاكم الناس من الوهلة الأولى، قد يكون الاسم أول حجر يلقى على قلب صغير، لا يملك ترف التبرير أو الدفاع.
وبين زحام التنمر، وسوء الفهم، وضعف الوعي المجتمعي، يبقى الطفل وحده في مواجهة واقع لا يرحم اختلافه، حتى وإن كان مجرد اسم، وهنا، تبرز مسؤولية الأسرة أولًا، في الاختيار الواعي والتصحيح المبكر، قبل أن تتكون الجروح ويصبح تغيير الاسم محاولة لمداواة ما تأخر ترميمه.
الاسم ليس زينة لغوية، ولا نكتة اجتماعية، بل هو أول تعريف يكتبه المجتمع على ملامح الطفل، فإما أن يكون مدخلًا للفخر، أو بوابة إلى الألم، ولذلك يجب علينا أن نمنح أبناءنا أسماء تشبههم فعلًا، وتشبه قلوبهم.