تحقيق – مريم ناصر
رغم إطلاق العديد من المبادرات الحكومية تحت عناوين براقة مثل “تحضر للأخضر”، و”زراعة 100 مليون شجرة”، ولكن تزال شوارع وميادين كثيرة في مصر تعاني من غياب كامل للمساحات الخضراء، المشهد على الأرض يخالف الكثير ما أُعلن عنه من خطط ووعود، وكأن هذه المبادرات بقيت مجرد شعارات فقط، ولا توجد زراعة فعلية، ولا يوجد تحول بيئي ملموس.
تواصل الكثير من الجهات الرسمية الإعلان عن خطط تهدف لتحسين جودة الهواء والتصدي لتغيرات المناخ، ولكن الشارع المصري يعكس غير ذلك، في ظل ارتفاع درجات الحرارة عامًا بعد آخر، وسط هذا المشهد، تصبح الأشجار والمسطحات الخضراء حاجة ملحة لا شكلًا تجميليًا، فالمساحات الخضراء تصبح ضرورة تهم لصحة الناس وبيئتهم.
ويتجول المواطن في شوارع بلا شجرة واحدة على الرغم من إطلاق الكثير من المبادرات للتشجير، وأيضًا في أرصفة عطشى بدون أشجار، ويتساءل عن مصير تلك المبادرات، أين ذهبت الوعود، ولماذا لم تنفذ الخطط على أرض الواقع، هل المشكلة في غياب التمويل، أم في ضعف الرقابة وسوء التنفيذ.
مبادرات التشجير في مصر.. بين الطموح والضعف والدكاترة يكشفون الخلل
يرى الدكتور “حسام محرم” مستشار وزير البيئة الأسبق، أن نسبة المساحات الخضراء في مصر تقل كثيرًا عن المعدلات العالمية، مشددًا على أن إزالتها دون ضرورة قصوى يمثل تهديدًا مباشرًا للتوازن البيئي، ويضيف أن أية عملية تطوير عمراني يجب أن تتضمن بدائل واضحة لإعادة زراعة الأشجار، قائلًا: “ما يحدث هو اقتطاع من القليل الموجود، وهذا توجه غير صحيح”.
ووجه النائب “عبد المنعم إمام” أمين سر لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، طلب إحاطة رسميًا إلى الحكومة بشأن قطع الأشجار في مختلف المحافظات، مشيرًا إلى غياب خطة تعويض مناسبة، وأوضح أن المواطن المصري يحتاج إلى ما بين 7 إلى 8 أشجار لتلبية احتياجاته السنوية من الأكسجين، بينما المتوافر لا يتعدى شجرة واحدة للفرد، وهو ما وصفه بـ”الوضع البيئي الخطير”.
وأكدت وزارة البيئة من خلال الدكتور “محمد معتمد” مساعد الوزير، أن الدولة تعمل على تنفيذ خطة متكاملة للتشجير، وقد زرعت نحو 12.4 مليون شجرة خلال عامين ضمن مبادرة “زراعة 100 مليون شجرة”، وأوضح أن إزالة الأشجار يحدث أحيانًا لأسباب تتعلق بالمشروعات العمرانية، لكن الوزارة تعمل على تعويضها في مواقع بديلة وفقًا للمخططات الرسمية.
وتشير وزارة الإسكان إلى أن المدن الجديدة مثل مدينة المنصورة الجديدة، صممت لتتضمن مساحات خضراء تصل إلى 25% من إجمالي مساحتها، وهو ما يوضع على أن الوزارة تهتم البعد البيئي في خطط التخطيط العمراني.
وفي سياق متصل أشاد الإعلامي “أحمد موسى” إن مصر تزرع ملايين الأشجار ضمن خطط قومية لتحويل الصحراء مضيفًا: “لو اتقطعت شجرة، الدولة بتزرع مكانها عشرة”، وهذا يعتبر تحرك مهم من الدولة.
مبادرات التشجير والتوعية في مصر.. وعي متصاعد أم أثر محدود
وقد أقدمت الحكومة المصرية في السنوات الأخيرة اهتمامًا متزايدًا بقضايا البيئة، من خلال إطلاق مبادرات وطنية تهدف إلى نشر الوعي البيئي، وتحسين جودة الحياة، ومواجهة التغيرات المناخية، وللمرة الأولى أصبحت مفردات مثل “التشجير”، و”الاقتصاد الأخضر”، حاضرة في الخطط التنموية الرسمية وخطابات المسؤولين، مما يعكس تحولًا واضحًا تجاه البيئة.
المبادرة الرئاسية الأولى لحماية البيئة والتوعية في مصر
أطلقت الدولة المصرية مبادرة “اتحضر للأخضر” كأول حملة وطنية موسعة لزيادة الوعي البيئي، وتتبناها وزارة البيئة بالتعاون مع المجتمع المدني والقطاع الخاص، وتهدف المبادرة إلى إشراك المواطنين في حماية البيئة، وتعزيز دورهم في مواجهة التغيرات المناخية، التي باتت تؤثر بشكل مباشر على تفاصيل الحياة اليومية، بالتحديد في المدن الكبرى.
وتركز المبادرة على تعزيز وتطوير السلوك البيئي الإيجابي، مثل ترشيد استهلاك الموارد، والتشجير، وإعادة التدوير، من خلال أنشطة ميدانية وتوعوية، ومواد إعلامية تستهدف مختلف فئات المجتمع، مع إيلاء اهتمام خاص بفئة الشباب.
مبادرة “الرحلة إلى مؤتمر المناخ”.. الوعي البيئي يتحرك على الأرض
لقد شارك المغامر المصري “علي عبده” صاحب الرقم القياسي في موسوعة “جينيس”، في دعم مبادرة “اتحضر للأخضر”، بإطلاقه رحلة “The Ride to COP27″، عبر دراجته الكهربائية، امتدت الجولة لمدة يومين، وذلك في يونيو 2022، ضمن احتفالات يوم البيئة العالمي.
وشملت هذه المبادرة العديد من مختلف المحافظات ومنها: “القاهرة، الإسماعيلية، بورسعيد، دمياط، بلطيم، رشيد، والإسكندرية”، وكان الهدف منها نقل قصص النجاح في مجال حماية البيئة والحفاظ عليها، والترويج لاستضافة مصر ضمن مؤتمر المناخ العالمي “COP27”.
حملة “رجع الطبيعة لطبيعتها”.. خطوة نحو التغيير
أطلقت وزارة البيئة حملة “رجع الطبيعة لطبيعتها” في 31 يوليو 2022، كجزء من مبادرة “اتحضر للأخضر”، لتكون أول حملة وطنية موسعة للتوعية بالتغيرات المناخية، استهدفت الحملة خلق وعي بيئي لدى المجتمع، من خلال توصيل الرسائل البيئية عبر الوسائل الإعلامية التقليدية والرقمية، بجانب شاشات العرض في الميادين، وتنظيم ندوات جماهيرية وورش بيئية في مختلف المحافظات.
وقد امتدت هذه الفعاليات إلى عدد من المحافظات، خاصة تلك الواقعة على السواحل، ومدن الوجه البحري، حيث نُفذت أنشطة زراعة وتجميل، وورش عمل للتوعية البيئية، ولكن هناك بعض المحافظات خارج نطاق التنفيذ، وتعاني من ضعف المتابعة، ما يطرح تساؤلات حول عدالة التوزيع الجغرافي للمبادرات، ومدى قدرتها على تحقيق الاستدامة بعد الإنتهاء من الفعاليات.
مبادرة “100 مليون شجرة”.. خطوة نحو الاستدامة ضمن خطط الحكومة
ضمن تحقيق التنمية المستدامة في الدولة والحد من التلوث، وذلك في إطار برنامج عمل الحكومة “2024–2027″، أعلنت وزارة البيئة عن الدليل الاسترشادي؛ لدعم تنفيذ خطط التشجير، باعتباره أحد المسارات التنفيذية لمبادرة “زراعة 100 مليون شجرة”، ويأتي هذا الإصدار حول المبادرة التي أعلنت عنها وزيرة البيئة في أغسطس 2024، بالتعاون مع خبراء من الجامعات، ومراكز البحوث، والمجتمع المدني.
خطة الدولة القومية للتشجير على مدار 7 سنوات
تهدف المبادرة لتنفيذ خطط تشجير قومية خلال سبع سنوات، من عام 2023 وإلى عام 2029، وفق توزيع محدد للأدوار بين الجهات الحكومية، حيث تتولى وزارة التنمية المحلية زراعة “80 مليون شجرة”، ووزارة البيئة “13 مليون شجرة”، بينما تتحمل وزارة الإسكان مسؤولية زراعة “7 ملايين شجرة”.
وتركز المبادرة على تحقيق العديد من الأهداف البيئية والاقتصادية، أبرزها “تحسين جودة الهواء، خفض انبعاثات غازات الإحتباس الحراري، مضاعفة نصيب الفرد من المساحات الخضراء، والإرتقاء بالصحة العامة للمواطنين”.
دليل استرشادي شامل لآليات التشجير
يتضمن الدليل الاسترشادي رؤية علمية وتقنية شاملة لضمان تنفيذ المبادرة بكفاءة وفاعلية، ويبدأ ذلك من اختيار أنواع الأشجار التي تتناسب مع كل نطاق جغرافي في الجمهورية، بناءً على المناخ، ونوعية التربة، وطبيعة الأرض، وقد حرصت اللجنة على اقتراح أنواع نباتية ذات نمو جيد، وعائد بيئي، واقتصادي مرتفع، بما يتناسب مع الخصائص البيئية المحلية.
كما يتناول الدليل إرشادات تتعلق بأنظمة الري في الأراضي الطينية والرملية، ويوضح الشروط الخاصة بكل موقع زراعي، سواء داخل المدن، أو في الأماكن العامة مثل: “المدارس، المستشفيات، الأندية، مراكز الشباب، أو في المساحات المفتوحة والميادين”.
ليس مجرد مشروع تجميلي.. الفوائد البيئية والاقتصادية للتشجير
يؤكد الدليل على أن التشجير ليس مجرد مشروع تجميلي، بل يعد استثمارًا حقيقيًا في الموارد البيئية المتجددة، لما له من فوائد شاملة على التربة والمناخ والصحة العامة، للإسهام في تحسين خصوبة التربة، والحد من التصحر، وخفض درجات الحرارة، وامتصاص الملوثات من الهواء والماء والتربة.
ويساعد التشجير على خفض منسوب المياه الجوفية عبر ما يعرف بـ “الصرف البيولوجي”، ويوفر الظل، ويقلل من الضوضاء، وتعزز المبادرة كذلك السياحة البيئية، وتفتح مجالات جديدة للتوظيف، وتخلق فرصًا لصناعات قائمة على منتجات الأشجار، مثل الأخشاب والزيوت والعطور.
الدولة تضع ضوابط دقيقة لتشجير المدن والشوارع
يشدد الدليل على ضرورة مراعاة التناسق البصري والبيئي عند اختيار أنواع الأشجار داخل المدن، مع التوصية بزراعة أشجار مزهرة وفق مواسم متعاقبة، لتوفير مشهد دائم الخضرة والجاذبية، واستبعاد الأنواع المثمرة، أو السامة، أو الشوكية، حفاظًا على السلامة العامة.
كما يُبرز أهمية التنسيق مع البنية التحتية بحيث لا تعيق الأشجار حركة المرور، أو تتداخل مع الأسلاك الهوائية، ويوصي بزراعة الأشجار الخيمية في الشوارع الواسعة، بينما تُفضل الأنواع العمودية أو القابلة للتقليم في الشوارع الضيقة، مع اعتماد نمط بصري موحد، أو تنسيق بين نوعين لضمان الجاذبية، وسهولة الصيانة.
الدولة تولى أهتمام خاص بتشجير المناطق الزراعية والصناعية وحول المجاري المائية
يولي الدليل أهمية خاصة لتشجير المناطق المحيطة بالمصانع، حيث تظهر الدراسات أن الحزام الأخضر من الأشجار يمكنه تقليل التلوث بنسبة تصل إلى 27%، وتحسين جودة الهواء، والحد من التأثيرات الحرارية الناتجة عن الأنشطة الصناعية، يشجع على تشجير الطرق لحماية الأسفلت من التآكل، والحد من زحف الرمال، وتقليل الضوضاء.
وتسهم مصدات الرياح في المناطق الزراعية في رفع الإنتاج بنسبة تتراوح ما بين 15-25%، وتحسين كفاءة استخدام المياه، وأما على جسور الترع والمصارف، فإن التشجير يسهم في تثبيت الجسور، وتقليل معدل البخر، وتحسين جودة المياه من خلال امتصاص العناصر الملوثة.
وفي النهاية على الرغم من ما تحقق في العديد من المبادرات من جذب للانتباه، التحقق من ضرورة تعزيز مفهوم حماية البيئة، إلا أن التحدي الحقيقي لا يزال قائمًا، فنجاح هذه المبادرات يتطلب أن تتحول من حملات توعوية مؤقتة، إلى سياسات بيئية مستدامة تنفذ وتتابع، فالهدف الأكبر لم يعد مجرد زراعة شجرة، ولكن أن تصبح البيئة عنصرًا أساسيًا في حياة المواطن المصري، وسلوكًا يوميًا يتجسد في الشارع.