إنفراد – بسمة البوهي
في ظل التغيرات الإقتصادية التي نشاهدها، لم تعد المجتمعات بعيدة عن تأثيرات هذه التحولات على بنيتها الثقافية والإجتماعية، والتي ساعدت على تغيير العادات والتقاليد التي تعد من الركائز الأساسية، التي تحدد هوية المجتمع وتوجة سلوك الفرد.
فالتغيرات الإقتصادية سواء كانت ناتجة عن أزمة مالية، أو تحولات في سوق العمل أو تغيرات في مستوى المعيشة، فإنها تترك بصمتها الواضحة على أنماط الحياة اليومية، وأدت هذه التغيرات إلى أعادة صياغة بعض العادات، وظهور أنماط جديدة تتماشى مع الواقع الإقتصادي الجديد.
مع تغيير الحالة الاقتصادية، تجمعت أراء الناس على أن المظاهر الإجتماعية التي كانت غير قابلة للتغيير أو التراجع، مثل تقاليد الزواج أو العزومات أو الإحتفالات وحتى أساليب التربية والإنفاق، أصبحت تتغير بتغير الحالة الإقتصادية، ومع هذا التغيير أصبح هناك أعادة تدوير للأفكار في الزواج، حيث أن معظم الشباب تتزوج في سن كبير بعد إيجاد فرصة عمل مناسبة أو مشروع مربح، لتحسين الظروف الإقتصادية ولتأمين مستقبل أسرته.
وأيضاً تم أعادة التفكير في الإحتفالات مثل الأفراح وغيرها فإنها لم تعد مثل الأعوام الماضية، حيث يوفر كلًا من العائلتين التكاليف واخذها لعمل أمور مهمة لمستقبل العروسين، وليس ذلك فقط بل في بعض المجتمعات عندما يمرض شخص عزيز عليهم كانوا يأخذون له هدايا التي تسمى بـ”الزيارة” من أجله، أما الآن أصبح إعطاء الأموال أسهل وأوفر، ومن الممكن أن تصل إلى مكالمة هاتفية والأطمئنان علية فقط.
رأي الدكتور النفسي في هذة القضية
وبالأنفراد مع الدكتور “عاطف الشوبكي” دكتور نفسي ومدير مستشفى العزازي للصحة النفسية، الذي يوضح تأثير الضغوطات النفسية للأفراد داخل الأسرة بسبب التغيرات الإقتصادية، وأنها تختلف من أسرة لأسرة، مع التسليم بأن هناك تأثير سلبى لنقص القدرة على لتلبية إحتياجات الأسرة وافرادها، فالتأثير من نقص الإحتياجات الأساسية، يؤثر على نمو الأفراد فى الأسرة وتطورهم نحو نضج تواصلهم مع بعضهم البعض ويصبح تركيزهم فى الحصول على تلك الإحتياجات.
ويستكمل الدكتور النفسي تختلف تأثير التغيرات الإقتصادية من أسرة لأسرة، فهناك أسر إستهلاكية غير منتجة تقيس قيمتها بما تنفقه وتستهلكه، وأخرى تفقد مقومات التماسك وقت الضغوط الاقتصادية، لأنها تقيس سعادتها بالقيم المادية، وهناك أسر متماسكة تنمو على التواصل الناضج والتعاون والتدريب على تدبير أمورها وتعلم أنشطة ومهارات تساعدها فى إستكمال حاجتها، كالأسر التى تدبر غذائها من أرضها أو تطهوه فى منزلها أو ترضى ببدائل مؤقتة وقت الحاجة، مما يجعل منه ذو نكهة أفضل لأنه مصحوب بالتعاون والفكاهة، وهذا يزيد من قدرة التحمل لدى أفراد الأسرة.
ويؤكد “الشوبكي” أن التغيرات الإقتصادية قد تؤدي إلى تغير فى سلوك الناس مثل العنف والإنعزال، فقال الله تعالى “فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون”، قدم القرآن الكريم الجوع على الخوف لأنه يؤدى إلى جرائم النهب والسرقة والفساد والنصب، وحتى فى مقولات كثيرة مثل ” أطعم الناس ثم أطلب إحترام القوانين أو الإلتزام بالأخلاق “، وفى مقولات كبار العلماء ” لقمة فى بطن جائع خير من بناء ألف جامع، وخير ممن كسا الكعبة بالبراقع وخير ممن جاهد بالسيف والحر واقع”، “وإن للدقيق نور فى بطن الجائع كنور الشمس ساطع “.
ويقدم الدكتور عاطف دور العلاج النفسى فى مساعدة الأفراد على التكيف مع التغيرات الاقتصادية، (أولاً) تدعيم الأشخاص وتشجيعهم على معرفة قدراتهم أو توجيههم للأعمال المناسبة لهم، (ثانياً) تعليم المهارات والسلوكيات الأساسية للتواصل مع الآخرين، واللازمة لغالبية الأعمال، (ثالثاً) تنظيم حياتهم حتى لايصابوا بالملل والإجهاد ويتعلم الإسترخاء والهوايات المفيدة والممتعة، والرسم والكتابة والفن.
تأثير التغيرات الإقتصادية على الأسر
يعتبر سبب التحولات في سوق العمل هي التغيرات الإقتصادية، حيث تجعل الشباب يبحثون على وظيفة إضافية، التي قد تدفعهم إلى العمل في وظائف مؤقتة أو جزئية، وهذا يؤثر على إستقرار الأسر وتخطيطهم المالي، ويغير أيضاً من نمط الحياة والتفاعل الإجتماعي داخل الأسرة.
وأدت التغيرات الإقتصادية مثل إرتفاع معدلات البطالة، وتحولات سوق العمل إلى ظهور طبقات إجتماعية جديدة، تتطلب أنماط حياة وأفكار حديثة، وتلعب أيضاً المتغيرات السياسية والإقتصادية دوراً وضحاً في التحولات الثقافية والإجتماعية.
والجدير بالذكر أن التغيرات الإقتصادية تلعب دوراً محورياً في تشكيل أنماط الحياة، وتنعكس بشكل مباشر على العادات والتقاليد الإجتماعية، في حين يتغير الواقع الإقتصادي، وتتغير معه أولويات الناس، وأيضاً تتغير نظرتهم للحياة اليومية والقيم.
والتأثير الناتج عن التغيرات الإقتصادية هو تغير مكانة المرأة، من أنها تقوم بدور الأم في الأسرة إلى دخولها سوق العمل، وأيضاً تتغير مفهوم الناس حيث كانوا يتظاهرون ويتفاخرون بما لديهم من أموال وغيرها، أما الأن أصبح الإدخار والإنتاجية أكثر أهمية لديهم.
هل يمكن أن تنشأ عادات وتقاليد جديد تعكس واقعاً اقتصادياً مختلفاً
أصبح العمل عن بعد عادة جديدة في الكثير من المجتمعات، بعد التغيرات الإقتصادية التي حدثت، وهذا أدى إلى تغيير الروتين اليومي والعلاقات المهنية، وأصبح هناك أعادة تدوير للمنتجات مثل شراء المنتجات المستعملة، وأيضًا الإعتماد على التكنولوجيا في الدفع الإلكتروني والتسوق عبر الإنترنت، وتصل إلى التعليم الرقمي، وهذه العادات أصبحت جزءاً من حياتنا اليومية.
مدى قدرة المجتمعات في الحفاظ على هويته
عندما تدرك المجتمعات أن الثقافة هي مصدر قوة وليست عبئاً وتكون أكثر قدرة في الحفاظ عليها، وتستطيع تعديل بعض المظاهر الثقافية دون التخلي عن جوهرها، وتكون أكثر قدرة على الصمود، والذي يساعد أكثر في الحفاظ على الهوية الثقافية هو وجود مؤسسات تعليمية ودينية تساعد على ترسيخ الهوية الثقافية رغم التحديات.
ومن هنا نكتشف أن العادات والتقاليد ليست جامدة، بل هي مرآة تعكس الواقع الإجتماعي والإقتصادي، ومع كل تغير إقتصادي تنشأ عادات جديدة وفي عملية تعديل مستمرة من التكيف والتطور، وهذا ما يجعل المجتمعات قادرة على مواجهة التحديات.
كيف تتكيف المجتمعات مع التحديات الإقتصادية
يعتبر التكيف مع التغيرات الإقتصادية لا يعني التخلي عن الهوية الثقافية، بل يتطلب ذكاء جماعي في أعادة صياغة الممارسات اليومية بما يتماشى مع الواقع، حيث يمكن تبسيط بعض العادات وليس التخلي عنها مثل حفلات الزواج أو المناسبات، وهذا يحقق التوازن بين تقاليد والقدرة الإقتصادية، ومن الممكن نشر الوعي بأهمية الهوية الثقافية في المدارس والجامعات وغيرها، وهذا يخلق جيلاً قادراً على التكيف دون التخلي عن جذوره.
وفي النهاية ستظل العادات والتقاليد الإجتماعية مرآة تعكس الواقع الإقتصادي وتتأثر به وتؤثر فيه، وتتغير كما تتغير الفصول الناخية، فالتغيرات قد تحرك بعض مظاهر الحياة لكنها لا تملك وحدها القدرة على محو هوية المجتمعات، فالمجتمع الواعي قادر على التكيف، وأيضاً المجتمعات هي التي تنجح في تحويل التحديات إلى فرص، وتحافظ على جذورها الثقافية.
وتعتبر التغيرات الإقتصادية ليست مجرد أرقام، بل هي قوة مؤثرة تعيد تشكيل المجتمع من الداخل، وبينما تفتح هذه التغيرات آفاقاً جديداً، فإنها تضع تحدياً أمام الحفاظ على الهوية الثقافية والتقاليد، فلهذا من المهم أن يكون هناك وعي مجتمعي يوازن بين التطور الإقتصادي، والحفاظ على الروابط الإجتماعية.