تحقيق ـ بسملة الجمل
في صمت ثقيل، تغلق بعض الأبواب بين زوجين لم يرد أي منهما الفراق، لكن أوراق الطلاق توقع، لا خيانة، لا خصام، بل خطة محكمة للوصول إلى “المعاش” أو “المساعدة الاجتماعية”، وبينما يهلل البعض بـ”الذكاء”، يسقط من جيب الحقيقة سؤال ثقيل: هل خدعت الدولة، أم خدعت الشريعة.
بعيدًا عن أعين القانون، تنبت زيجات عرفية خلف طلاق لم يقع من القلب، بل من القلم، نساء يقررن التنازل عن توثيق الزواج، ورجال يشاركون في اتفاق “غير مكتوب” يضمن استمرار المعونة، كل ذلك باسم “الظروف”، لكن حين تصبح الحاجة مدخلًا للتحايل، وتتوارى العقود خلف نوايا مخفية، يعلو صوت الشرع والقانون معًا: من المسؤول، وهل ضاعت البركة حين تاه الصدق.
حين يصبح الصدق حلمًا والتحايل ثقافة
في هذا المشهد الملتبس، لا تبدو المرأة وحدها من تتحمل اللوم، فالمجتمع بأسره شريك في الصمت، والدولة شريكة في التأخير. حين تترك الأرملة لتواجه الحياة بطفل وذكرى، دون راتب يكفي أو دعم يليق، يصبح الإخفاء حيلة، والتنازل تكتيكًا لا بطولة فيه، لا أحد يريد أن يكذب، لكن حين يصبح الصدق حلمًا لا يقدر عليه البسطاء، تنهار القيم تحت ضغط القهر.
ورغم خطورة هذا الطريق، تتوسع دوائره، فهناك من اعتاد الطلاق على الورق والزواج في الظل، حتى أصبحت الحيلة ثقافة، والصمت عرفًا، والباطل ضرورة، هنا لا يكفي التوجيه، ولا تنفع العقوبة وحدها، المطلوب منظومة تعيد التوازن حيث تعترف بالاحتياج دون أن تبيح التحايل، وتحفظ الكرامة دون أن تفرط في الشرع، وتشرك المرأة لا تدينها، لأنها غالبًا ليست الجانية، بل أول ضحية في المعادلة المختلة.
ومن خلال الحديث مع بعض المواطنين تنوعت آرائهم، فأشارت “ريم محمد” أن لجوء بعض السيدات إلى الطلاق الصوري أو الزواج العرفي من أجل الاستمرار في الحصول على المعاش، هو تصرف ناتج عن الحاجة وليس بدافع التحايل، موضحة أن كثيرًا من النساء يجدن أنفسهن فجأة دون مصدر دخل، خاصةً بعد وفاة الزوج أو الطلاق، فيكون المعاش هو الوسيلة الوحيدة لتأمين احتياجاتهن الأساسية والإنفاق على الأبناء.
مؤكدة أن المجتمع أحيانًا يحكم على هذه السيدات بسطحية، دون أن يدرك الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهنها، كما أشارت إلى أن الحل لا يكون في اتهامهن، بل في مراجعة القوانين وتقديم بدائل عادلة تضمن لهن العيش الكريم دون اضطرار للجوء إلى طرق غير رسمية أو مخالفة.
وأكدت “ندى أحمد” أنها لا يمكن أن تقدم على الطلاق الصوري أو الزواج العرفي بهدف الحفاظ على المعاش، حتى وإن لم يكن لديها مصدر دخل آخر، موضحة أن الكرامة والوضوح أهم من أي مال، وأن التحايل على القانون مرفوض بالنسبة لها مهما كانت الضغوط.
وأضافت أنها تدرك صعوبة الظروف التي تمر بها بعض النساء، لكنها ترى أن الحل لا يكون في الكذب أو إخفاء الحقائق، بل في المطالبة بتغيير القوانين ومساندة المرأة بشكل رسمي وواضح، حتى لا تضطر إلى الاختباء أو مخالفة ما تعتبره قناعة شخصية وأخلاقية.
وأشار “عمر سامح” إلى أنه لا يتعاطف مع من تلجأ إلى الطلاق الصوري أو الزواج العرفي من أجل الحفاظ على المعاش، مؤكدًا أن ما يحدث هو تحايل صريح على القانون ويجب محاسبته، كما أوضح أن هناك فرقًا بين الحاجة وبين مخالفة القوانين والتلاعب بالنظام لتحقيق مصلحة شخصية.
مضيفًا أن هناك طرقًا أخرى لمواجهة الظروف الصعبة دون اللجوء إلى الكذب أو إخفاء الحقيقة، مشددًا على أن السكوت عن مثل هذه التصرفات يشجع على الفوضى، ويفتح الباب أمام مزيد من التحايل والإضرار بالمجتمع ككل.
وأوضح “محمد حسام” أنه يميل إلى الرأي القائل إن هذا التصرف يعد أخذًا للمال بغير حق، حتى وإن كانت الدوافع إنسانية أو ناتجة عن ضيق الحال، مؤكدًا أن القوانين وضعت لتنظيم الحقوق، وإذا بدأ الناس يتجاوزونها تحت شعار “الظروف الصعبة”، فإن النظام سيتحول إلى فوضى ويضيع حق المستحق الحقيقي.
كذلك أشار إلى أنه يتفهم أن بعض النساء قد يواجهن أوضاعًا معيشية قاسية، لكن ذلك لا يبرّر التحايل على الدولة أو الحصول على أموال لا تستحقها بعد الزواج، مؤكدًا أن الحل الحقيقي يجب أن يكون من خلال تعديل القوانين بشكل عادل، وليس من خلال مخالفتها.
وأكدت “منى السيد” أنها لا ترى أن تشدد الدولة هو الحل الأمثل لمواجهة مثل هذه الحالات، بل ترى أن الأجدى هو أن تبحث الدولة عن حلول قانونية عادلة تراعي ظروف الأرامل والمطلقات، خاصةً من لا يمتلكن مصدر دخل آخر.
كما أوضحت أن التضييق والعقاب قد يدفع النساء إلى المزيد من الإخفاء والتحايل، بينما الحل الحقيقي يكون في وضع بدائل تضمن للمرأة حياة كريمة بعد وفاة الزوج أو الطلاق، دون الحاجة إلى الدخول في زواج عرفي أو اللجوء للطلاق الصوري.
وأوضح “أدهم محمد” أن الزواج العرفي في بعض الحالات أصبح بالفعل وسيلة للتحايل على القانون، خاصةً حين تستخدمه النساء كحل مؤقت للاستمرار في الحصول على المعاش، رغم أنهن متزوجات فعليًا، معتبرًا أن هذا الاستخدام يفقد الزواج العرفي معناه الحقيقي، ويحوله إلى أداة للالتفاف على النظام.
وفي الوقت نفسه، أشار إلى أن بعض النساء قد لا يجدن بديلًا آخر في ظل غياب الدعم المادي والاجتماعي، فيلجأن إليه كوسيلة للبقاء والاستقرار، لكنه شدد على أن استمرار هذه الظاهرة يعكس خللًا في المنظومة القانونية والاجتماعية، ويحتاج إلى معالجة عادلة تراعي الحقوق ولا تفتح الباب للتحايل.
الطلاق الصوري.. كذب وتحايل شرعي لا يقره الإسلام
أكد الشيخ “محمد حسبو” أن الطلاق الصوري الذي يقصد به التحايل للحصول على منافع دنيوية مثل المعاش أو المساعدات، لا يجوز شرعًا، لأنه يدخل في باب الكذب والتحايل على الأنظمة، ويعد مخالفة لأمانة عقد الزواج، مضيفًا أن الطلاق يقع شرعًا إذا استوفى شروطه، حتى وإن لم تكن هناك نية حقيقية لإنهاء العلاقة، مستشهدًا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: “ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة”.
متى يكون الزواج العرفي حلالًا ومتى يصبح زنا
كذلك أوضح “حسبو” أن الزواج العرفي يعد صحيحًا من الناحية الشرعية إذا استوفى جميع أركانه المعتبرة، وهي: الولي، والشهود، والإيجاب، والقبول، أما إذا تم الزواج دون ولي أو شهود، فيعد باطلًا ولا يُعترف به، بل يُعد زنا في صورة عقد، وهو أمر خطير شرعًا وله عواقب فادحة.
التحايل على الشريعة لتحقيق مكاسب دنيوية.. جريمة بحق الدين
وأشار الشيخ إلى أن ما تفعله بعض السيدات من الطلاق الصوري ثم الزواج عرفيًا بهدف الحفاظ على المعاش يعد تحايلًا واضحًا على الشريعة، وأن الإسلام يرفض تمامًا هذا النوع من التحايل، مستدلًا بقوله تعالى: “ولا تتخذوا آيات الله هزوا”، مضيفًا أن التحايل يفسد النية، ويُسقط البركة، وقد يرتقي إلى كبيرة من الكبائر إذا ترتب عليه أكل مال بغير حق أو فساد في العقود الشرعية.
آثام مشتركة يتحملها الزوج والزوجة في زواج التحايل
كذلك شدد الشيخ محمد حسبو على أن الزوجة تأثم شرعًا إذا أقدمت على هذا النوع من الطلاق وهي تعلم أنه غير حقيقي، ثم تزوجت عرفيًا دون توثيق أو دون استيفاء شروط العقد، كما يتحمل الزوج نفس الإثم إذا شاركها هذا التحايل أو وافق على عقد زواج باطل.
شهادة الزور في إنكار الزواج.. كبيرة تهدد الآخرة
كما أكد الشيخ أن الزوجة تتحمل وزر إنكار الزواج أمام الجهات الرسمية، موضحًا أن هذا الفعل يُعد شهادة زور، وهي من الكبائر التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: “ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور”.
أبناء الزواج العرفي.. نسب شرعي أم إثبات قضائي
وفيما يتعلق بمسألة النسب، أوضح الشيخ أنه إذا كان الزواج العرفي صحيحًا شرعًا ومتوفر فيه الولي والشهود، فإن الأولاد ينسبون شرعًا إلى أبيهم، أما إن كان الزواج باطلًا من الأساس، فلا ينسب الأولاد إلا بعد إثبات النسب قضائيًا، وهو ما يُعد من المفاسد التي ينبغي الحذر منها.
معاش المتوفى لا يجمع مع زواج خفي
ورفض الشيخ تمامًا مسألة الجمع بين الحصول على معاش من الزوج المتوفى أو المطلق والزواج عرفيًا دون توثيق، مؤكدًا أن إخفاء الزواج للاستفادة من مال لا تستحقه المرأة هو أكل للمال بالباطل، وهو محرم بنص القرآن الكريم: “ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل”.
فتوى عامة وحملة توعية.. ضرورة لحماية المجتمع والأسرة
ودعا “حسبو” إلى إصدار فتوى عامة وحملة توعية شاملة، لتحذير الناس من خطورة هذه الأفعال، مؤكدًا أن هذه الظاهرة بدأت تنتشر في المجتمع، وتشكل تهديدًا حقيقيًا لبنيان الأسرة، وتؤثر على مستقبل الأبناء، كما تُضعف العلاقة بين المواطن والدولة، وتتنافى مع مقاصد الشريعة التي جاءت لحفظ الدين، والنسب، والمال.
نداء للضمير.. لا تجعلوا المال سببًا لخسارة الدين والآخرة
واختتم الشيخ محمد حسبو حديثه، بتوجيه نداء صريح ومؤثر، قائلًا: “يا عباد الله، اتقوا الله في أنفسكم وأهليكم، ولا تجعلوا الدنيا تفسد دينكم، فإن المال يذهب والدين يبقى، ومن تحايل على الشرع فقد خسر الدنيا والآخرة، وهو الخسران المبين”.
بين التحايل والاحتياج طريق يستدعي الإنصاف لا العقاب
وبينما تتأرجح الكفة بين الحاجة والشرع، وبين القانون والواقع، تظل الحقيقة واحدة لا يمكن بناء مجتمع سليم على أسس من التحايل أو التغاضي، فالمرأة التي دفعتها الظروف إلى طرق غير مأمونة، ليست مجرمة، لكنها أيضًا ضحية منظومة لم تنصفها، كما أن التغاضي عن المخالفات تحت ستار “الضغوط المعيشية” يهدد الثقة بين المواطن والدولة، ويهز دعائم الأسرة والمجتمع.
إن الحاجة إلى مراجعة القوانين، وتوفير مظلة حماية عادلة وشاملة للأرامل والمطلقات، لم تعد حلمًا، بل ضرورة أخلاقية ودينية ومجتمعية، فحين تقنن الرحمة، وتفهم الشريعة بمعناها الواسع، يغلق باب التحايل، وتفتح أبواب الصدق والكرامة، فلا يخسر الناس دينهم من أجل دنيا لا تدوم.