تحقيق – روفيدا يوسف
تواجه الزراعة المصرية تحديات متزايدة بفعل التغيرات المناخية المتسارعة، والتي باتت تؤثر بشكل مباشر على إنتاجية المحاصيل وجودتها، فقد أصبح ارتفاع درجات الحرارة، إلى جانب موجات الجفاف والسيول والأمطار الغزيرة، من الظواهر المتكررة التي تهدد استقرار القطاع الزراعي، مما ينعكس سلبًا على الأمن الغذائي في البلاد، ويضع الفلاح المصري في مواجهة مستمرة مع واقع مناخي لم يعد كما كان.
هذه التحولات المناخية لم تعد مجرد تحذيرات تُتلى في المؤتمرات أو تُكتب في التقارير العلمية، بل أصبحت ملموسة على أرض الواقع، يشعر بها المزارع في تراجع إنتاجية أرضه، وتلف بعض المحاصيل التي لم تعد تتحمل التغيرات الحادة في المناخ، ومع تصاعد هذه الظاهرة، تزداد الحاجة إلى حلول عملية وتدخلات عاجلة؛ لتقليل آثارها وحماية مستقبل الغذاء في مصر.
محاصيل استراتيجية على حافة الخطر
تأثرت بعض المحاصيل الاستراتيجية بتغير المناخ في مصر، مثل “القمح والذرة والطماطم والأرز”، وغيرها من المحاصيل والبقوليات وبعض أنواع الفاكهة، وهي محاصيل استراتيجية تعتمد عليها الأسر المصرية بشكل كبير، فمحصول القمح على سبيل المثال تأثر بارتفاع درجات الحرارة خلال فترات “التزهير”، ما أدى إلى انخفاض الإنتاجية في بعض المحافظات، كما أن الطماطم أصبحت أكثر عرضة للإصابة بالأمراض الفطرية بسبب التغيرات المفاجئة في درجات الحرارة والرطوبة.
ظواهر مناخية غير معتادة تضرب الأراضي الزراعية
من بين الظواهر التي تسببت في خسائر فادحة للمزارعين، موجات الصقيع التي ضربت عددًا من المحافظات الزراعية خلال فصل الشتاء، والتي أدت إلى تدمير مساحات كبيرة من محاصيل الخضر، بالإضافة إلى الرياح الشديدة والعواصف الترابية التي تؤثر على جودة النباتات وتزيد من معدلات الفقد في الإنتاج.
من الأرض إلى السوق.. ارتفاع الأسعار يلاحق المستهلك
تداعيات هذه التغيرات المناخية لا تقتصر على المزارع فقط، بل تمتد لتؤثر على أسعار السلع في الأسواق، فمع تراجع حجم المعروض من الخضر والفاكهة بسبب نقص الإنتاج، ترتفع الأسعار تلقائيًا، ما يزيد من الأعباء المعيشية على المواطنين، خاصة محدودي الدخل.
الدكتور علي إبراهيم: تأثيرات التغير المناخي على الزراعة في مصر
أكد الدكتور “علي إبراهيم” دكتور بمركز البحوث الزراعية، أن أبرز التغيرات المناخية المهدّدة للمحاصيل الزراعية، بسبب ارتفاع درجات الحرارة، التي أدت إلى انخفاض إنتاجية المحاصيل مثل القمح، حيث يقل الإنتاج تقريبًا بنسبة 9% عند ارتفاع درجتين مئويتين، وقد يصل إلى 18% عند زيادة 3.5°م.
ويرافق هذا زيادة في استهلاك المياه للري تملح التربة، وارتفاع مستوى سطح البحر يهددان أراضي دلتا النيل الهامة زراعيًا، ما يؤدي إلى تراجع في الإنتاجية، وازدياد الآفات الزراعية وانتشارها بفعل الحرارة وارتفاع الرطوبة، ما يزيد الاعتماد على المبيدات ويزيد التكاليف، تذبذب درجات الحرارة، وفي فصول الشتاء الدافئة يلحق أضرارًا بمحاصيل، مثل “الطماطم، الفلفل، والباذنجان”، ويخفض إنتاجيتها حتى 25%.
وأشار الدكتور علي إبراهيم أن المحاصيل الأكثر تأثرًا هي القمح، الشعير، الذرة، الأرز، فول الصويا، الطماطم، قصب السكر، عباد الشمس، والزيتون، جميعها ستشهد انخفاضات ملحوظة في الإنتاجية عند ارتفاع درجات الحرارة، مع زيادة في استهلاك المياه ، والقطن يُظهر قدرة تكيف أفضل، حيث قد يزيد إنتاجه بنسبة 17% عند ارتفاع درجة حرارة بمقدار 2°م، ويصل إلى 31% عند ارتفاع 4°م، رغم ارتفاع استهلاكه المائي.
ويتعرض الإنتاج الزراعي لآثار سلبية واضحة، من انخفاض في الإنتاجية، وزيادة التكاليف، وحتى انتقال الفلاحين من الزراعة بسبب الخسائر، كما حدث في بعض مناطق الإسماعيلية، وتضرر محاصيل الشتاء، بسبب التذبذبات المناخية وتغير الفصول، ما أدى إلى انخفاض الجودة والإنتاجية.
ويوجد العديد من المناطق الزراعية المهددة منها: “دلتا النيل”، وهي عرضة للغرق والتملح بسبب ارتفاع منسوب سطح البحر، “المناطق الساحلية”، حيث تهددها موجات الحرارة، والملوحة، وتغير أنماط الطقس، مع احتمال هجرة المزارعين من بعض الأقاليم، مثل “مرسى مطروح”.
دكتور مركز البحوث الزراعية يبرز جهود البحث والمشاريع لمواجهة التحديات
يشير الدكتور علي إبراهيم أن مصر تنفذ مشاريع مثل: “مشروع المليون ونصف مليون فدان”، الزراعات المحمية بالصوب مثل “الصوب الزراعية”، ومعالجة مياه الصرف الزراعي، لتأمين موارد مياه بديلة، والزراعة الذكية مناخيًا تطبق في تجارب مثل “قرية الكرام”، باستخدام بذور مناخية المقاومة، إدارة متكاملة للآفات، وتحسين التربة والمياه وتكامل الزراعة مع الثروة الحيوانية والأسماك.
وأكد دكتور مركز البحوث الزراعية أن الوزارة أطلقت برامج إنذار مبكر تشمل 50 موقعًا، لتوقع الطقس الزراعي، لتحديد مواعيد الزراعة، وإرشاد المزارعين، وإدارة المخاطر، وبالإضافة إلى أن مراكز التغير المناخي، ومراكز البحوث الزراعية تطور أصناف تتحمل الملوحة والجفاف والحرارة، بالإضافة لمحاصيل قصيرة العمر «180 يومًا».
وأوضح “إبراهيم” أن تطوير سلالات المقاومة تم استحداث أصناف ذكية من الذرة والأرز تتحمل الحرارة والملوحة، وتستهلك مياه أقل بنسبة تصل إلى 40%، وتحقق إنتاجية أفضل من التقليدية، ولإعادة ترتيب خريطة هذه المحاصيل حسب المناخ توجه لمواءمة مواعيد الزراعة.
فالقمح يزرع الآن أواخر ديسمبر، أوائل يناير بدلًا من نوفمبر”، والأرز والفول، وأوقات زراعة موسمية أخرى تغيرت المشيرون يدعون، لاختيار محاصيل ذات قيمة عالية ومستهلكة أقل للمياه مثل النخيل، والعمل على الري بالتنقيط، والزراعات المحمية بالطاقة الشمسية.
يبدو أن التغيرات المناخية لم تعد خطرًا مستقبليًا بل واقعًا يفرض نفسه على الزراعة المصرية بكل تحدياته، ويهدد بتقليص سلة الغذاء الوطني ورفع كلفة المعيشة، ومع استمرار موجات الحر والجفاف والسيول، تصبح الحاجة ملحّة لتبني حلول علمية مستدامة تُراعي خصوصية المناخ المصري واحتياجات الفلاحين.
مع إعادة النظر في خريطة المحاصيل وتحديث تقنيات الزراعة والري، بما يضمن استمرارية الإنتاج وتقليل الفاقد، ورغم حجم التحديات، إلا أن الجهود البحثية والمبادرات الحكومية تمثل بارقة أمل نحو تعزيز قدرة الزراعة المصرية على الصمود والتكيّف.
فالمضي قدمًا في تطبيق نماذج الزراعة الذكية مناخيًا، وتوسيع مشاريع الإنذار المبكر، وتطوير سلالات مقاومة، قد يشكّل حائط الصد في معركة الغذاء والمناخ، ويعيد للفلاح الثقة في أرضه، ولمائدة المصريين أمنها الغذائي المنشود.