تحقيق – مريم ناصر
أصبح النصب في وقتنا الحالي أكثر قذارة حين يتستر وراء ستار الخير، فلم تعد أساليب الاحتيال كما كانت في الماضي، بل تطورت مع التكنولوجيا الحديثة، حتى تحولت إلى فخ رقمي يصعب كشفه، ويستغل النصابون مشاعر الناس من خلال إعلانات مؤثرة وقصص إنسانية ملفقة، مثل “أم تعجز عن إطعام أطفالها”، أو “طفلة تحتاج إلى علاج بألاف الجنيهات”، ويضعون أرقامًا للتبرع، أو وسيلة دفع يسهل الوصول إليها، ليستدرجون بها ضحاياهم.
واستغل المحتالون شهامة المجتمع، ورغبته في مساعدة الآخرين، فجعلوا من المشروعات الخيرية نفسها ساحة مفتوحة للنصب، ومع اندفاع الناس للتبرع، يكتشف البعض أن الصور مفبركة، أو مسروقة من الإنترنت، وأحيانًا تختطف قصص حقيقية بالفعل من أصحابها، ليبنى عليها احتيال منظم، فتضيع الأموال بعيدًا عن مستحقيها.
وتحولت أدوات الذكاء الاصطناعي إلى أداة خطيرة في يد النصابين، بعدما منحهم القدرة على إنشاء منصات مزيفة، وصور وفيديوهات يصعب التفرقة بينها وبين الواقع، وبهذا لم يعد الاحتيال مجرد حيلة بدائية، بل أصبح جريمة رقمية متقنة، تهدد الثقة في العمل الخيري وتحول الإنسانية نفسها إلى غطاء يستخدم لخداع الناس، وسرقة أموالهم.
آليات النصب عن طريق المؤسسات الخيرية بفضل استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي
تستغل عصابات النصب الرسائل الإلكترونية والمحادثات المزيفة عبر الدردشة الذكية، حيث تكتب النصوص بلغة مقنعة تحمل أسماء منظمات معروفة، فتبدو وكأنها دعوات صادقة للتبرع، بينما الهدف هو سرقة بيانات أو أموال الضحايا، ينشئ المحتالون مواقع وتطبيقات شبيهة بالمنظمات الخيرية، باستخدام تقنيات متقدمة في التصميم والبرمجة.
وينتج عن ذلك جعل المتبرع العادي غير قادر على التفرقة بينها وبين المواقع الأصلية، وهذه المواقع تطلب بيانات شخصية، أو أرقام بطاقات بنكية، لدعم المشروعات الإنسانية، وتنتج عصابات النصاب فيديوهات، وصوتيات مضللة عبر تقنية التزييف العميق، ليظهروا شخصيات عامة، أو مسؤولين، وكأنهم يدعون للتبرع، هذه المقاطع تعزز من مصداقية الحملة المزيفة، وتدفع الضحية إلى التبرع دون تردد.
وتشغل هذه العصابات حسابات وهمية على منصات التواصل الاجتماعي، لإضفاء مصداقية زائفة على الحملات، حيث تبدأ التعليقات، والإعجابات الوهمية على الصفحات بموجة دعم كاذبة، توهم المتابعين بأن المشروع حقيقي، ويحظى بثقة واسعة، ما يزيد من احتمالية وقوعهم في الفخ.
ويستهدف المحتالون فئات معينة بعينها عبر رسائل شخصية مصاغة بدقة، لتلامس نقاط ضعفهم العاطفية، كما يبتكرون منصات دفع إلكترونية مزيفة تحمل تصميمًا موثوقًا، ليوحي بالأمان ويدخل المتبرع وهو مطمئن، لكن الأموال تتحول مباشرة إلى حسابات مشبوهة، ويصبح تتبعها شبه مستحيل.
الوجه الخفي للعمل الخيري.. حين تتحول التبرعات إلى مصيدة للنصب
يوضح المستشار “عبد الصادق البنا” المحامي بالاستئناف العالي ومجلس الدولة، وعضو نقابة المحامين العرب، أن الجمعيات الخيرية تعد ركيزة أساسية في بناء المجتمعات ودعم الفئات الأكثر احتياجًا، ويشير إلى أنه مع تزايد العمل الخيري، تظهر للأسف بعض الظواهر السلبية، أبرزها جريمة الاحتيال التي تستغل اسم هذه الجمعيات النبيلة.

المستشار “عبد الصادق البنا” المحامي بالاستئناف العالي ومجلس الدولة
ويؤكد المستشار عبد الصادق البنا أن المحتالين يستهدفون مشاعر العطف، والرحمة لدى الأفراد، لجمع الأموال بطرق غير مشروعة، مما يشوه صورة العمل الخيري الحقيقي، ويقلل من ثقة الجمهور، وتعد المنصات الرقمية بيئة خصبة للمحتالين، حيث يقومون بإنشاء صفحات وهمية أو حسابات مزيفة على “فيسبوك”،” تويتر”، “إنستجرام”، وغيرها.
وأشار إلى أن الجمعيات الوهمية تنتحل صفة جمعيات خيرية معروفة، أو يدعون أنهم ممثلون لها، وينشرون قصصًا مؤثرة وصورًا مفبركة لأطفال مرضى، أو حالات إنسانية مزرية، ليتلاعبون على العاطفة، ثم يطلبون التبرعات عبر حسابات بنكية شخصية، أو محافظ إلكترونية، وتكون غير تابعة لأي جهة رسمية.
ويضيف”البنا” أن يصعب تعقب هؤلاء المحتالين أحيانًا، بسبب الطبيعة اللامركزية للإنترنت وسهولة إخفاء الهوية، جمع التبرعات الوهمية في الشارع، أو المنازل، ويستغل بعض المحتالين الأماكن العامة والمنازل، لتنفيذ عملياتهم، وينتحلون صفة جامعي تبرعات لجمعيات خيرية وهمية، أو يدعون أنهم يقومون بجمع أموال لمشاريع خيرية غير موجودة على الإطلاق.
وقد يحملون أوراقًا قد تبدو رسمية، أو إيصالات مزورة، لإضفاء الشرعية على طلباتهم، ويستهدفون بشكل خاص كبار السن، أو الأشخاص الأقل دراية بأساليب التحقق من الهوية الرسمية، ويعتمدون على التواصل المباشر، لخلق انطباع بالثقة والمصداقية الزائفة.
الإطار القانوني لجرائم النصب باسم التبرعات لمواجهة الاحتيال
وأكد المستشار عبد الصادق البنا إن القانون المصري كافي في عقوباته الرادعه لهذه الجرائم في حاله الابلاغ عنها، يعاقب القانون المصري على جريمة الاحتيال، لضمان تحقيق الردع العام والخاص، حيث تنص المادة «336» من قانون العقوبات المصري على أن كل من توصل إلى الاستيلاء على نقود، أو عروض، أو سندات دين، أو سندات مخالصة، أو أي متاع منقول آخر، وكان ذلك بالاحتيال، أو باستعمال طرق احتيالية يعاقب بالحبس.
واستكمل قائلًا: “أن تتراوح مدة الحبس عادة من 24 ساعة إلى ثلاث سنوات، وقد تصل إلى السجن المشدد في بعض الحالات المشددة، مثل إذا ارتكبت الجريمة تحت ستار اسم، أو عمل غير صحيح، أو صفة غير صحيحة، أو بالاحتيال على أشخاص تقل أعمارهم عن 18 عامًا، أو ممن لا يتمتعون بملكة عقلية كاملة، وهو ما ينطبق غالبًا على الاحتيال باسم “الجمعيات الخيرية”.
خطوات أساسية لتجنب فخ المشاريع الخيرية الوهمية وللوصول إلى الحماية الكاملة
يشدد المستشار على ضرورة التحقق من التراخيص الرسمية، تحقق دائمًا من الجهة التي تطلب منك المال، ولا تجعل الصور المؤثرة، أو القصص المنتشرة تخدعك، ابحث عن الترخيص الرسمي الذي يثبت أن الجمعية تعمل تحت إشراف الدولة، ولا تعتمد على الانطباع الأول، فالنصب عادة يختبئ خلف مشاعر التعاطف، تأكد بنفسك من هوية المؤسسة قبل أن تدفع أي مبلغ.
بالإضافة إلى أن الجمعية الخيرية مسجلة ومرخصة قانونًا، ويجب على المتبرع التأكد من أن الجمعية تحمل ترخيصًا ساريًا من وزارة التضامن الاجتماعي في مصر، أو من الجهة الرسمية المختصة في أي دولة أخرى، يمكن الاستفسار عن ذلك من خلال المواقع الرسمية للوزارات المعنية، أو الاتصال بالجهات الحكومية مباشرة، وأن الجمعيات الرسمية تكون بياناتها واضحة ومتاحة للجمهور، وتتبع إجراءات قانونية صارمة في عملها.
ويجب لحماية المتبرعين والمجتمع، تثقيف الأفراد حول مخاطر الاحتيال الخيري، ليصبح جزءًا لا يتجزأ من حملات التوعية المجتمعية، ويمكن تنظيم ورش عمل، أو ندوات، أو حملات إعلامية عبر التلفزيون، والراديو، والإنترنت، لشرح أساليب المحتالين الشائعة، يجب تعليم الأفراد كيفية التحقق من هوية المنظمات، والتحقق من التراخيص، وكيفية التمييز بين العروض الحقيقية والمزيفة، عندما يكون الأفراد مسلحين بالمعرفة، يصبحون أقل عرضة للوقوع ضحايا لهذه الجرائم، مما يقلل من نجاح المحتالين.
وفالنهاية يظل أخطر ما في هذه الظاهرة أنها تهدد الثقة في فعل الخير نفسه، فبدلًا من أن يكون التبرع بابًا للرحمة، يتحول إلى فخ يستنزف أموال البسطاء ويغلق أبواب الثقة أمام الجمعيات الحقيقية، وما لم يكن هناك وعي جماعي، ستبقى هذه الفئة قادرة على التحايل والتخفي خلف الشعارات الإنسانية.
ويجب أن ندرك أن مقاومة هذا النوع من الاحتيال تبدأ من الفرد، من اختياره أن يتأكد ويفكر قبل أن يتبرع، ومن إصراره على أن يضع أمواله في المكان الصحيح، ويمكننا أن نحمي إنسانيتنا من أن تتحول إلى وسيلة للغدر، ونضمن أن الخير يصل فعلًا إلى من يستحقه.