إنفراد – بسملة الجمل
يتسلل الوسواس القهري إلى حياة الشباب بصمت، كضيف غير مرغوب فيه، يفتح أبواب الهواجس ويحول التفاصيل اليومية إلى معارك داخلية لا يراها أحد، لا يبدأ بصوت عالي، بل بخطوة خفيفة، فحص متكرر للتليفون، أو خوف مبالغ فيه من التلوث، أو فكرة ملحة ترفض الخروج من الرأس.
ويخترق الاضطراب روتين الحياة الدراسية والعائلية، فيعيد تشكيل طريقة التفكير، ويخلق صراعًا صامتًا يعيشه كثيرون دون قدرة على الشرح، اختبارات، مسؤوليات، ضغوط أسرية، كلها تتحول إلى شرارة تزيد الهواجس اشتعالًا.
كذلك يربك السلوك اليومي حين تختلط الأفكار القهرية بمحتوى الشبكات الاجتماعية، فيديو يطمئن، وآخر يخوف، وثالث يقدم “تشخيصًا” جاهزًا، ليترك الشباب بين عالمين عالم يعاني وآخر لا يصدّق.
ويعمق الواقع إحساس الاختناق لدى جيل كامل يحاول فهم ما يحدث داخله، ويبحث عن كلمات يمكنها وصف ما لا يرى، وما لا يقال بسهولة، بين محاولة السيطرة وطلب المساعدة، تتشكل رحلة معقدة لا يشعر بها إلا من عاشها.
ويكشف الضغط اليومي عن هشاشة لا يتوقعها الكثيرون، نظرات الناس، تعليق عابر، أو موقف بسيط قد يشعل موجة جديدة من الشكوك والهواجس، ويكبر السؤال داخل الرأس، هل أنا طبيعي، وتبدأ رحلة البحث عن إجابة في أماكن خاطئة، وفي توقيت يزيد الألم بدلًا من أن يخففه.
ويحاول الشباب التعايش مع هذا الاضطراب بطرق مختلفة، منهم من يلجأ للعزلة، ومنهم من يغرق في العمل أو الدراسة هربًا من أفكاره، ومنهم من يبدأ خطوات مترددة نحو العلاج، ومع كل خطوة، تظهر حقيقة واضحة أن الوسواس القهري ليس ضعفًا ولا مبالغة، بل تجربة إنسانية مؤلمة تحتاج إلى فهم واحتواء ودعم حقيقي.
الطب النفسي يكشف الفروق الخفية بين الوسواس القهري والشخصية الوسواسية
أكد الدكتور جمال فرويز أستاذ الطب النفسي، أن مرض الوسواس القهري يمتلك نسبة عالمية ثابتة لا ترتفع بانتقال المجتمع من مكان إلى آخر. وتبلغ نسبته في المجتمع المصري ما بين 1% إلى 2.5%، موضحًا وجود فروق واضحة بين مرض الوسواس القهري وبين الشخصية الوسواسية، وتتمثل المشكلة في أن بعض الأشخاص، وللأسف بعض الأطباء، يخلطون بين الشخصية الوسواسية كطبع نفسي وبين المرض الفعلي، فيعتبرونها اضطرابًا رغم أنها ليست مرضًا.
وأوضح الدكتور جمال فرويز أن الشخصية الوسواسية إذا تعرضت لضغوط مصحوبة بأعراض اكتئابية قد تظهر عليها أعراض تشبه الوسواس القهري، وهو ما ساهم في زيادة الحالات، خصوصًا بعد جائحة كورونا، إلا أن الحقيقة أن هذه ليست حالات وسواس قهري، بل أعراض وسواس ظهرت على شخصيات وسواسية تعرضت لضغط نفسي، بينما يظل مرض الوسواس القهري في صورته الحقيقية أمرًا مختلفًا.
وفصل “فرويز” صور الوسواس القهري الفعلية، وهي خمس صور، الصورة الفكرية، والصورة الحركية، والمخاوف المرضية “الفوبيا”، والاتهامات المرضية التي يتخيل فيها المريض أنه مصاب بأمراض مثل القلب أو السكري أو الضغط أو الكبد وغيرها، أما الصورة الأخيرة فهي المرحلة المرضية التي قد يصل إليها المريض إذا لم يتلقى علاجًا، وفيها تظهر تصرفات اندفاعية لحظية قد تكون مؤذية أحيانًا.
ولفت أستاذ الطب النفسي أخيرًا إلى أنّ كثيرًا مما يشاهد اليوم من حالات متشخصة على أنها وسواس قهري ليست كذلك، إذ يشخص بعض مرضى الاكتئاب باعتبارهم مصابين بالوسواس، بينما هم أصحاب شخصيات وسواسية ظهرت لديهم أعراض عابرة، وبمجرد علاج الاكتئاب تختفي أعراض الوسواس تلقائيًا.
تمييز الهواجس عن المرض مفتاح السيطرة على الوسواس القهري
ويكشف واقع الوسواس القهري عن طبقات عميقة لا يراها كثيرون، طبقات تبدأ بفكرة صغيرة وتنتهي بصراع داخلي يستهلك النفس بصمت، بينما يظل الالتباس بين المرض والشخصية قائمًا، يقود البعض إلى طرق علاج ليست لهم.
ويظهر كلام المتخصصين أن الخلط بين الشخصية الوسواسية والوسواس القهري ليس تفصيلة عابرة، بل فجوة قد تغير حياة شاب أو فتاة بالكامل، تشخيص واحد قادر على تحويل القلق العابر إلى عبء ثقيل.
كذلك يفتح فهم الفروق الدقيقة بابًا جديدًا أمام كل من يعاني، بابًا يعيد تعريف ما يحدث داخله، ويمنحه فرصة ليرى نفسه بوضوح، بعيدًا عن ضباب الخوف والتأويلات الخاطئة.
ويؤكد الواقع أن الطريق نحو الشفاء لا يبدأ بالعلاج فقط، بل يبدأ بمعرفة صحيحة، وبوعي قادر على التفريق، وبخطوة شجاعة تقول لصاحبها أنت لست وحدك، وما يثقل رأسك قابل أن يفهم، وأن يعالج، ويخفف تدريجيًا.
كما ينتهي المشهد برسالة واحدة واضحة، ليس كل هاجس مرضًا، وليس كل خوف علامة خطر، لكن كل صرخة داخلية تستحق أن تسمع قبل أن تتحول إلى عبء لا يحتمل.





