تحقيق – سوزان الجمال
تعاني النساء عادةً من أعراض اكتئاب مع بعد الولادة، وذلك بعد نحو أسبوع إلى ثلاثة أسابيع من الولادة ولمدة تزيد عن العام، وتزداد شدّة مع الوقت، لكن في معظم الحالات يحدث في غضون 4 أسابيع بعد الإنجاب.
يجب عدم إهمال اكتئاب ما بعد الولادة أو تركة دون علاج، إذ قد يؤثر بالسلب على الحياة اليومية والعائلية وعلى علاقة الأم بالمولود الجديد، كما قد تزداد أعراضه سوءًا مع مرور الوقت، يوجد العديد من الخيارات العلاجية التي تساهم في التغلب عليه.
تحدثت “نورهان.ج” عن تجربته مع الاكتئاب ما بعد الولادة قائله: “في حالتي حل الاكتئاب مع ولادة طفلي الثاني في المستشفى مباشرةً، بعدما بدأت ممرضة في قسم الولادة ممارسة ضغوط عليّ لإرضاع الطفل، لأن سياسة المستشفى تعتمد على تشجيع الأمهات على الرضاعة الطبيعية”.
وتابعت”نورهان”: “لم تفهم الممرضة أن رفضي الإرضاع كان لأسباب طبية بحت، ترتبط باضطراري إلى تناول دواء مباشرة بعد الولادة بسبب مرضي المزمن، كانت ليلة واحدة في المستشفى مع هذه الممرضة الجاهلة، كفيلة بتحويل مناسبة إنجاب طفلي إلى جحيم”.
وأضافت “نورهان.ج”: “ولم تكفّ الممرضة “شرّها” عني، إلا بعدما تدخلت أمي غاضبة وحصلت لي على بعض السكينة لكي أنام، فيما أجبرت الممرضات على أخذ طفلي وإعطائه الحليب الاصطناعي لكي ينام بدوره، ولكثرة ما مارست الممرضات ومعهن المجتمع، بعد خروجي من المستشفى، ضغوطًا تضع اللوم عليّ لعدم إرضاع طفلي”.
واستكملت “نورهان”: “وما من حالة حمل تشبه الأخرى، وما من حالة بهذا المعني “طبيعية” بالكامل، أصابني الإحباط مجبولًا بالشعور الثقيل بالذنب، وحلّت الكأبة، أنا أسمّيها الأن كأبة، وكنت أسميها آنذاك كآبة، لكن معظم الذين حولي لم يبدوا مقتنعين بأنها كآبة حقًا، بل أن هذا الأمر “طبيعي” أيضًا؟!، وأن فترة الأربعين يومًا الأولى بعد الولادة تُسمى “نفاس” باللغة الشعبية، ولا بدّ أن تمرّ في النهاية”.
وقالت “دينا.ع” أخصائية نفسية: أُصبت باكتئاب ما بعد الولادة، وكانت عاجزة على الحديث عن التجربة، ولكن من الصعب عليّ كأخصائية نفسية أن أعترف بعجزي أمام مرض كالاكتئاب، لكنها الحقيقة، وأن كان هناك شيء مهم تعلمتة من دراستي وممارستي لعلم النفس، فهو أن أكون صريحة مع نفسي قبل كل شيء، وأن أعترف بعجزي”.
أوضحت”دينا.ع”: “في الواقع كنت في أعمق حفرة على سفح الجبل وقد حاولت الصعود، ولا زلت أحاول كل يوم، لم يذهب الاكتئاب، لن يذهب أبدًا، سيظل يتربص بي وسأظل أحاول التغلب عليه لا يُخيَّلُ لكم أني لم أُفكر بالله وبإيماني به، لكن مع الاكتئاب وصلت لنقطة انعدم فيها كل شيء، كانت لديّ رغبة ملحّة في العودة إلى الرحم الذي خرَجَت منه ابنتي للتو”.
وتابعت “دينا ع”: “كنت أقاوم فكرة أني أصبحت أمًّا، وأني سأُبلي بلاءًا حسنًا في دوري الجديد، لأني كما قال بريسفيلد عن الأم حين تضع مولودها لا تدرك أنه خرج منها، من روحها وجسدها، بل يُخيل لها أنه خرج عن طريقها، لهذا تأخذ بعض الأمهات الكثير من الوقت لتستوعب هويتها كأم، تفهمها وتتعايش معها”.
وقالت “سلمى.ك” البالغة من العمر 29 عامًا: “كان حملي صعبًا وخطيرًا، واضطررت للبقاء في السرير دون حركة لأكثر من شهرين متواصلين بعد أن كنت على وشك الإجهاض في الشهر السادس، وهي التجربة التي لن تُمحي من ذاكرتي أبدًا”.
وتابعت “سلمى”: ” كانت في تلك الفترة يسيطر على عقلي أفكار تتعلق بالتخلص من ابنتي، كنت أفكر أثناء إرضاعي لها أنني سألقيها من النافذة أو الشرفة، لكني كنت أخشى أن أحكي لأي أحد هذه المشاعر حتى لا يعتبرونني مجنونة، وغير مقدرة لقيمة النعمة”.
وأضافت “سلمى.ك”: “رحلة الحمل جعلتني أشعر بالعجز، وأنني لن أستطيع ممارسة حياتي الطبيعية مرة أخرى، كان عندي رعب وخوف مبالغ فيه على ابنتي، أن يحدث لها أي شيء، أن يحملها أحد بطريقة خاطئة، كذلك إنتشار فيروس كورونا زاد مخاوفي، وكنت أخاف أن أكون السبب في إيذائها”.
أكدت”إيمان.ع” البالغة من العمر 30 عامًا: “كنت أسمع 100 مرة في اليوم، نصائح حول إطعام الطفل، لكنني في الواقع كنت مكتئبة وأبكي طوال الوقت، وأشعر بالألم الشديد بعد الخضوع لولادة قيصرية، ولا أستطيع النوم بسبب بكاء الطفل طوال الوقت”.
وأشارت “إيمان”: كنت أشعر أني أم فاشلة وغير قادرة على رعاية الطفل بالطريقة التي تمنيتها، تمنيت الموت، هذه ليست حياتي، لا أستطيع القيام بأي شيء، أنا في واقع جديد مخيف ولا أستطيع التعامل معه أو تقبله”.
أوضحت “منال.ي” البالغة من العمر 32 عامّا: “لم أكن قادرة على حمل ابنتي، كنت أطمئن عليها من بعيد، وفقدت شهيتي للطعام، كنت أيضا أريد البقاء وحيدة وعدم رؤية أي شخص لأطول فترة ممكنة، لم أكن قادرة على التوقف عن البكاء”.
وأشارت “منال”: “في تلك المرحلة كانت لدى اسئلة كثيرة، أين أنا من كل هذا الزحام المحيط بي، كيف تغير جسمي بهذا الشكل، ماذا حدث لي، كنت لا أنام وأحلم طوال الوقت أني ابنتي سقطت من سريرها أو اختنقت أثناء إرضاعها”.
قال الدكتور “جمال فرويز” استشاري الطب النفسي وأستاذ بكلية الطب جامعة عين شمس: “يستحق الإنتباه على الأعراض التي تظهر عند النساء بعد الولادة مباشرةً، لأنه يكون حالة اكتئاب، وغالبًا ما تظهر الأعراض في شعور باللامبالاة، فضلًا عن الحزن والرغبة في البكاء طوال الوقت”.
وتابع “جمال فرويز”: “والإحباط من عدم شعورهن بحب جارف لأطفالهن كما توقعن خلال الساعات الأولى لميلاده، ويصاحب ذلك شعور بالخزي والتقصير وانعدام القيمة، لكن أكثر ما يثير قلق، هو ألا تقدر النساء على التحدث عن الأمر مع شخص يثقن به سواء من الأسرة أو مسؤولي الرعاية الطبية، ما يجعل المشاعر السلبية تتطور لدى النساء حتى تصل إلى التفكير في الانتحار”.
وأضاف استشاري الطب النفسي: “لذلك يجب توفير الدعم المطلوب للنساء المصابات بهذا المرض، في مراحلة الأولى على اختصار فترة الإصابة به وتقليل حدة المرض، ويعالج اكتئاب ما بعد الولادة عبر عقاقير مضادة للاكتئاب، وفي كثير من الأحيان لا يتطلب الأمر أكثر من مساعدة نفسية وسلوكية من جانب متخصصين”.
وبحسب منظمة الصحة العالمية، تعاني نحو 10% من النساء حول العالم من الاكتئاب أثناء فترة الحمل، لتصل النسبة إلى 13% بعد الولادة، وفي الدول النامية ترتفع النسب إلى 16% خلال فترة الحمل و تصل إلى 20% بعد الولادة.
وأكدات وفاء الصاوي المسؤولة التقنية بوحدة الصحة النفسية في مكتب منظمة الصحة العالمية الإقليمي بالشرق الأوسط، أن النسب العالمية والعربية بشأن الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة تتقارب، لكن النساء العربيات لا يطلبن المساعدة بسبب الوصم المحيط بالإفصاح عن المشكلات النفسية، الأمر الذي يمنع النساء أو يقلل من احتمالية طلبهن للمساعدة، كذلك العادات والتقاليد المتوارثة.
وبهدف نشر الوعي بين النساء ومقدمي الخدمات الطبية في العالم العربي، طرحت منظمة الصحة العالمية على موقعها الإليكتروني كتيب “التفكير الصحي” باللغة الإنجليزية والعربية، ويقدم الكتيب إرشادات للعلاج النفسي و السلوكي الذي تحتاجة النساء خصوصًا في مرحلة ما بعد الولادة.
وفي حالات نادرة، قد تقدم الأم المكتئبة على إيذاء رضيعها، ففي يونيو تموز الماضي، قتلت أم حديثة الإنجاب في محافظة الشرقية شرق العاصمة المصرية القاهرة، رضيعها وعمره ثلاثة أشهر بـ”ريموت” التليفزيون، دون سبب مفهوم، وأشارت التحقيقات وقتها أنه من المحتمل أن تكون الأم مصابة باكتئاب ما بعد الولادة.