تقرير – وفاء العسكري
حديثنا هنا مختلف فـ اعتراف مصر بالصين الشعبية له العديد من الجذور العميقة، ولكن قبل البدء في كشف الحقائق، يجب التعرف على أصول العلاقات المصرية الصينية.
إذ تعتبر مصر والصين من أقدم وأثرى الحضارات في العالم، وتلاقت الحضارتان على مر العصور تجاريًا وثقافيًا، ومع قيام جمهورية الصين الشعبية في أكتوبر 1949 ونجاح ثورة يوليو 1952 في مصر.
تلاقت توجهات البلدين في الدفاع عن قضايا العالم الثالث، وكان لقاء الرئيس “جمال عبد الناصر” ورئيس الوزراء الصيني “شو إن لاي” في عدة مناسبات “رانجون، باندونج”، ثم إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في 30 مايو 1956.
وبذلك تصبح مصر أول دولة عربية وأفريقية تقيم علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية، وكانت هذه الخطوة نقطة فارقة في علاقات الصين الدولية، في ظل مناخ الحرب الباردة.
حيث كان لدور مصر الرائد على المستويين العربي والافريقي، تأثيره الكبير على الساحة الدولية، وتوالي الاعتراف بعد ذلك بجمهورية الصين الشعبية، وشهدت العلاقات المصرية الصينية تطورًا مستمرًا في كافة المجالات، على مدار العقود الخمس الماضية.
وفي ظهر يوم 16 مايو 1956، حين استقبل رئيس وزارء الصين رئيس مكتب مصر التجاري في الصين الشعبية “محمد مدحت الفار”، لإبلاغه اعتراف مصر بالصين كان “لاي” أول من استقبل ذلك القرار في نفس يوم إعلانه في القاهرة.
ورحب به أجمل ترحيب، وأصبحت مصر الدولة الثالثة والعشرين المعترفة بالصين الشعبية والأولى عربيًا، وأنه كان للقرار صدى عالمي وعربي هائل، ورأت أمريكا أن القرار عمل لا يغتفر.
فكان القرار في حينه سباحة عنيفة ضد التيار العاصف، وتجاوزًا للخطوط الأمريكية الحمراء، فالولايات المتحدة بعد استيلاء الشيوعيين على السلطة في الصين عام 1949، رفضت الاعتراف بالصين الجديدة، مقررًة أن الصين بالنسبة إليها هى “فورموزا وتايوان”.
وأن تلك الجزيرة الصغيرة هى التي تمثل كل شعب الصين، بل وتحتل مقعد الصين الدائم في مجلس الأمن الدولي، وبالطبع كان المشهد عبثيًا إلى أقصى حد وتلك كانت سنوات الحرب الباردة، فلاوجود للصين بالمرة إلا باسم فورموزا، وعلى أصدقاء وحلفاء أمريكا التزام هذا التصنيف لأن أى اعتراف بالصين الجديدة.
والصين الحقيقية فهو عمل عدائي ضد المصالح الأمريكية، وسبق خطوة الاعتراف، علاقة بين جمال عبدالناصر وشوين لاي، لأن الاثنين اجتمعا للمرة الأولى في عاصمة بورما، عندما كان في طريقهما إلى باندونج لحضور مؤتمر دول الحياد الإيجابي في 18 أبريل 1955.
فكان الصينيون حريصون كل الحرص على إجراء هذا الاتصال مع عبد الناصر، فقد كانت مصر بدأت تبرز كزعيمة للعالم العربي، وكان الصينيون يرقبون عن كثب مسلك مصر، لأن موقف مصر من الصين كان يعنى موقف منطقة بأسرها وليس موقفها وحدها.
وعندما توقف “عبد الناصر” في نيودلهي لاصطحاب نهرو “رئيس وزراء الهند”، طلب السفير الصيني في العاصمة الهندية أن يقابل شوي لاي، وقبل عبد الناصر بسرور معتقدًا أنهما سيجتمعان في باندونج، ولكن عندما هبط عبد الناصر ونهرو من طائرتهما في رانجون.
ووجدا شوين لاي في انتظارهما في المطار، وقام نهرو بمهمة التعريف قائلًا: “هل أحتاج إلى أن أعرفكما ببعضكما أو إلى تقديم كل منكما إلى الآخر”، وكان يومًا قائظ الحر، وقف الثلاثة بعض الوقت يشربون عصير جوز الهند الطازج، والناس يمطرونهم برذاذ الماء المعطر احتفالًا بعيد “شان جان” مهرجان المياه البورمي.
وقد أثبتت هذه العلاقات قدرتها على مواكبة التحولات الدولية والإقليمية والداخلية، ومما ساعد على ذلك تميز تلك العلاقات منذ إقامتها، بخلوها من أي تعارض في الأهداف الإستراتيجية لكلا الدولتين، اللتين تنتهجان إستراتيجيات وسياسات تكاد تكون متوافقة.
وذلك من حيث السعي والعمل من أجل السلام في كافة أرجاء العالم، والدعوة إلى ديمقراطية العلاقات الدولية، وإقامة نظام دولي سياسي وإقتصادي منصف وعادل واحترام خصوصية كل دولة، فضلًا عن تفهم كل طرف للقضايا الجوهرية للطرف الآخر، وتبادلهما التأييد في هذا الصدد.
فتؤكد مصر دائمًا أن هناك صين واحدة وتعارض استقلال تايوان، كما أن الصين تؤيد الرؤية المصرية لإحلال السلام في الشرق الأوسط، وحل القضية الفلسطينية، ومبادرة الرئيس “حسني مبارك” لجعل الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل.
وقد تعمق هذا الفهم والتأييد المتبادل بصورة أكبر مع توقيع الرئيسين حسني مبارك وجيانج تسه مين، في 5 إبريل 1999 على إعلان الشراكة الإستراتيجية بين الدولتين، إذ يعمل الجانبان على تشجيع وزيادة الإستثمارات الصينية في مصر.
إلى جانب العمل على التوصل لاتفاق المرحلة الثانية من المنطقة الإقتصادية، الخاصة بشمال غرب السويس، في ضوء ما يواجه هذا المشروع من صعوبات، إضافة إلى تطوير جنوب مصر ومنطقة البحر الأحمر.
بالإضافة إلى العمل على توسيع أنشطة الشركات الصينية العاملة، في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في مصر، حيث تسعى مصر إلى إنشاء قرية تكنولوجية على غرار المنطقة التكنولوجية “ببكين”، بالاستعانة بالخبرات الصينية في هذا المجال.
حيث حقق التعاون بين البلدين في مجال البترول شوطًا كبيرًا، شمل التصنيع المشترك للحفارات والتنقيب والتصنيع المشترك للمواسير، بالإضافة إلى مجالات أخرى غير نفطية مثل تصنيع الوقود الحيوي وبدائل الغاز الطبيعي.
إلى جانب نقل التكنولوجيا وتدريب العمالة والكوادر البشرية، وفي مجال الطاقة أبدى الجانب المصري اهتمامًا كبيرًا بدخول الشركات الصينية في المناقصات، التي تطرحها مصر بشأن مشروعات الطاقة التقليدية والمتجددة.
والاستفادة من الإمكانيات الكبيرة للشركات الصينية في هذا المجال، الذي حققت الصين فيه تقدمًا كبيرًا، وقد قامت بالفعل عدة شركات صينية بالدخول في عدد من المناقصات.
وهنا تهتم مصر بالتعاون مع الصين في مجالات البيئة وتغير المناخ، والتخلص من النفايات الصلبة والنفايات الخطرة، إلى جانب الاستمطار الصناعي، وتدوير قش الأرز والمخلفات الزراعية، والحد من التلوث الناتج عن مصانع الأسمنت، واستخراج الطاقة من النفايات وسبل تدويرها.
كما تهتم مصر بتعزيز التعاون مع الصين في مجالات النقل، والطرق والنقل البحري والكباري، والمواصفات الفنية وتدريب الكوادر، بالإضافة إلى إمكانية الاستعانة بالخبرات الصينية في مجال القطارات فائقة السرعة.
وقد قام وزير الري والموارد المائية بزيارة إلى الصين في شهر نوفمبر 2012 استغرقت 4 أيام، وعقد خلالها مباحثات مع نظيره الصيني، وعددًا من كبار المسئولين بوزارة الموارد المائية الصينية.
حيث بحثا سبل تعزيز العلاقات الثنائية في مجال الري، وإدارة الموارد المائية، وتم في ختام المباحثات التوقيع على مذكرة تفاهم للتعاون بين البلدين في هذا المجال، كما قام الوزير بزيارة مقاطعة “شانشي الصينية”، للمشاركة في الأسبوع التاسع عشر للتعاون الزراعي الدولي ومعرض التكنولوجيا الزراعية.
وزار الوزير كذلك أنظمة التحكم والسيطرة التابعة لسد الوديان الثالثة “Three Gorges Dam”، وهو أكبر مشروع لتوليد الطاقة الكهربائية في العالم، وتشهد العلاقات الإقتصادية بين البلدين تطورًا مستمرًا.
إلا أن الميزان التجاري يميل بدرجة كبيرة لصالح الصين، وخاصة في ظل هيكل الصادرات المصرية، الذي يغلب عليه المواد الأولية ذات القيمة المضافة المنخفضة، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين في عام 2009 حوالي 5,9 مليار دولار منها 5,7 مليار دولار صادرات صينية لمصر.
في حين أن 550 مليون دولار هم صادرات مصرية للصين، ويسعى الجانب المصري لتعويض العجز في الميزان التجاري مع الصين، من خلال تطوير حركة السياحة والسفر المتزايدة من جانب الصينيين لمصر، خاصة بعد إدراج مصر على قائمة المقاصد السياحية للسياح الصينيين.
بالإضافة إلى تشغيل خطوط طيران مباشرة بين القاهرة وبكين، إذ بلغ عدد السائحين الصينيين لمصر في عام 2009 نحو 100 ألف سائح، فضلًا عن التطلع لزيادة حركة الإستثمار الصيني في مصر، ولاسيما وأن الصين أصبحت خلال الأعوام القليلة الماضية، إحدى أهم البلدان الرئيسية المصدرة للإستثمارات.
وذلك نتيجة لما لديها من احتياطي ضخم من النقد الأجنبي 1,9 تريليون دولار، وتشير كافة المؤشرات إلى أن الإستثمارات الصينية الخارجية ستستمر في التزايد في ظل معدلات النمو العالية، والمتصلة التي تحققها الصين، وذلك سواء في قطاع الصناعة أو الموارد الطبيعية أو الخدمات.
وعلى الرغم من أن حجم الإستثمارات الصينية في مصر لايزال أقل كثيرًا من المتوقع، إلا أن الصين جاءت في السنتين الاخيرتين على قائمة أكبر المستثمرين في مصر، مما يبشر بمستقبل واعد للإستثمارات الصينية في مصر خاصة في مجال الطاقة.
وتشهد علاقات مصر مع الصين تنسيقًا كبيرًا في إطار منتدى التعاون “العربي الصيني”، والذي عقد آخر اجتماعاته الوزارية في تونس في نهاير شهر مايو 2012، والذي شهد دخول المنتدى عامه التاسع، حيث كان الاجتماع بمثابة فرصة لاستعراض مسيرة المنتدى منذ إنشائه عام 2004.
وإثر زيارة قام بها الرئيس الصيني هو “جينتاو” إلى مصر في يناير 2004، حيث زار مقر جامعة الدول العربية في القاهرة، والتقى بالأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، وممثلين من 22 دولة عضوًا في جامعة الدول العربية، وبعد اختتام الاجتماع أصدر وزير الخارجية الصيني السابق والأمين العام بيانًا مشتركًا.
وذلك بشان تأسيس منتدى التعاون “العربي الصيني”، وتسعى مصر في إطار المنتدى لجعله إطارًا لتعزيز الحوار والتعاون بين الدول العربية والصين في مختلف المجالات، ويشمل المنتدى عدة آليات أبرزها الاجتماع الوزاري، واجتماع كبار المسئولين واجتماع رجال الأعمال.
ويشا إلى أن الاجتماع الوزاري الأول للمنتدى عقد في مصر عام 2004، وتلاه الاجتماع الثاني في الصين عام 2006، والثالث في البحرين عام 2008، والرابع في الصين عام 2010.
وفي حين عقد الاجتماع الأخير في تونس، وقد شهد الاجتماع الرابع إصدار إعلان بشأن تطوير التعاون المشترك، وبناء علاقة شراكة إستراتيجية بين الصين والدول العربية.