تقرير – وفاء العسكري
نتحدث اليوم عن ملحمة وطنية سطرها المصريون في إنشاء السد العالي، وهو أعظم مشروع مائي شهده القرن الماضي، حيث هناك في أقصى الجنوب يقف شامخًا شاهدًا على ملحمة من الكفاح سطرتها سواعد الرجال.
فبعد أن كان حلمًا فخاطرًا فاحتمالًا أصبح حقيقة لا خيالًا لكنه لم يكن مجرد خيال، بل كان الأمل لبناء مصر، حيث تحتفل أسوان باليوبيل الذهبي بمناسبة مرور 60 عامًا على تحويل مجرى النيل، والذى يوافق 14 مايو.
وبعد انتهاء المرحلة الأولى لبناء السد الذي بدأ العمل به ووضع حجر الأساس له في 9 يناير 1960، تأتي الذكرى الستون لتحويل مجرى النيل، لتعيد إلى الأذهان هذا المشروع العظيم، الذي ظل ساترًا منيعًا لمصر ضد أخطار الجفاف والفيضان.
وساعد في توسعة الرقعة الزراعية، وتوفير الكهرباء، ليقف شاهدًا على قدرة الشعب المصري على اجتياز الصعاب، وترويض النيل الجامح، حيث يقف السد صامدًا لتروى أحجاره وصخوره تضحيات المصريين، وما سطرته دماؤهم.
وتحكي عن ملحمة البناء التي شهدتها مصر عند بناء هذا المشروع، وكان للجانب الروسي “الاتحاد السوفيتى سابقًا” الدور الأكبر في أن يرى هذا المشروع العملاق النور، بدءً من توفير التمويل اللازم لإنشاء المشروع.
إلى جانب تقديم الخبراء الروس للدعم الفني له، بعد أن رفضت الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي تمويل المشروع، وفي هذه الأيام وبالتحديد 14 مايو 1964، وقف الرئيس الراحل جمال عبدالناصر والزعيم نيكيتا خروشوف، رئيس الاتحاد السوفيتي سابقًا على المنصة.
ليضغطا زر التفجير إيذانًا بتحويل مجرى النيل، وانتهاء المرحلة الأولى من بناء السد العالي في احتفال ضخم بجنوب مصر، حيث ضغط الرئيسان على زر لتفجير السد الرملي العملاق، وتحويل مجرى النيل إلى قناة صناعية.
l
وذلك للسماح ببدء المرحلة التالية من بناء السد، وشهد آلاف عمال البناء المصريين والروس ارتفاع الرمال في الهواء ثم اندفاع مياه النيل، ويروى عدد من بناة السد ذكرياتهم، التي عاصروها عند تحويل مجرى النيل.
وتبدأ الحكاية من مصر الفرعونية عندما وحّد الملك مينا شمال وجنوب مصر في دولة واحدة، تمهيدًا لقيام الأسرة الفرعونية الأولى وفكّر في عاصمة لبلاده، فوقع الاختيار على مدينة “ممفيس” مدينة البدرشين بمحافظة الجيزة حاليًا.
إلا أن سريان النيل جهة الغرب في ذلك الوقت، كان يعيق تأسيس المدينة، ولذلك في عام 2900 قبل الميلاد، كانت البداية مع تغيير مجرى نهر النيل، عندما أقام الملك مينا سد قوشيه غرب البلاد، لتغيير مجرى نهر النيل إلى الشرق، والاستفادة من مياه الفيضان والأمطار والسيول.
ويُعد “سد قوشيه” أقدم السدود في العالم، وبَلَغَ ارتفاعه وقتها حوالي 15 مترًا، وبعدما أقام الملك مينا السد وأسس عاصمته وحقق السلام في بلاده، انتقلت مصر إلى مرحلة مزدهرة في عهده، فأقام القصور والمعابد وأسس معتقدات الدولة الدينية، وأصبح عهده طوال الـ 62 عامًا فترة رفاهية في حياة المصريين.
فتوفّرت احتياجاتهم الأولية، مما سمح لهم بوقت إضافي لممارسة الهوايات، مثل النحت والرياضة وزراعة الحدائق الخاصة، وبعد 4000 سنة تغيير مجرى النيل لإقامة عاصمة جديدة، “من يشرب من ماء النيل مرة يعود إليه المرة تلو المرة” المثل الشعبي الأشهر على لسان أهل مصر وزوارها، كان له قصة جميلة تبدأ بتغيير مجرى نهر النيل.
وفي منتصف القرن التاسع عشر، شهدت العاصمة الفرنسية “باريس” انقلابًا معماريًا بقيادة المهندس هاوسمان، وكان إسماعيل باشا “خامس حكام مصر من أسرة محمد علي”، حينها في رحلة حول أروبا زار فيها مدينة باريس، وشهد هذه النهضة المعمارية.
وأثناء رحلته أنعم عليه الباب العالي بلقب “خديوي مصر”، فعاد إلى مصر عام 1863 ميلاديًا ليتولى حكمها، عاد منبهرًا بنهضة فرنسا المعمارية، بداخله حلم تأسيس عاصمة جديدة لدولته تنافس باريس في جمالها.
وفي ذلك الوقت كانت مدينة القاهرة تمتد من منطقة القلعة في الشرق، حتى مدافن الأزبكية وميدان العتبة في الغرب، وكانت حالتها متدهورة تنتشر فيها البرك والمستنقعات والمقابر، حتى أن كتاب الغرب قالوا عنها: “من يشرب من ماء النيل مرة يعود فورًا لبلاده ليُعَالَج من إصابته بالملاريا والحمى المعوية”.
إلا أن الخديوي إسماعيل لم يتوان في تحقيق حلمه، فبعدما تولى حكم مصر، ذهب لحضور المعرض العالمي في باريس، وطلب من الإمبراطور نابليون الثالث أن يقوم المُخطط العمراني، الذي صمم مدينة باريس بتخطيط مدينة القاهرة.
وبالفعل رجع الخديوي إسماعيل مع هاوسمان محملًا بآمال عريضة في الهدم والبناء، ليحوّل مدينة القاهرة إلى باريس الشرق، وأصبحت المقولة الأشهر للخديوي إسماعيل “من يشرب من ماء النيل مرة يعود إليه المرة تلو المرة”، وهى السائدة على لسان كل من يزور مصر وعاصمتها.
واستمر مشروع بناء القاهرة الخديوية 5 أعوام، ولتحويل القاهرة إلى تحفة معمارية، كان لا بد من تغيير مجرى نهر النيل، وردم البرك والمستنقعات، وكان الهدف من تغيير المجرى هو إتاحة مساحات واسعة من الأراضي، لإنشاء المناطق الجديدة لتزيين وتنمية مدينة القاهرة.
كحديقة الحيوان التي سميت وقتها بـ “جوهرة التاج لحدائق الحيوان في أفريقيا”، وحديقة الأورمان، وجامعة القاهرة وأحياء الدقي، وبين السرايات والعجوزة والمهندسين، وكل هذه المناطق الحيوية في محافظة الجيزة حاليًا، كان يجري بها نهر النيل قديمًا.
وبالفعل بدأ تحويل مجرى النيل في نهاية عام 1863، وهو نفس العام الذي بدأ معه تصميم مدينة القاهرة الجديدة، تم التحويل ببناء حاجز خرساني عند مدخل كوبري عباس بالجيزة، وساعد ذلك الحاجز في تغيير اتجاه تيار مياه الفيضان، إلى الشرق ناحية مدينة القاهرة.
ليتم بعدها بناء جسر ترابي بمحاذاة الحاجز الخرساني، ليعمل كسد لمدخل المجرى القديم، ثم تم بناء حاجز خرساني آخر عند مدخل فندق شبرد الحالي، بزاوية مناسبة ليعيد توجيه النيل مرة أخرى لمجراه الأصلي، عند منطقة إمبابة وبولاق الدكرور.
ومن المصادفة السعيدة ارتفع منسوب مياه الفيضان ذلك العام وقوة اندفاعه، مما ساعد على نحت التيار للشاطئ الشرقي للنهر واتساع النيل، وإنجاز عملية التحويل في عام واحد فقط، وبعد تغيير المجرى تكدست أراضٍ كثيرة غزيرة الطمي، بين شارعي مراد وشارل ديجول بالجِيزة وكورنيش النيل الأعظم.
واستفادت منها الدولة في الإستثمار العقاري، وإقامة المشروعات الضخمة التي شملت حدائق الأورمان، وحديقة الحيوان وجامعة القاهرة وغيرها، ولم تكن هذه المرة الوحيدة في مصر الملكية، لتغيير مجرى نهر النيل، فبعدما نُفي الخديوي إسماعيل من مصر، حكم بعده بـ 60 عامًا نجله الملك فؤاد الأول.
وغيّر فؤاد الأول في عهده مجرى النيل مرة أخرى لإقامة قناطر نجع حمادي في صعيد مصر، لتنظيم حركة الري، ووضع حجر الأساس لهذا المشروع في العاشر من فبراير عام 1928، وأتمّ بناءه في 19 ديسمبر عام 1930.
وتحت شعار “لا زرع، لا حطب للخبيز، لا شيء مطلقًا سوى عواء الذئاب الجائعة والعقارب، ونحن أيضًا كنا جوعى، مرضى فقراء”، جاءت الكلمات كتب الروائي النوبي “إدريس علي” في سيرته الذاتية يصف حاله وحال أهالي النوبة بعد تهجيرهم، من قراهم في محافظة أسوان جنوب مصر، بعد تغيير مجرى نهر النيل وبناء السد العالي.
فبعد انتهاء عصر الملكية وقيام الجمهورية المصرية، وتولي جمال عبد الناصر حُكم مصر، كان السد العالي من أهم المشروعات التي أراد إنشاءها للاستفادة من مياه فيضان النيل، في توليد الكهرباء وبداية ثورة مصر الصناعية، ولبناء السد كان لا بد من تحويل المجرى عن طريق تفجير الجبل الشرقي لموقع السد العالي.
وبدأت المهمة الصعبة ببناء سد رملي بشكل مؤقت أمام بحيرة ناصر، وسد رملي آخر خلف السد لفصل مياه النيل عن موقع العمل، والعمل الذي بدأ في التاسع من شهر يناير عام 1960، واستمر أربع سنوات حتى 15 مايو عام 1964.
وفي أول زيارة لرئيس القيادة السوفيتية “نيكيتا خروتشوف” في مصر مع الرئيس جمال عبد الناصر مع رئيس العراق ورئيس اليمن، وأثناء حفل افتتاح سد أسوان، وفي يوم افتتاح السد العالي قام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مع نيكيتا خروتشوف بتفجير السد الرملي في احتفالية ضخمة.
وذلك بعد الضغط على زر التفجير لتحويل مجرى النيل إلى قناة صناعية، تقع أمام السد العالي بلغ طولها 1950 مترًا، ومن هذه اللحظة توالت الأغاني الوطنية، والأشعار وفرح المصريون كثيرًا، لتحقيق حلم بناء السد العالي.
إلا أن تخزين المياه في بحيرة ناصر، المرحلة التي أعقبت بناء السد، أثّر سلبيًا على غمر أراضي النوبة، وغرقها وتهجير الأهالي من قراهم إلى منطقة بلانة بأسوان، وهو الأمر الذي تسبب في صدمة عصبية ونفسية، لكثير من أهالي القرى المُهجّرة ، ووفاة كثير من الأطفال حديثي الولادة.
وفي هذه المرة ليس بمصر وإنما بعيدًا بآلاف الكيلومترات في الجنوب، حيث قامت دولة إثيوبيا جنوب السودان في عام 2013، بتغيير مجرى نهر النيل الأزرق أحد الروافد الرئيسية لنهر النيل، تجهيزًا لبناء سد النهضة على ضفافه، لتوليد الكهرباء وبناء إقتصاد البلاد.
وهو السد الذي حتى الآن لا زال موضع خلاف بين دول إثيوبيا ومصر والسودان، حيث تتشارك مصر في نهر النيل مع 10 دول أخرى من دول أفريقيا، وهم: “بوروندي وتنزانيا ورواندا وكينيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ودولة أوغندا والسودان وإثيوبيا ودولة جنوب السودان”.
وعلى الرغم من أن التغييرات التي حدثت من قبل في مجرى نهر النيل، كان لها على الأغلب آثار إيجابية على حياة المصريين الاجتماعية، وإقتصادهم الزراعي أو المظهر الجمالي لمدنهم، إلا أن التغيير هذه المرة متوقع له أن يحدث آثارًا سلبية كبيرة على جفاف الكثير من الأراضي.
وظهر احتياج مصر من الغذاء، والمحاصيل الزراعية، حيث ستقل حصة مصر من مياه نهر النيل بمعدل 10 مليارات من حصتها الحالية، والتي تُقدّر بحوالي 55.5 مليار متر مكعب، ومن هنا يتحتم على مصر إذا لم تتوصل الدولتان إلى قرار مشترك.
وذلك لعدم الاعتماد الكلي على مياه نهر النيل، وذلك لأول مرة في تاريخها، والبحث عن طرق وبدائل لاستغلال موارد مياه، أخرى وسد احتياجاتها، حيث يشار إلى أن السد العالي من أعظم المشروعات الهندسية التي أنشئت فى القرن العشرين.
ولا يضاهيه أي عمل هندسي سواء أكان خاص بالمياه أو غير ذلك، فبناء السد العالي سبقه دراسات وأبحاث للاستفادة من ترويض نهر النيل، من خلال الفيضانات التي تتردد على النهر بنسب متفاوتة، وذلك بحسب كل عام.
وجاء السد العالي لتلبية احتياجات مصر وقتها من المياه والكهرباء والزراعة وغير ذلك، حيث تم وضع حجر الأساس له في يناير 1960، وتم تحويل مجرى النيل في 16 مايو 1964، واستمر الإنشاء حتى تم الافتتاح والتشغيل الكامل للسد العالي في عام 1971.
وبدء توليد الكهرباء من أول توربينات السد العالي في عام فى أكتوبر 1967، ودخولها الخدمة لإنارة كل النجوع والقرى في مصر، بجانب الاستفادة من تحويل أراضى الحياض إلى الري الدائم لنحو مليون فدان.