كتب – محمد صفوت
“أنا الجيش صلبا لا ألين.. أقسمنا لا نركع إلا لبارينا.. في خضم اليأس نحرس أرضها.. ليبقى الآباء أسمى أمانينا.. لمرضاه الله نبغيه عملا.. ومن غدر الأعادي رضاكم يداوينا.. من جبال مصر أخذنا مسكنا.. وفي صحرائها قبورًا تنادينا.. صمتنا العزم.. وفي خطانا النار.. والجحيم لينظر من يعادينا.. ومن آيات الله أخذنا منهجا.. وسنة محمدًا قائدنا وهادينا”
بتلك الكلمات النابعة من القلب وصف بها الشهيد البطل العقيد أركان حرب أحمد صابر المنسي، “جُند مصر”، والذى تحل علينا اليوم الذكرى الرابعة لاستشهاده، هو ورجاله الأبطال بعد ملحمة شرسة ضد حثالة البشر من الكفيريين فى الـ 7 من يوليو عام 2017، ذلك الهجوم الخسيس والجبان لاستهدف كمين البرث جنوب رفح الذى كانت تتولى مسؤولية تأمينه الكتيبة 103 صاعقة بالعريش فى شمال سيناء، وكان قائدها آنذاك الشهيد البطل.
ولعلنا فى ذكرى استشهاده، الذى يُعد أيقونة وسلسالا طيبا لـ”شهداء” عظام سبقوه، نتحدث بإيجاز شديد عن مسيرته منذ أن كان طالبا وحتى استشهاده ليتعلم الأجيال كيف تكون التضحية والفداء مع الأخذ بأسباب العلم والتدريب وبذل الغالى والنفيس من أجل الدين والوطن.
مولده
ولد الشهيد البطل أحمد منسى فى 4 أكتوبر عام 1978 بمدينة منيا القمح التابعة لمحافظة الشرقية، ثم انتقل إلى مدينة العاشر من رمضان بسبب تنقلات والده الطبيب صابر محمد على منسى، والذى كان من أكبر وأطيب وأعظم أطباء الأطفال فى الشرقية.
تعليمه وتدريبه
التحق الشهيد البطل بعد أن تدرج فى سنوات تعليمه المختلفة بالكلية الحربية، إلى أن تخرج منها ضمن الدفعة 92 حربية، وبعد التخرج عمل كضابط بوحدات الصاعقة وخدم لفترة طويلة فى الوحدة 999 قتال وحدة العمليات الخاصة للصاعقة بالقوات المسلحة والتى تعتبر أشرس الفرق القتالية فى العالم.
بعدها التحق الشهيد البطل بأول دورة للقوات الخاصة الاستشكافية المعروفة باسم “SEAL” عام 2001، ثم سافر للحصول على نفس الدورة من الولايات المتحدة الأمريكية عام 2006.
حصل الشهيد البطل على ماجستير العلوم العسكرية دورة أركان حرب من كلية القادة والأركان عام 2013، وتولى رئاسة عمليات الكتيبة 103 صاعقة فى 2016 قبل أن يغادرها إلى مدرسة الصاعقة ويعود إليها قائدًا لها بعد عدة أشهر وتحديدًا بعد استشهاد قائدها العقيد الشهيد البطل رامى حسنين بعد انفجار عبوة ناسفة فى مدرعته.
معركة البرث
في تمام الرابعة فجر يوم 7 يوليو 2017، بدأ الهجوم بواسطة 150 مقاتل و12 عربة كروز محملة بالسلاح بالإضافة إلى أسلحة خفيفة ومتوسطة وقذائف آر بي جي وقذائف هاون ومدافع جرينوف وقنابل يدوية ومفخخات، قامت إحدى السيارات المفخخة التي تم تدريعها جيدا وتمويهها داخل إحدى المزارع، بالدخول إلى كمين “البرث” برفح، فتعاملت معها قوات الكمين، ولكن لشدة تدريعها انفجرت قرب الكمين، وخلال دقيقة كانت بقية القوات في أماكنها ترد على الإرهابيين.
وفي الوقت نفسه قامت بعض العناصر بتطويق الكمين بالكامل وزرع عدد من الألغام لصد محاولات الدعم البري، وقامت عناصر الكتيبة بصد الهجوم وتبادل إطلاق النار وتمكنت من الصمود طوال 4 ساعات، تعرضت قوات الدعم التي تحركت لإنقاذ الكمين إلى هجوم بالألغام والسيارات المفخخة ولم تستطيع الوصول بسرعة إلى الكمين، وبعد مرور 4 ساعات وصلت وحدات الدعم الجوي وقامت بقصف العناصر مما دفعهم للتراجع والهروب.
سقط في هذه المعركة العقيد أحمد المنسي، قائد الكتيبة 103 صاعقة بواسطة طلقة قناصة وقُتِل العديد من الضباط والجنود، وفي المقابل تم قتل أكثر من 40 من العناصر الإرهابية وتدمير 6 عربات تابعة لهم.
شهداء كمين البرث 2017
البطل الشهيد عقيد أركان حرب “أحمد صابر محمد على المنسى”، والبطل الرائد “أحمد عمر الشبراوى”، البطل النقيب خالد محمد كمال المغربى “خالد مغربى دبابة”، والبطل النقيب محمد صلاح محمد، ضابط المدفعية، والبطل ملازم أول “أحمد محمد محمود حسنين”، والبطل عريف “محمد السيد إسماعيل رمضان”، الشهير بـ “ماسة”، والبطل جندي “محمود رجب السيد فتاح”، البطل جندي “محمد صلاح الدين جاد عرفات”، والبطل جندي “على على على السيد إبراهيم”، الشهير بـ “العسكرى على”، والبطل جندى “محمد عزت إبراهيم إبراهيم”، والبطل جندى “مؤمن رزق أبو اليزيد”، والبطل جندى “فراج محمد محمود أحمد”، والبطل سائق “عماد أمير رشدي يعقوب”، والبطل جندي “محمد محمود محسن”، البطل جندي “أحمد محمد علي نجم”، البطل جندى “على حسن محمد الطوخى”، والبطل جندى “محمود صبرى محمد”، والبطل جندي “محمد محمود فرج”، و”أحمد العربي مصطفى”، والبطل مندوب مدني “صبرى”.
أخر كلمات الشهيد أحمد منسي قبل استشهاده بدقائق
كانت أخر كلمات الشهيد أحمد المنسي في تسجيل صوتى أثناء الهجوم على كمين البرث: “الله أكبر لكل أبطال شمال سيناء، يمكن دى تكون أخر لحظات حياتي في الدنيا، أنا لسه عايش وفيه هجوم للجماعة الدواعش هاجمين علينا في مربع البرث، دخلوا بعربية مفخخة وهدوا المبنى وأنا عايش مع 4 عساكر، متمسكين بالأرض، ومش هنسيب أي مصاب الله أكبر لنجيب حقهم لنموت زيهم .. ادعوا للناس اللى هنا”.
حكايات من دفتر “الشهيد الأسطورة”
قبطي يشارك في “ختمة القرآن” لمنسي.. ويهديه رسمة “السيل” على قبره
تأثير “منسي” في المحيطين به وصل إلى قيام قبطي بعمل لافتة “شاهد” قبره ومشاركته في “ختمة قرآن” للشهيد، وفقًا لأحد زملائه، فيقول إن أحد الأقباط يدعى “جون لمعي” وهو من الحاصلين على فرقة رقم 6 بـ”السيل” بينما كان الشهيد ضمن أول دفعة بها والتي تعد أرقى فرقة للقوات الخاصة بمصر والعالم، وأنه قرأ له الجزء رقم 14 في “الختمة” التي شارك فيها زملائه.
يضحك “وديع” أحد أصدقاء المنسي ويذكر أن زميلهم القبطي يخشى من عدم تصديقهم لوفائه بقراءة الجزء الذي حدده “فدخل على جروب فيس بوك وأقسم إنه قرأ له جزءا من القرآن”، ويضيف أنه لم يكتف بذلك وبعد أسبوع من دفن الشهيد صنع لافتة من الرخام تحمل اسمه “شهيد عقيد أركان حرب أحمد صابر منسي” وشعار مرسوم لفرقة “السيل” وآية قرآنية عن الشهادة.
“منسي” و”إبراهيم الرفاعي”.. علاقة فريدة بين شهيدي أكتوبر والإرهاب
علاقة فريدة نشأت بين “منسي” والشهيد إبراهيم الرفاعي، شهيد حرب أكتوبر من أبطال الصاعقة، بحسب أحد زملائه، بدأت بتأثره ببطولة “الرفاعي” وقتما كان طالبًا يدرس تاريخه وأسلوب قتاله داخل مدرسة الصاعقة، وبلغت مداها عندما واظب على زيارة قبره في أوقات حزنه أو انزعاجه من شيء “كان بيروح يشتكي عند قبر إبراهيم الرفاعي، ويتكلم معاه في اللي حسه، ويقوله ليه يا فندم يحصل كذا أو ليه وصلنا لكده.. يفضفض وياخد بعضه ويمشي وخلاص”.
يصمت “صديقه” قليلا ويضيف متعجبًا أن الشهيد المنسي لم ير “الرفاعي” فالآخير استشهد في 19 أكتوبر 1973، بينما وُلد “منسي” بعد 5 سنوات من حرب أكتوبر لكنه كان يزور قبره باستمرار، ويقول “وديع” إن “منسي” رأى في “شهيد حرب أكتوبر” فكرة الرمزية والبطولة باعتباره شهيد عمليات وقائد حارب اليهود وهزمهم “مكنش لاقي حد يفهمه عن الشغل فبيروح يكلم الرفاعي في قبره”.
“أكتر الحاجات اللي كانت تشغله هي مصر” يقول “وديع”، ويوضح أنه كان مهمومًا بمصر وما تمر به من محن، خاصة بعد انتشار العمليات الإرهابية، ويروي مشهدا لزوجة منسي عندما دخلت لإلقاء النظرة الأخيرة عليه وتعجب الواقفون مما قالته “متقلقش على مصر، هتبقى كويسة عشان انت ترتاح”، يلتقط أنفاسه ويضيف متعجبًا أنها لم تطمئنه على أبنائه أو أسرته “مقلتلوش حتى متقلقش على ولادك ولا اطمن يا أحمد إحنا هنبقى كويسين” يصمت قليلاً ويقول “أقسم بالله حصل وهو في الثلاجة، شفنا ده كنا بعنينا”.
زميله: تعامل مع العسكرية بشرف.. ولم يطمح لمنصب رغم الكفاءة
تأثير كبير تركه “منسي” في نفوس جنوده وضباطه نتيجة اهتمامه بالجوانب الإنسانية، بحسب زملائه، فيقولون إنه كان “بيتضرب بيه المثل”، “عايش زيهم، وكتفه في كتف رجالته.. شافوا فيه سمات البطل اللي نفسهم يبقوا زيه”، ويقول “وديع” إنه كان يتعامل مع الخدمة العسكرية من منطلق “البطولة والشهادة” ولم يطمح في منصب رغم مؤهلاته الكبيرة “ده مكنش في حساباته رغم إنه عنده اللي يوصله يبقى في يوم واحد من كبار القادة”.
يلتقط “الغيطاني” أحد أصدقاء “المنسي” أطراف الحديث منه، ويروي أنه كان يناقشه في إحدى المرات حول فكرة تركه للصاعقة والتحاقه بسلاح المشاة، لكي يؤهله لتولي مناصب داخل القوات المسلحة وهو ما رفضه بشكل قاطع لعلمه باتخاذه موقعًا متأخرا عن جنوده، نتيجة اختلاف المهام والوظيفة داخل سلاح المشاة “قالي أنا أرجع كيلو ونص ورا رجالتي، كان عارف إن موقع القيادة فيها بيبقى ورا شوية عشان يقدر يدير المعركة بشكل متسع”.
على الجانب الإنساني، حرص “منسي” على مجاملة جنوده وضباطه في أفراحهم وأحزانهم، فيقول “وديع” إنه كان يحصل على إجازة أسبوع أو 10 أيام بعد مدة شهر، وكثيراً ما كان يسافر إلى محافظات الصعيد لمجاملة عسكري معه بالكتيبة ومساعدته في تجهيز فرح أو غيره “كان حجر ميزان ودينامو حياة ناس كتير من جنوده”.
يتذكر زميله مشهدا أخيرا، فيقول إن بعد أسبوعين من استشهاد منسي ودفنه ذهب زملاؤه لدفن شهيد آخر بمقابر قريبة من قبره، وبعدما انتهوا توجه الجميع إلى قبر منسي “كان أكتر من 150 واحد من الجيش واقفين بيقروله الفاتحة، حسينا إن “منسي” بيتدفن من جديد”.