تحقيق ـ بسملة الجمل
في زمن يتسابق فيه الأطفال على النطق بأول كلمة، هناك أطفال يصمتون، ليس لأنهم لا يريدون الحديث، بل لأن شيئًا خفيًا يقف بينهم وبين الكلمات.
حيث تجلس الأمهات في انتظار كلمة “ماما” الأولى، وتمر الأيام، وتطول النظرات، ويغلب الصمت على المشهد، وفي تلك اللحظة، تبدأ رحلة البحث بين القلق والتكذيب: هل هو مجرد تأخر بسيط، أم أن صمت الطفل يهمس باسم حالة معقدة تدعى “التوحد”.
وفي تلك اللحظات، تصبح كل إشارة صغيرة مرآة لقلق كبير، وتتحول الضحكات المبعثرة من أطفال الجيران إلى طعنات صامتة في قلب كل أم تنتظر صوت صغيرها
ويصبح الصمت ثقيلاً، يملأ البيت كله، كأن الجدران تحفظ حكاية طفل يحاول أن يقول شيئًا ولا يعرف الطريق، حينها تبدأ الأسئلة المؤلمة بالتسلل: هل يحتاج فقط إلى وقت أطول، أم أن خلف هذا التأخير عالم كامل مختلف لا تصل إليه الكلمات بسهولة.
من التوحد إلى التفوق.. قصة عبد الله أشرف وإرادته التي لا تعرف المستحيل
واجه “عبد الله أشرف” الشاب البالغ من العمر 22 عامًا، تحديات كبيرة منذ صغره، إلا أنه تمكن من التغلب عليها ليصبح طالبًا في السنة النهائية ببرنامج نظم معلومات الأعمال في كلية التجارة وإدارة الأعمال بجامعة حلوان، وعلى الرغم من النجاح الأكاديمي الذي حققه، فإن قصة عبد الله مليئة بالصعوبات التي واجهها منذ طفولته وشكلت شخصيته وطموحاته.
تروي والدته “رضوى نبيل”، رحلة عبد الله مع التوحد وتأخر النطق، حيث كانت بداية القصة عندما تأخر في الكلام حتى سن الرابعة، وفي تلك اللحظة، اكتشفت الأسرة أنه يعاني من سمات بسيطة للتوحد، ما جعل والدته تقرر أن تلجأ إلى البرامج التأهيلية الخاصة بذوي الأوتيزم.
وكانت هذه البرامج بمثابة نقطة تحول في حياة عبد الله، حيث استطاع بفضلها الالتحاق بالمدرسة ومتابعة دراسته في البرامج التعليمية المعادلة، وتتابع والدته قائلة: “لقد كان عبد الله دائمًا يسعى للتجربة والابتكار، فمثلاً في إحدى المرات، قرر إعادة تدوير إطارات السيارات المستعملة”.
وأضافت أنه “قام بتحويلها إلى مقاعد وقطع أثاث مبتكرة، ثم قام بتسويق هذه المنتجات وبيعها، لكن وعلى الرغم من كل هذه النجاحات، عانى عبد الله من الوحدة وصعوبة في بناء علاقات اجتماعية بسبب التحديات التي يواجهها في التواصل، ما أثر على ثقته بنفسه.”
ورغم هذه الصعوبات، قرر عبد الله أن يواجه تحدياته بطريقة فريدة، فعمل كمدرب مساعد في الجمعية المصرية للأوتيزم، حيث قدم الدعم والمساعدة للأطفال الذين يعانون من التوحد، وكان حريصًا على مساعدتهم في فهم الدروس وحل الواجبات، وهو ما منح حياته قيمة أكبر وأدى إلى اكتشاف شغفه في مساعدة الآخرين.
ويعد عبد الله اليوم أكثر من مجرد طالب في السنة النهائية، فهو مثال حي على القوة والإرادة التي تتجاوز كل التحديات، ورغم الصعوبات التي واجهها، يواصل عبد الله سعيه المستمر نحو تحقيق المزيد من النجاحات الشخصية والمهنية، مظهرًا قدرة فائقة على التفوق والتطور في مختلف جوانب حياته.
علي محمد رحلة من التوحد إلى التفوق.. كيف تحدى الصعاب وحقق أحلامه
تغلب “علي محمد” الشاب البالغ من العمر 30 عامًا، على العديد من التحديات ليصل إلى ما هو عليه اليوم، ويعمل علي كموظف إداري في “جامعة الجلالة”، وهو خريج كلية الإعلام من “الجامعة الكندية”، يجيد اللغتين العربية والإنجليزية، ولديه مهارات متنوعة تشمل الكتابة على الكمبيوتر.
بالإضافة إلى صيانة الهواتف المحمولة، وقبل أن يتجه للعمل بالجامعة، كانت له تجارب مختلفة في العمل بمجال إدارة المبيعات في إحدى شركات العقارات وأيضًا في أحد المطاعم الشهيرة، لكن التحدي الأكبر كان في التعامل مع الناس، وهو ما استطاع التغلب عليه مع مرور الوقت.
وتحكي والدته “داليا الأمين” الملحق الإداري بالقنصلية المصرية في المملكة المتحدة، عن معاناتها الطويلة في رعاية ابنها، خاصةً في ظل قلة الوعي المجتمعي حول التوحد وصعوبة إيجاد برامج تأهيلية متخصصة للأطفال ذوي التوحد.
وتابعت “الأمين” قائلة: “لقد كان من أصعب المواقف التي مررنا بها هو غياب النظام التعليمي المرن الذي يمكن أن يستوعب أطفال ومراهقي التوحد، خصوصًا عندما يعانون من صعوبات في مواد معينة مثل الرياضيات والعلوم”.
مضيفة: “اضطررت إلى اتخاذ خطوة جريئة وتحويل علي إلى الشهادات المعادلة، وهو ما ساعده على اكتساب مهارات أكاديمية أعلى، وأسهم بشكل كبير في تطوير مستواه العلمي وتحصيله، حتى تمكن من الالتحاق بالجامعة”.
اليوم وعلى الرغم من التحديات التي واجهها، يسعى علي لمزيد من التقدم الشخصي والمهنية، ويخطط الآن للزواج، ليصبح نموذجًا يحتذى به في الإصرار والتغلب على العقبات التي قد تبدو مستحيلة.
رامى زيدان من الطهي إلى التفوق.. كيف تحدى التوحد وبنى مستقبله بعزيمة لا تلين
تتجسد قصة الشيف “رامى زيدان” البالغ من العمر 28 عامًا، في رحلة مليئة بالتحديات والطموحات التي تحدى فيها كل الصعاب، كان من المفترض أن يبدأ رامى مسيرته المهنية في كندا، حيث حصل على شهادة في فنون الطهي والمخبوزات من جامعة “جورج براون” في عام 2022.
بالإضافة إلى تدريبه في مدارس الطهي بفرنسا، إلا أن الحظ لم يحالفه في العثور على فرصة عمل مناسبة، ليقرر العودة إلى مصر، وبعد عودته، لم ينتظر رامى طويلاً حتى وجدت له إحدى شركات تنظيم الحفلات والمأكولات مكانًا، ليبدأ رحلة جديدة في العمل باستخدام خبراته في مجال المخبوزات.
وعلى الرغم من التحديات التي واجهها، قرر رامى أن يبدأ حياة جديدة، حيث بادر بمغادرة منزل أسرته وانتقل للعيش بالقرب من مكان عمله، ليبدأ تدريجيًا في بناء علاقات صداقة مع زملائه، ويؤمن رامى بشدة أن أي شخص من ذوى التوحد يمكن أن يكون قادرًا على تحقيق النجاح.
والتفوق إذا تم الاهتمام بتعليمه وتدريبه المستمر، هذا الفكر دفعه لأن يكون مثالًا حيًا على الإصرار والتحدي، حيث يرى أن بإمكان أي شخص تخطي القيود التي تضعها الحياة إذا امتلك العزيمة والإرادة.
وتقول والدته “سارة خلاف”، إن قرار العودة إلى مصر كان مدفوعًا بشعور من الأمل، حيث وجدت في مصر بيئة عمل أكثر تقبلًا لأبنائها ذوي اضطراب التوحد، مضيفة: “ما شجعني على العودة هو الترحيب الذي حظى به رامى في مكان عمله هنا، وهو ما لم يكن متاحًا له في كندا، حيث كانت بيئة العمل هناك شديدة التنافسية، ولم تكن مناسبة لابني”.
واليوم، رامى ليس مجرد شيف محترف، بل هو أيضًا مثال على كيف يمكن لأشخاص ذوي التوحد أن يحققوا نجاحاتهم الشخصية، والمهنية، إذا ما توفر لهم الدعم والفرص المناسبة.
أحمد سعفان رحلة من التحدي إلى التفوق في الجرافيكس والفروسية والتمثيل
“أحمد سعفان” الشاب البالغ من العمر 29 عامًا، هو مثال حقيقي على قدرة الإرادة والإصرار في التغلب على التحديات، يعمل أحمد كمتدرب في مجال تصميم الجرافيكس، بينما يمتلك أيضًا خلفية رياضية مميزة حيث شارك في العديد من المسابقات في السباحة.
وفي العام الماضي، حصل على المركز الرابع في إحدى البطولات الدولية للفروسية، لكن شغفه لا يتوقف هنا، بل يسعى حاليًا لتعلم فن التمثيل، بعدما اكتشف هذا المجال أثناء مشاركته في أحد مشاهد مسلسل “حالة خاصة”.
وتروي والدته “منى شبكه”، أن شغف أحمد بتصميم الجرافيكس بدأ منذ سن مبكرة، حيث كان في مراحل تأهيله ودمجه في التعليم المدرسي، مضيفة: “حرصت على دعم هوايته في تصميم الجرافيكس بجانب دراسته، مما مكنه من تحقيق العديد من الفرص المميزة”.
فقد قام أحمد بتصميم قوائم الوجبات لمطاعم شهيرة، وأعد فيديو جرافيكس للمتحف المصري الكبير، كما شارك في تصميم فيديو لمحطة مترو مصر الجديدة، ويواصل أحمد تحدي الصعاب، حيث كشف عن أنه يمتلك رخصة قيادة.
كذلك لديه القدرة على التعامل مع مفاجآت الشارع المعتادة، ورغم الصعوبات التي واجهها، أظهر أحمد كيف يمكن للفرد أن يتفوق في مختلف المجالات ويحقق طموحاته إذا ما توفرت له الفرص والدعم.
التوحد.. كيف يختار الطفل عالمه الخاص وكيف يمكننا مساعدته على الانفتاح عليه
أكد الدكتور سامي صلاح غريب مدير مركز الإرشاد النفسي والأسري بالصف، أن اضطراب التوحد “ASD” يعد من الاضطرابات النمائية التي تؤثر بشكل عميق على كيفية تفاعل الفرد مع الآخرين ومع العالم من حوله، مشيرًا إلى أن الأطفال والبالغين المصابين بالتوحد يظهرون مجموعة متنوعة من السلوكيات التي تجعل تشخيصه والتعامل معه تحديًا كبيرًا.

الدكتور سامي صلاح غريب مدير مركز الإرشاد النفسي والأسري بالصف
كما أوضح الدكتور سامي صلاح غريب أن طفل التوحد يعيش في عالمه الخاص، الذي يصعب اختراقه، ولذلك يجب على الأهل والمختصين العمل على دخول هذا العالم بشكل تدريجي، مع مساعدة الطفل على التفاعل بشكل أفضل مع بيئته.
تشخيص اضطراب التوحد.. الأعراض والتحديات
وأوضح “غريب” أن أعراض اضطراب التوحد تتراوح من خفيفة إلى شديدة، وتشمل صعوبات في التواصل، مشاكل في التفاعل الاجتماعي، وسلوكيات متكررة،مشيرًا إلى أن التشخيص عادةً ما يتم في مرحلة الطفولة المبكرة، حيث يلاحظ الأهل بعض السلوكيات غير النمطية مثل صعوبة التواصل البصري أو عدم اهتمام الطفل بالتفاعل مع الآخرين، كما أكد أن هذه العلامات تستدعي التدخل المبكر لمساعدة الطفل في تحسين مهاراته الاجتماعية والتواصلية.
تأثير التوحد على الحياة اليومية
وأكد الدكتور سامي صلاح غريب أن التوحد يؤثر بشكل كبير على حياة الأفراد، حيث يتسبب في صعوبات في التعليم والعلاقات الاجتماعية، مشيرًا إلى أن المصابين بالتوحد يحتاجون إلى دعم مستمر من العائلة والمجتمع، سواء من خلال برامج تعليمية أو دعم نفسي، حتى يتمكنوا من التكيف بشكل أفضل في بيئاتهم المختلفة، كما أكد على أهمية أن يكون الدعم الأسري جزءًا أساسيًا من العلاج لضمان تحسين جودة حياة المصابين.
العلاج السلوكي والدعم المجتمعي.. مفتاح تحسين حياة طفل التوحد
وأكد الدكتور غريب أن العلاجات المتاحة لاضطراب التوحد تتنوع، بدءًا من البرامج السلوكية والعلاج باللعب، وصولاً إلى العلاجات الدوائية، مشيرًا إلى أن العلاج السلوكي يعد من أكثر الأساليب فعالية في تقليل السلوكيات غير المرغوب فيها لدى الأطفال المصابين بالتوحد، كما أكد أن الدعم الأسري والمجتمعي يلعب دورًا كبيرًا في تحسين حياة الأفراد المصابين، حيث يُسهم في توفير بيئة أكثر تفهمًا واحتواءً لاحتياجات الطفل.
التوجهات الحديثة في علاج التوحد.. الأبحاث المبكرة وأثرها على مستقبل الأطفال
وأوضح “غريب” أن الأبحاث والدراسات حول اضطراب التوحد تتزايد بشكل مستمر، مما يسهم في فهم أعمق لهذا الاضطراب وطرق علاجه، مؤكدًا أن التدخل المبكر يعد من أبرز التوجهات الحديثة التي أظهرت الدراسات تأثيرًا إيجابيًا كبيرًا على حياة الأطفال المصابين بالتوحد.
حيث يساعدهم على التكيف بشكل أفضل مع بيئتهم، مضيفًا أن العلماء لم يتوصلوا بعد إلى الأسباب الدقيقة لاضطراب التوحد، الأمر الذي يجعل من الصعب إيجاد علاج نهائي له حتى الآن.

الطب النفسي يوضح علاج مرض التوحد
وأكد مدير مركز الإرشاد النفسي والأسري بالصف أن اضطراب التوحد يعد قضية معقدة تتطلب الفهم والدعم من المجتمع بأسره،مشيرًا إلى أن التوعية المستمرة والتثقيف حول التوحد يمكن أن تسهم في تحسين حياة المصابين بهذا الاضطراب.
وتوفير بيئة أكثر شمولًا وفهمًا لهم، كما أكد أن جميع البرامج العلاجية تهدف إلى تقليل السلوكيات النمطية وزيادة انتباه الطفل وتركيزه، مع تعزيز اندماجه في بيئة متفاعلة.
وفي ختام حديثه، أكد الدكتور سامي صلاح غريب مدير مركز الإرشاد النفسي والأسري بالصف، على أهمية استمرار البحث العلمي وتطوير استراتيجيات العلاج من أجل تحسين جودة حياة الأفراد المصابين بالتوحد، وتعزيز وعي المجتمع بهذه القضية.
في النهاية، يظل التوحد رحلة معقدة، لكن ليست مستحيلة، رحلة تحتاج إلى الصبر، الدعم، والإيمان بأن كل طفل لديه القدرة على التغلب على التحديات التي يواجهها، إن البحث المستمر والتطورات في مجال العلاج تجعلنا نرى ضوءًا في آخر النفق، حيث يمكن لكل طفل مصاب بالتوحد أن يحقق إمكانياته الكامنة إذا توفرت له الفرص والدعم المناسب.
ولعل الأهم من كل ذلك هو أن نحتفل بالتنوع، وندرك أن كل طفل له عالمه الخاص الذي يمكن أن يكون مبدعًا ومليئًا بالفرص، فقط إذا اخترنا أن نفتح له الأبواب، التوحد ليس نهاية الطريق، بل بداية لحياة مليئة بالإمكانات غير المحدودة، ونحن جميعًا نلعب دورًا في جعله أكثر إشراقًا.