تحقيق- نسمة هاني
تتزايد في بعض المجتمعات العربية ظاهرة زواج الفتيات دون سن الثامنة عشرة من دون أي توثيق رسمي، حيث يتم الزواج بعقود عرفية أو عبر اتفاقات عائلية بعيدة عن الجهات المختصة، وعلى الرغم من وضوح القوانين التي تجرّم هذا الفعل وتحمّل المسؤولية لكل من يشارك فيه، فإن هذه الممارسات ما تزال مستمرة، فتتفجر أزمات إنسانية وقانونية بمجرد أن تنجب الفتاة القاصر طفلًا يحتاج إلى تسجيل رسمي.
وفي اللحظة التي يصبح فيها تسجيل المولود أمرًا إلزاميًا، تظهر المعاناة الحقيقية، إذ يرفض بعض الأزواج الحضور إلى مكتب الصحة خوفًا من انكشاف سن الزوجة الحقيقية وقت الزواج، وتزداد الأزمة تعقيدًا حين تنشب خلافات أسرية، أو يصل الطرفان إلى الانفصال قبل الولادة أو بعدها، فيتحوّل تسجيل الطفل إلى ورقة ضغط أو أداة للانتقام، بينما يبقى المولود بلا هوية قانونية تعترف بوجوده، وسط هذه الفوضى، يُترك الطفل ضحية صراع لا يد له فيه، وتدخل الأسرة في دوامة من المحاضر والدعاوى ومحاولات إثبات النسب.
رأي المحامية شيماء المجيدي مسؤولية الأهل ثابتة.. وحق الطفل لا يسقط
توضح المحامية شيماء المجيدي، أن تزويج الفتاة القاصر قبل بلوغ سن الثامنة عشرة يُعدّ جريمة واضحة يعاقب عليها القانون، وتؤكد أن الفتاة القاصر لا تُحاسَب قانونيًا لأنها غير مكلّفة، بينما تقع المسؤولية كاملة على أهلها وكل من شارك في تزويجها أو سهّل هذا الزواج، وترى أن تهرّب الأزواج من تسجيل الأطفال ليس إلا محاولة للهروب من مساءلة قد تكشف أن الزواج تم بسن غير قانونية، مما يعيد فتح باب التحقيق مع الأسرة.

المستشارة شيماء المجيدي
وتضيف المحامية شيماء أن الخلافات الزوجية أو حتى الانفصال لا يمكن أن يُسقِطا حق الطفل في النسب، فالنسب حق أصيل يرتبط بالطفل نفسه، لا بعلاقة الوالدين ولهذا، فإن المحكمة تستمر في نظر دعاوى إثبات النسب حتى لو انقطعت العلاقة الزوجية أو تفكّكت قبل التسجيل، وتشدد على أن امتناع الأب عن تسجيل الطفل، سواء كان بسبب الخلاف أو الانتقام، يُعدّ إضرارًا مباشرًا بحقوقه وقد يعرّض الأب للمساءلة القانونية.
وتشرح “المجيدي”، أن الطريق القانوني المتاح أمام الأم يبدأ بتحرير محضر رسمي لإثبات الولادة ورفض الأب التسجيل، ثم تسجيل الطفل مؤقتًا باسمها إلى حين صدور حكم قضائي، وبعد ذلك يمكن رفع دعوى إثبات نسب مع تقديم الأدلة والشهود، كما يمكن اللجوء إلى تحليل البصمة الوراثية (DNA) عند إنكار الأبوة. وتوضح أن للطفل بعد إثبات نسبه الحق في النفقة والرعاية والتعليم والصحة، وهي حقوق لا تقبل المساومة ولا تتأثر بخلافات الأبوين أو ظروف زواجهما غير الموثق.
رأي الدكتورة سامية خضر.. الأثر النفسي والاجتماعي على الأم القاصر
ترى الدكتورة سامية خضر، أستاذة علم الاجتماع، أن الفتاة القاصر التي تُزَوّج قبل سن الرشد تُلقى في حياة لا تمتلك لها أدوات التعامل أو النضج الكافي، وتشير إلى أن هذه الفتاة تدخل في حالة من الخوف المستمر، خصوصًا عندما يتزامن الزواج غير الموثق مع خلافات زوجية أو انفصال قبل الولادة.

الدكتورة سامية خضر أستاذ علم الإجتماع
وتقول الدكتورة سامية: “الأم القاصر تتحمل مسؤوليات تفوق عمرها، وعندما تلد طفلًا وترى الأب يتهرب من الاعتراف به أو يرفض تسجيله، تشعر بالعجز والظلم، وقد تدخل في حالات اكتئاب أو اضطرابات نفسية”.
وتضيف أن المجتمع كثيرًا ما يلقي اللوم على الفتاة رغم أنها في الأصل ضحية، وهو ما يزيد من عزلتها ويفاقم معاناتها النفسية، وترى الدكتورة أن عدم تسجيل الطفل لا يدمّر فقط مستقبل الرضيع، بل يترك ندوبًا طويلة المدى في نفس الأم القاصر، وقد ينعكس لاحقًا على أسلوب تربيتها لأطفالها.
لماذا يستمر زواج القاصرات رغم تجريمه
رغم وجود قانون واضح يمنع الزواج قبل سن الثامنة عشرة، فإن الظاهرة لا تزال مستمرة بسبب عدة عوامل متشابكة:
الفقر الذي يدفع بعض الأسر لتزويج بناتهن مبكرًا، وضعف الوعي القانوني بخطورة الزواج العرفي على الفتاة والطفل، والتقاليد الاجتماعية التي تعتبر الزواج المبكر “سترة”، والخوف من كلام الناس في بعض المناطق الريفية والشعبية، وانتشار العقود العرفية التي تُبرم بعيدًا عن أعين الدولة، وغياب التوعية بأضرار الزواج المبكر من الناحية النفسية والقانونية والصحية.
وتُظهر هذه الأسباب أن الأزمة ليست قانونية فقط، بل اجتماعية وثقافية بالدرجة الأولى، وتتطلب مواجهة شاملة.
بين زواج مبكر مخالف للقانون، وخلافات أسرية قد تصل إلى الانفصال، وتهرّب من تحمل المسؤولية خوفًا من العقوبة، يبقى الطفل هو الضحية الأولى والأضعف. ومع تزايد هذه الحالات، يظل السؤال قائمًا، كم من الأطفال يُحرمون من أبسط حقوقهم، فقط لأن الكبار أخطأوا ثم تخلّوا، ولن تُحل هذه الأزمة إلا عبر وعيٍ مجتمعي يرفض تزويج القاصرات، وتطبيق قانون يحمي الصغار، وإعلاء مصلحة الطفل فوق كل خلاف وفوق كل تقصير، فحق الطفل في اسم وهوية ومستقبل ليس فضلًا من أحد، بل واجب لا يقبل التهاون.






