تحقيق – روفيدا يوسف
غياب الأب عن الأسرة لا يعني فقط فقدان دوره كمعيل، بل يمتد تأثيره ليشكل تحديات نفسية واجتماعية للأبناء والأمهات على حد سواء، الأطفال الذين ينشأون دون وجود أب يواجهون مشاعر الفقد، وعدم الاستقرار العاطفي، وقد يؤثر ذلك على تكوين شخصياتهم ومستقبلهم، وفي المقابل تتحمل الأم مسؤولية مزدوجة، فتكون المربية والداعمة نفسيًا، وهو عبء قد يؤثر على صحتها النفسية.
لماذا يغيب الأب.. أسباب مختلفة ونتيجة واحدة
غياب الأب قد يكون لأسباب متعددة، ولكل منها تأثير مختلف، فالوفاة الفقدان الدائم الذي يترك أثرًا نفسيًا عميقًا لدى الأطفال، أما الطلاق والإنفصال قد يؤدي إلى قطيعة بين الأبناء ووالدهم، خاصة إذا كان هناك نزاع بين الأبوين.
والعمل خارج البلاد بالرغم أن الأب ما زال موجودًا في حياة أطفاله، فإن الغياب الجسدي يخلق فجوة عاطفية، والإهمال أو التخلي حيث يكون الأب حيًا لكنه غير حاضر فعليًا في حياة أطفاله.
أراء من قلب الواقع.. الأطفال يتحدثون عن الفقدان
في محاولة لفهم تأثير غياب الأب من وجهة نظر الأطفال، تقول “مريم” فقدت والدي بسبب الوفاة، «كل لما أشوف والد حد من صحابي بييجي ياخده من المدرسة، بحس إني ناقصة حاجة».
ويحكي “علي” والدي يعمل بالخارج منذ سنوات، «أنا مش حاسس إن عندي أب، هو بس بيبعت فلوس، لكن مش عارفه كويس».
تقص “إسراء” «بابا موجود معانا في البيت لكن دايمًا مشغول عننا، بالرغم إننا عايشين مع بعض في بيت واحد إلا إني ممكن اقعد أيام مشفهوش».
تروي “سلمى” ماما وبابا منفصلين، «ماما دايمًا بتقول إن بابا مشغول، بس ليه مش بيسأل عني زي بابا صحابي».
يقول “يوسف” «والدي منفصل عن والدتي وفي حاجات ببقى عايز اسمعها من بابا مش من أمي، ساعات بحس إني تايه».
أنا المسؤولة عن كل شيء.. معاناة الأمهات في غياب الأب
تربية الأطفال ليست مهمة سهلة، وعندما تتحملها الأم وحدها، تصبح أكثر تعقيدًا، وخلال الحديث مع بعض الأمهات، تقول “سارة” «أنا أرملة وعندي طفلين، بحاول أعوض ولادي عن غياب أبوهم، بس مهما عملت، في حاجات الأب بس هو اللي يقدر يعملها».
تحكي “نهى” أنا مطلقة وأم لطفل واحد «مجتمعنا بيحمل الأم المطلقة مسؤولية فوق طاقتها، وبيحكم عليها دايمًا حتى لو الأب هو اللي اختار البعد».
تروي “أ. م” زوجي يعمل بالخارج، «والناس فاكرة إن الفلوس تعوض غياب الأب، بس الحقيقة إن الأولاد محتاجين وجوده أكتر من أي حاجة، وحمل مسؤولية التربيه لوحدي متعبة».
وتقص “أ. ع” «زوجي موجود لكن دايمًا محملني مسؤولية التربية لوحدي، بحجة إنه مشغول في الشغل».
آراء بعض الأباء عن غيابهم من حياة أطفالهم
يقول “أيمن” أعيش في الخارج من أجل توفير حياة أفضل لعائلتي، لكنني شعرت كثيرًا أن غيابي يؤثر بشكل كبير على علاقتي بأطفالي، أحيانا أعتقد أن المال الذي أرسله يعوض غيابي الفعلي في حياتهم، لكن اتأكدت إن اعتقادي خطأ وأن لازم وجودي معاهم أكثر وقت ممكن.
ويحكي “حسام” أنا مشغول جدًا بعملي، وغالبًا أكون بعيدًا عن المنزل لساعات طويلة، أرى أن هذا يؤثر على علاقتي بأطفالي، أحاول تعويضهم عن هذا الغايب، لكن شعور الذنب لا يفارقني.
يروي “محمود” غيابي عن ابنتي بسبب سفري للشغل يؤثر عليا بشكل كبير، رغم أنني أحاول أن أكون قريبًا منها قدر الإمكان عبر الإنترنت، إلا أنني أعلم أن ذلك ليس كافيًا.
يحكي “أ. م” غبت عن أولادي لفترات طويلة بسبب طلاقي، وفي البداية كنت أعتقد أن الأمور ستكون على ما يرام لأنني سأظل أرسل لهم المال، لكن مع مرور الوقت، بدأت أدرك أن غيابي له تأثير نفسي عليهم، وابني أصبح أكثر انطوائية، والبنات يشعرن بعدم الأمان.
يقص” ع. ع” غيابي عن أولادي أثر في نفسياتهم بشكل كبير، وأصبح لدي شعور دائم بالندم لأني كنت دائماً منشغل في عملي لتأمين حياة أفضل لهم، كنت أعتقد أن المال هو الأهم، لكنني اكتشفت مع مرور الوقت أن وجودي بجانبهم ودعمي العاطفي لهم هو الذي يمنحهم الأمان والاستقرار.
يقول “ي. ع” أن ضغوط الحياه جعلت الأباء أكثر انشغالًا عن أولادهم ولكن هذا لايمنع من تخصيص وقت ولو قليل للحديث معهم، المشاركة في حياتهم اليومية، والسماع لهم، قد يكون هذا مفتاح لتقوية علاقة الأب باأولاده خصوصًا الفتيات، فالأب يجب أن يكون قدوة لأولاده، لكي يسهل عليهم اتخاد القرارات وبناء علاقات سليمة.
الأب أكثر من مجرد مُعيل
الأب ليس مجرد مصدر للمال، بل هو السند الذي تستند إليه القلوب قبل الأجساد، ودوره لا يقتصر على تأمين الإحتياجات المادية، بل يمتد ليشمل الإحتواء والتوجيه، وغرس القيم والمبادئ في أبنائه، فوجوده بحواره الدافئ، واهتمامه بتفاصيل حياة أولاده يمنحهم الشعور بالأمان والثقة، فالمال قد يوفر الحياة الكريمة، لكن الحب والإهتمام هما ما يصنعان أسرة متماسكة وسعيدة.
رأي أطباء نفسين في التأثيرات النفسية للأبناء
يقول الدكتور “جمال فراويز” طبيب نفسي، أن شخصية الإنسان تتكون من ثلاثة عناصر أساسية، 10%وراثة و10%خبرات حياتية، 80% مختصر علي التربية، وأن الأب هو المظلة الأساسية للأسرة، وهو الذي يوفر الثقة بالذات ويوفر الشعور بالأمان، والعاطفة الجياشة.

الطبيب النفسي جمال فراويز
ويستكمل “فراويز” حديثه قائلًا: دائمًا غياب الأب يؤثر على الأولاد، فالأب السلبي دائمًا ما ينتج عنه أولاد ذات شخصية مضطربة، والأب العنيد إما أن يكون ابنه انطوائي جدًا خوفًا من الأب أو يتمرد على الأب والمجتمع والدين عندما يكون في سن المراهقة.
ويؤكد الدكتور النفسي أن كل هذا ردًا علي الأب العنيد فيبدأ الإبن بالتصادم مع الأشخاص سواء في رئيسه بالعمل أو في الشارع، فكل الإضطرابات النفسية أو الجنسية أو الشخصية الحدية في المقام الأول يكون من دور الأب، دائمًا الأبن إما أن تكون علاقتة بالأب كانت قوية ثم تم افتقادها، أو أن العلاقة بينهم مفقودة من الأساس وهذا يؤدي ناحية الشخصية الحدية غالبًا.
ولهذا فإن دور الأب في تربية الأبناء أساسي، مراعاة لعدم حدوث أي اضطرابات لدي الإبن مثل السرقة أو شد الشعر نتيجة للنقص العاطفي.
وأكد الدكتور “محمد المهدي” أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر، أهمية الدور النفسي الذي يلعبه الأب في حياة أبنائه، مشددًا على أن هذا الدور لا يمكن تعويضه، خاصة خلال المرحلة العمرية من ثلاث إلى خمس سنوات، وأوضح أن الطفل، بعد ارتباطه القوي بالأم خلال فترة الحمل والرضاعة، يحتاج في هذه المرحلة إلى الاقتراب من الأب لاكتساب الصفات الذكورية وبناء هويته الشخصية.

الدكتور محمد المهدي طبيب نفسي
وأشار “المهدي” إلى أن الفتيات أيضًا يحتجن إلى وجود الأب في حياتهن، رغم قربهن الفطري من الأم، إذ يساعدهن ذلك على فهم كيفية التعامل مع الرجال لاحقًا وبناء علاقات صحية، وحذر من أن الفتاة التي تعاني من نقص الحنان الأبوي قد تبحث عنه خارجيًا، مما قد يعرضها لعلاقات غير سليمة.
وأضاف أن غياب دور الأب عن حياة الأبناء الذكور قد يدفعهم إلى البحث عن بدائل، مثل التعلق الزائد بالمعلمين أو المدربين، وهو ما قد يؤدي إلى احتياج مفرط للدعم النفسي قد يتحول إلى علاقات غير صحية إذا لم يُشبع بطريقة سليمة.
وشدد الدكتور على أن دور الأب لا يقتصر على الجانب المادي أو ممارسة السلطة داخل الأسرة، بل يمتد ليشمل الدعم النفسي والتربوي، وهو عنصر أساسي في تكوين شخصية الأبناء بشكل متوازن ومستقر.
الأم والصحة النفسية.. عندما يصبح الحمل ثقيلًا
التربية ليست مجرد مسؤولية يومية، بل تحدي نفسي كبير، خصوصًا عندما يكون الحمل كله على كتف الأم وحدها، كثير من الأمهات يعانين من الضغط النفسي بسبب الشعور بالمسؤولية الكاملة، والخوف من التقصير في حق أبنائهن، فالإجهاد النفسي للأمهات قد يؤثر على طريقة تعاملهن مع أطفالهن، ويجعل التربية أكثر صعوبة.
هل يتأثر الأولاد والبنات بغياب الأب بشكل مختلف
غياب الأب له تأثيرات متفاوتة بين الذكور والإناث، فالأولاد قد يشعرون بنقص في التوجيه الذكوري، مما قد يؤدي إلى مشاكل في التعامل مع الذكور الآخرين أو فهم دورهم كرجل في المستقبل، أما البنات، قد يؤدي غياب الأب إلى شعور بعدم الأمان العاطفي، مما قد يؤثر على نظرتهم للعلاقات مستقبلاً.
هل يمكن أن يؤدي غياب الأب إلى الإنحراف
غياب الأب يمكن أن يزيد من احتمالية الإنحراف السلوكي لدى بعض الأبناء، مثل فقدان القدوة الذكورية، فالأب يمثل نموذجًا للسلوك والإنضباط، وغيابه قد يجعل الإبن يبحث عن قدوة أخرى، قد تكون غير مناسبة مثل أصدقاء السوء أو الشخصيات المؤثرة سلبيًا في المجتمع.
وأيضًا ضعف الرقابة والتوجيه، في بعض الأسر يكون الأب هو العنصر الحازم الذي يضع الحدود، وغيابه قد يؤدي إلى غياب الضبط السلوكي، مما يسمح للأبناء بتجربة أفعال سلبية مثل التدخين أو تعاطي المخدرات.
الفراغ العاطفي والبحث عن الإهتمام عند الأبناء، خاصة البنات، قد يبحثون عن تعويض عاطفي خارج الأسرة، مما قد يعرضهم للإستغلال العاطفي أو الدخول في علاقات غير صحية.
كيف تبني الأم علاقة متوازنة مع أطفالها رغم غياب الأب
حتى في غياب الأب، يمكن للأم أن تعوض جزءًا من تأثير هذا الغياب من خلال، خلق بيئة آمنة ومستقرة وتقديم الحب والدعم المستمر للأطفالها.
وأيضًا توفير قدوة ذكورية إيجابية، مثل الجد أو العم، لمساعدة الطفل على اكتساب نماذج سلوكية متوازنة، والاهتمام بالحوار المفتوح بمنح الأطفال فرصة للتعبير عن مشاعرهم دون خوف أو ضغط، وتعزيز الاستقلالية، تشجيع الطفل على تحمل المسؤولية وبناء ثقته بنفسه.
لا شك أن غياب الأب يشكل تحديًا كبيرًا للأطفال والأمهات على حد سواء، لكن الحب والدعم النفسي يمكن أن يساعدا في تخفيف الأثر، الأمهات اللاتي يواجهن هذه المسؤولية وحدهن يحتجن إلى دعم نفسي واجتماعي، حتى لا يتحول هذا الغياب إلى ندبة نفسية دائمة في حياة الأبناء.