تحقيق – روفيدا يوسف
لم تعد المخلفات مجرد نفايات بلا قيمة، بل أصبحت عنصرًا رئيسيًا في منظومة الاقتصاد الأخضر، حيث يمكن تحويلها إلى موارد تدعم التنمية المستدامة، ومع تصاعد المخاطر البيئية واستنزاف الموارد الطبيعية، أصبح إعادة التدوير حلًا حتميًا لتقليل التلوث، وتحقيق كفاءة اقتصادية، ودعم الصناعات الصديقة للبيئة، فكيف تسهم إعادة التدوير في بناء اقتصاد أكثر استدامة وما دورها في تقليل الانبعاثات وتعزيز كفاءة استخدام الموارد.
الإقتصاد الأخضر هو نموذج اقتصادي يهدف إلى تحقيق التنمية المستدامة من خلال الاستخدام الفعّال للموارد الطبيعية وتقليل التأثيرات البيئية الضارة، يعتمد على تعزيز الأنشطة الاقتصادية الصديقة للبيئة، مثل الطاقة المتجددة، وإعادة التدوير، والزراعة المستدامة، مع الحد من التلوث وانبعاثات الكربون، يركز هذا النموذج على تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة، حيث يعتمد على الاستغلال الأمثل للموارد دون إهدار، ولا يوجد فيه ما يعرف “بالفاقد” بل يتم إعادة استخدام المواد مرة أخرى.
أما بالنسبة لاعادة التدوير فهي عملية تحويل المخلفات والمواد غير المستخدمة إلى مواد جديده قابلة للإستخدام، بهدف تقليل استهلاك الموارد الطبيعية والحد من التلوث البيئي، تشمل هذه العملية جمع المواد القابلة لاعادة التدوير، مثل البلاستيك والورق والمعادن والإلكترونيات، ثم معالجتها واستخدامها في منتجات جديدة.
المخلفات والإحتباس الحراري.. كيف تتحول النفايات إلى قنابل مناخية
تحلل النفايات العضوية وإنتاج الميثان، عندما تتحلل المخلفات العضوية مثل بقايا الطعام والنباتات في مكبات القمامة، تنتج غاز الميثان، وهو من أقوى الغازات الدفيئة، حيث يحتجز الحرارة في الغلاف الجوي أكثر من 25 مرة من تأثير ثاني أكسيد الكربون، حرق النفايات وانبعاث الغازات الضارة فبعض الدول تعتمد على حرق النفايات للتخلص منها، مما يطلق كميات ضخمة من ثاني أكسيد الكربون وأكسيدات النيتروجين، وهي غازات تساهم في ارتفاع درجة حرارة الأرض بشكل كبير.
وإنتاج المخلفات البلاستيكية وتدهور البيئة حيث إن صناعة البلاستيك تعتمد على الوقود الأحفوري، وعند التخلص من البلاستيك بشكل غير صحيح، يتحلل ببطء وينتج الميثان والإيثيلين، مما يزيد من تأثير الاحتباس الحراري، وإهدار الموارد وزيادة الانبعاثات الصناعية فعندما لا يتم إعادة تدوير المخلفات، نحتاج إلى استخراج مواد خام جديدة، مما يتطلب استهلاكًا كبيرًا للطاقة في عمليات التعدين والتصنيع والنقل، وكل ذلك يرفع معدلات انبعاثات الكربون في الغلاف الجوي فيزيد من ظاهرة الإحتباس الحراري.
إعادة التدوير..حل فعال للتقليل من ظاهرة الإحتباس الحراري وبناء بيئة مستدامة
تؤدي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة من حرق المخلفات واستخراج الموارد الطبيعية وغيرها، دورًا رئيسيًا في تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، إذ يسهم تراكم الغازات مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان في احتباس الحرارة داخل الغلاف الجوي، فيزيد من درجة حرارة الأرض.
وتعتبر هذه الإنبعاثات من أخطر الملوثات البيئية، حيث يتم إنتاجها بكميات كبيرة، مما يشكل تهديدًا مباشرًا للمناخ، وهنا تأتي أهمية إعادة التدوير كحل فعال يساهم في تقليل هذه الانبعاثات، إذ يساعد في خفض كمية النفايات وتقليل الحاجة إلى استخراج المواد الخام، فيؤدي إلى تقليص ملايين الأطنان من غازات الاحتباس الحراري سنويًا.
وتكمن الفائدة في أن إعادة تدوير المواد المعدنية تتيح استخدامها مجددًا في تصنيع منتجات جديدة، دون الحاجة إلى استهلاك موارد إضافية، كما تبرز بعض التقنيات الحديثة التي تسعى إلى إعادة تدوير ثاني أكسيد الكربون المنبعث من محطات الطاقة وتحويله إلى وقود ومواد كيميائية ذات قيمة اقتصادية، بجانب العمل على تقليل نسبة هذا الغاز وتحويله إلى مركبات أقل ضررًا.
إعادة تدوير البلاستيك.. استثمار في البيئة واقتصاد المستقبل
تُعد إعادة تدوير البلاستيك إحدى الركائز الأساسية لتحقيق الإقتصاد الأخضر، حيث تساهم في تقليل استهلاك الموارد الطبيعية، وخفض انبعاثات الغازات الدفيئة، وتقليل التلوث البيئي، فبدلًا من إنتاج البلاستيك الجديد الذي يتطلب كميات ضخمة من البترول والطاقة، يُمكن إعادة تدوير المخلفات البلاستيكية وتحويلها إلى منتجات جديدة، مما يقلل من الضغط على البيئة ويوفر فرصًا اقتصادية مستدامة.
وإلى جانب دورها البيئي، توفر إعادة التدوير بديلًا اقتصاديًا أقل تكلفة مقارنة بالبلاستيك المستورد، فبينما تتأثر أسعار البلاستيك الخام المستورد بعوامل مثل أسعار النفط، يتميز البلاستيك المعاد تدويره بتكلفة إنتاج أقل، ما يجعله خيارًا أكثر استدامة للشركات والمصانع المحلية، ووفقًا لبيانات السوق، فإن تكلفة الطن من البلاستيك المعاد تدويره أقل بنسبة تتراوح بين 30% إلى 50% مقارنة بالبلاستيك الخام المستورد، مما يساهم في دعم الاقتصاد المحلي وتقليل الاعتماد على الاستيراد.
تحويل الورق المستعمل خطة نحو اقتصاد اخضر وحماية البيئة
إعادة تدوير الورق تعد من أهم الممارسات البيئية التي تندرج تحت مفهوم الاقتصاد الأخضر، حيث تسهم في تقليل استهلاك الموارد الطبيعية، حيث إن إنتاج الورق التقليدي يعتمد بشكل أساسي على قطع الأشجار، مما يؤدي إلى إزالة الغابات وزيادة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، بينما إعادة تدويره يساعد على تقليل الحاجة لقطع الأشجار، مما يحافظ على التوازن البيئي.
يفتح قطاع إعادة تدوير الورق فرصًا جديدة للإستثمار وخلق فرص عمل خاصة في مجالات الجمع والفرز والتصنيع، كما يساعد الشركات على تقليل تكاليف الإنتاج بإستخدام المواد المعاد تدويرها بدلًا من المواد الخام.
خبير بيئي.. التحول الأخضر أولوية للدولة وخطة لخفض التلوث البيئي
أكدت الدكتورة “هبة زكي” خبيرة البيئة، أن عام 2024 شهد اهتمامًا متزايدًا من الدولة ممثلة في وزارة البيئة، بملف التحول الأخضر، وأوضحت أن الدولة عملت على دمج البعد البيئي في مختلف القطاعات التنموية، واتخذت خطوات متسارعة بالتعاون مع الجهات المعنية وشركاء التنمية، بهدف تحقيق التنمية المستدامة وتعزيز الاستثمارات الخضراء.
وأضافت “زكي” أن التحول الأخضر يمثل أحد المحاور الرئيسية للحوكمة والتنمية المستدامة، حيث تسعى الدولة إلى تقليل الانبعاثات الملوثة للهواء كجزء أساسي من هذا التحول، وأشارت إلى أن الجهود تشمل خفض معدلات التلوث بالجسيمات الصلبة التي يقل قطرها عن 10 ميكروميتر في القاهرة الكبرى والدلتا.
وأوضحت الدكتورة أن الدولة تستهدف الوصول بنسبة التلوث إلى 50% بحلول عام 2030، من خلال تنفيذ سياسات بيئية متكاملة تسهم في تحسين جودة الهواء وتعزيز مفهوم الاقتصاد الأخضر، بما ينعكس إيجابيًا على الصحة العامة والبيئة.
خطوات مصر نحو الاقتصاد الأخضر
اتخذت مصر عدة خطوات نحو تعزيز الاقتصاد الأخضر من خلال مبادرات تنموية مثل “حياة كريمة”، والتي تهدف إلى تحسين مستوى المعيشة في الريف المصري، تشمل هذه الجهود توفير مياه شرب نظيفة، وتطوير شبكات الصرف الصحي في القرى الأكثر احتياجًا، إلى جانب تبني استراتيجية تتماشى مع رؤية مصر 2030، كما يتم تنفيذ خطة متكاملة تراعي الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية لتحقيق التنمية المستدامة، وتشمل مشروعات تبطين الترع لتحسين كفاءة الري، وحماية جودة المياه، وتعزيز صحة المواطنين،أبرزها
زيادة الاستثمارات في المشروعات الخضراء
تركزت خطة عام 2022/2021 على مضاعفة الاستثمارات العامة في المشروعات الخضراء، حيث ارتفعت نسبتها من 15% في 2021/2020 إلى 50% بحلول 2024وحتى نهاية عام2025، كما تم تخصيص أولوية لتمويل المبادرات البيئية والمشروعات المستدامة، وذلك ضمن رؤية الحكومة لتعزيز التعافي الأخضر، وتعد مصر من الدول الرائدة في منطقة الشرق الأوسط في مجال التحول نحو الاقتصاد الأخضر.
تعزيز وسائل النقل المستدام
تعمل الحكومة على توسيع نطاق استخدام وسائل النقل النظيف، وذلك من خلال تطوير شبكة المترو والقطارات، ما يسهم في تقليل التلوث البيئي وتحقيق استدامة في قطاع النقل.
استراتيجية الطاقة المتجددة
في عام 2022، اعتمد المجلس الأعلى للطاقة الاستراتيجية المصرية للطاقة حتى عام 2035، والتي تهدف إلى زيادة مساهمة الطاقة المتجددة إلى 42% من إجمالي الكهرباء المنتجة، وتوزع هذه النسبة بين 22% من الخلايا الشمسية، و14% من طاقة الرياح، و3% من المراكز الشمسية، و2% من الطاقة المائية.
دعم الاستثمار في الاقتصاد الأخضر
تم تبني العديد من المبادرات التي تشجع القطاع الخاص على الاستثمار في الاقتصاد الأخضر، مثل مشروعات تحويل المخلفات إلى طاقة، والاستغلال الاقتصادي للمخلفات الزراعية، بالإضافة إلى استثمارات في المحميات الطبيعية لتحقيق الاستخدام الأمثل للموارد البيئية، وتلعب المؤسسات التمويلية دورًا مهمًا في تسريع التحول نحو الاقتصاد المستدام.
التعاون مع صندوق المناخ الأخضر
تسعى الحكومة المصرية للاستفادة من آليات التمويل التي يوفرها صندوق المناخ الأخضر لدعم المشروعات المتعلقة بمكافحة تغير المناخ والتكيف معه، وقد تم بالفعل تنفيذ ثلاثة مشروعات في هذا الإطار، اثنان منها في مجال التخفيف، والثالث في مجال التكيف مع التغيرات المناخية.
مبادرات وزارة البيئة المصرية لدعم وتعزيز الإقتصاد الأخضر
تتبنى وزارة البيئة المصرية عدة مبادرات لدعم إعادة التدوير وتعزيز الاقتصاد الأخضر، منها إطلاق اليوم المصري لإعادة التدوير، في عام 2021، نظمت الوزارة أول احتفال باليوم المصري لإعادة التدوير، حيث تم توقيع اتفاقيات مع ثماني من كبرى الشركات العاملة في مصر لتقليل استخدام البلاستيك وتعزيز إعادة التدوير.
مبادرة “E-Tadweer” تهدف إلى جمع المخلفات الإلكترونية من الأفراد والشركات لإعادة تدويرها بطرق آمنة بيئيًا، مع التركيز على تمكين المرأة والشباب وتحويل هذه المشروعات إلى مصادر دخل مستدامة.
دعم مبادرة “VeryNile” بجزيرة قرصاية بنهر النيل،حيث تعمل هذه المبادرة على إزالة المخلفات البلاستيكية من نهر النيل وإعادة تدويرها، دعمت الوزارة جهودها منذ البداية لتحقيق بيئة نهرية نظيفة.
وأيضًا افتتاح أول مصنع لتدوير مخلفات قش الأرز في محافظة البحيرة، حيث يمثل هذا الإفتتاح خطوة مهمة للبيئة والاقتصاد المصري، ويأتي هذا المشروع ضمن جهود الحكومة للحد من ظاهرة السحابة السوداء التي تتسبب في تلوث الهواء خلال مواسم حرق قش الأرز، خاصة في المناطق الزراعية، ويعكس المصنع توجه الدولة نحو إدارة أكثر كفاءة للمخلفات الزراعية، ما يسهم في تحسين جودة الهواء وتقليل الأضرار البيئية.
ويتطلب المشروع استثمارات تصل إلى 351 مليون يورو، مما يؤكد اهتمام الحكومة بالاستثمار في مشروعات مستدامة تعزز الاقتصاد المحلي وتوفر فرص عمل جديدة، كما يعد المصنع ثمرة تعاون بين وزارتي البيئة والبترول، في خطوة تعكس جهود الحكومة لتكامل العمل بين مختلف الجهات لتحقيق أهداف التنمية المستدامة وتعزيز الحلول البيئية المبتكرة.
المبادرة الوطنية للمشروعات الخضراء الذكية،أُطلقت هذه المبادرة لتشجيع المشروعات البيئية المبتكرة في جميع المحافظات، بهدف تعزيز الاستدامة وتقديم حلول بيئية محلية.
مشروع “كايرو بايك” يُعتبر هذا المشروع أحد وسائل النقل الحضري الصديقة للبيئة في وسط القاهرة، حيث يساهم في تقليل الانبعاثات الكربونية وتعزيز ثقافة استخدام الدراجات.
من خلال هذه المبادرات، تسعى وزارة البيئة إلى تعزيز ممارسات إعادة التدوير ودعم التحول نحو اقتصاد أخضر مستدام في مصر.
حظيت جهود مصر في التحول نحو الاقتصاد الأخضر باهتمام دولي، حيث نشرت منصة FDI Intelligence التابعة لجريدة Financial Times العالمية، مقالًا مشتركًا للدكتورة رانيا المشاط، وزيرة التعاون الدولي، وسيرجيو بيمنتا، نائب رئيس منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا بمؤسسة التمويل الدولية، بتسليط الضوء لأول مرة على تفاصيل التعافي الأخضر في مصر.
وأشار المقال إلى أن مصر أصبحت رائدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بفضل سياساتها في مجال الطاقة المتجددة، حيث تتبنى استراتيجية واضحة لتعزيز استخدام الطاقة النظيفة وتنفيذ المشروعات الصديقة للبيئة، مما جعلها نموذجًا يُحتذى به للدول الناشئة الساعية للتحول نحو الاقتصاد الأخضر، وفقًا لتقرير توقعات الطاقة الشمسية لعام 2020.
وفي السياق ذاته، ذكرت مجلة ناشيونال إنترست الأمريكية أن استضافة مصر لمؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ COP 27 يعكس سعيها لتمثيل تطلعات القارة الإفريقية في مواجهة التغيرات المناخية، معتبرة أن الحدث يمثل فرصة لمصر لتعزيز دورها كصوت رئيسي للدول الإفريقية المطالبة بدور أكبر للغاز الطبيعي في عملية تحول الطاقة.
في ظل التحديات البيئية والاقتصادية المتزايدة، لم تعد إعادة التدوير مجرد خيار، بل أصبحت ضرورة لتحقيق تنمية مستدامة واقتصاد أكثر استقرارًا، فبفضل دورها في تقليل التلوث، والحفاظ على الموارد، وتعزيز الصناعات المحلية، تُمثل إعادة التدوير ركيزة أساسية في التحول نحو الاقتصاد الأخضر، ولضمان نجاح هذه المنظومة، لا بد من تكاتف الجهود بين الحكومات، والقطاع الخاص والمجتمع، لتبني حلول مبتكرة تُحقق التوازن بين التطور الاقتصادي وحماية البيئة، ليصبح المستقبل أكثر استدامة للأجيال القادمة.