تحقيق – نسمة هاني
“الحب وحده لا يكفي”، عبارة باتت تتكرر كثيرًا على ألسنة الفتيات وأسرهن في زمن تضاعفت فيه الأسعار، وأصبح الزواج أشبه بصفقة تحتاج لرأس مال قبل المشاعر. في ظل هذا الواقع، ظهر نمط جديد من التفكير: لا خطوبة ولا وعود إلا إذا كان الشاب قادرًا على توفير شقة، وتأثيثها، وضمان دخل ثابت، هكذا تحوّلت البداية التي كانت تُبنى على الحلم إلى قائمة شروط، أولها المال وآخرها المال.
فمع الارتفاع الجنوني في أسعار العقارات والأثاث، بات تجهيز بيت الزوجية مهمة شاقة، وأصبح كثير من الأسر يرون في الاستقرار المادي شرطًا أساسيًا قبل أي ارتباط، هذا الواقع دفع بعض الشباب لتأجيل فكرة الخطوبة لسنوات، فيما جعل آخرين يشعرون أن الحب لم يعد كافيًا لفتح باب البيت الجديد.
حين يتحدث الحب بلغة الجنيه.. آراء المواطنين
تقول ريم محمد: “أنا لست مادية، ولكن الواقع يقول إنه إذا تزوجت من دون أساس قوي، ستكون حياتي مليئة بالمشكلات، لا أستطيع أن أعيش عمري كله أحسب كل جنيه”.
وآضاف أحمد السيد، تقدمت لفتاة كنت أحبها، وأهلها في البداية رحبوا، لكن حين عرفوا راتبي وأن الشقة ما زالت تحت التشطيب، طلبوا الانتظار حتى تجهز، انتظرت، وفي النهاية تزوجت شخصًا آخر كان جاهزًا.
وتروي مي محمد، ليست كل الفتيات يرين المال أهم شيء، لكن من يبدأ من الصفر يعاني كثيرًا بعد الزواج، لقد رأيت تجارب حولي انتهت بالطلاق بسبب ضيق الحال.
ويوضح كريم محمود، أشعر أن الزواج أصبح مشروعًا تجاريًا أكثر منه حياة مشتركة، حتى لو كان هناك حب، فإن الظروف المادية إذا لم تكن مناسبة، يُغلق الباب فورًا.
وتحكي سهيلة عاطف، هناك فتيات يتزوجن من رجال ميسوري الحال ويظنن أن المال سيجعل حياتهن مثالية، لكن بعد الزواج يكتشفن أن الفلوس ليست ضمانًا للسعادة أو الاحترام، وينتهي الأمر بالطلاق رغم كل الماديات.
وآضافت شيماء حامد، هناك فتيات يردن تأمين مستقبلهن ومستقبل أولادهن، حتى يضمنّ أنهن لن يعانين من غلاء المعيشة، وهناك أيضًا من تشترط المال فقط لتضمن حياة رفاهية لا أكثر.
وآوضحت ملك إبراهيم، يجب أن أرتبط بشخص يضمن لي نفس مستوى المعيشة الذي اعتدت عليه في بيت أهلي، لأنني بطبيعتي لن أستطيع التأقلم مع مستوى أقل، الدنيا أصبحت غالية، لذا يجب أن يكون قادرًا على تأمين حياة كريمة لي ولأولادي المستقبليين، المال ليس كل شيء، لكن من دونه لا يمكن العيش في هذا الزمن.
بين من ترى في المال ضمانًا للاستقرار، ومن تعتبره ترفًا يقتل المعنى الحقيقي للزواج، يظل السؤال مطروحًا، هل أصبح الارتباط مشروعًا اقتصاديًا يحتاج إلى دراسة جدوى قبل المشاعر، أم أن الشراكة الحقيقية يمكنها أن تتحدى ضغوط الغلاء وتبني بيتًا على أساس الحب قبل الحسابات.
توضح الدكتورة سامية خضر أنّ مسألة المستوى المادي أمر طبيعي ومنطقي، فإذا كان المستوى معقولًا، فلا داعي للرفض، أمّا إذا كان غير معقول تمامًا، فمن الطبيعي أن ترفض الفتاة أو أسرتها، فليس المطلوب أن يمتلك الشاب شقة فاخرة أو سيارة فارهة، بل أن يكون هناك حدّ أدنى مقبول من الاستقرار المادي.

الدكتورة سامية خضر أستاذ علم الإجتماع
وآضافت كذلك إلى أنّ الاقتناع بالشخص هو العامل الأهم، فإذا كان الطرفان يعملان، فيستطيعان أن يبنيا حياة سعيدة معًا، فالأساس ليس التوقف عند حدود المال وحده، بل التعاون والاجتهاد للوصول إلى ما يطمحان إليه، وهذا ما كان شائعًا في الماضي.
تؤكد الدكتور سامية خضر أيضًا أنّ التغيرات الاجتماعية في الوقت الحالي جعلت النظرة مختلفة، فقد أصبح التركيز على الجانب المادي أكبر مما كان عليه سابقًا، بينما تبقى الأخلاق، والمستوى الفكري، والسلوكيات، هي الركائز الأهم التي ينبغي أن تُبنى عليها العلاقة، وبعدها يمكن للطرفين أن يقررا الاستمرار معًا.
ترى بعض الفتيات أنّ اشتراط المال ليس رفاهية، بل وسيلة للهروب من معاناة عشنها في بيوت أسرهن، تقول ندى أحمد: “أمي تزوجت على قد حالها، وظلت حياتها مليئة بالديون والمشكلات، وأنا لا أريد أن أعيد التجربة، لذلك أرفض أي ارتباط من دون ضمان مادي واضح”.
يدفع هذا الواقع كثيرًا من الشباب إلى الإحباط، فيبحث بعضهم عن الهجرة أو العمل في الخارج ليتمكن من الوفاء بالطلبات، يروي محمود علي: “كنت مخطوبًا لسنوات، وكلما اقتربنا من الزواج، زادت المطالب، في النهاية فسخت الخطوبة، وسافرت لأبدأ من جديد”.
توضح الأرقام أن تكلفة الزواج أصبحت عبئًا ثقيلًا، ففي القاهرة، تتراوح الشبكة بين 75 و100 ألف جنيه، بينما تصل في بعض محافظات الصعيد إلى أكثر من ذلك، أما تجهيز المنزل من أثاث وأجهزة كهربائية، فيتخطى غالبًا 500 ألف جنيه، هذه التكاليف تجعل الارتباط مؤجلًا عند كثير من الشباب لسنوات طويلة.
السوشيال ميديا ترفع سقف توقعات البنات
تؤكد دراسات اجتماعية أنّ وسائل الإعلام ومنصات التواصل رفعت سقف التطلعات لدى الفتيات والأسر، إذ صارت صورة الزواج مرتبطة بمظاهر الرفاهية، من بيت واسع إلى فرش فاخر وأجهزة حديثة. ومع تكرار هذه الصورة المثالية، أصبحت المطالب المادية تبدو “طبيعية”، حتى وإن كانت فوق طاقة الشاب.
في الماضي، كان الحب والشخصية هما أساس الخطبة، وكانت الحياة الأسرية تنبني تدريجيًا بعد الزواج، دون ضغوط مالية ضخمة في البداية.
متوسط سن الزواج ارتفع تدريجيًا عبر السنوات: ففي عام 2010، كان متوسط عمر الزواج للذكور 28.7 سنة وللإناث 23.8 سنة، وارتفع هذا إلى 30.6 سنة للذكور و24.9 سنة للإناث بحلول عام 2019، التغيّر هذا يعكس وضعًا تدريجيًا وليس قفزة بسبب أعباء مادية مفاجئة.
في الحاضر، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2023: ارتفع عدد عقود الزواج إلى حوالي 961,220 عقدًا (زيادة 3.4% عن 2022)، متوسط سن الزواج المناسب الآن بين 25–30 سنة للرجال (متوسط 30.3 سنة) و20–25 سنة للفتيات (متوسط 24.8 سنة).
لكن رغم هذه الأرقام الإيجابية، فإن السبب الرئيسي لتأخر الزواج والتحفظ عليه أصبح الأوضاع الاقتصادية: تكلفة الشبكة (المشغولات الذهبية) تتراوح غالبًا بين 10,000 و15,000 جنيه، ويمكن أن تصل إلى 25–30 ألف جنيه في الصعيد، تجهيز المنزل، من أثاث وأجهزة كهربائية، غالبًا ما يكلف 30 ألف جنيه على الأقل، وقد يرتفع أكثر حسب نوعية المعدات.
تطورت النظرة نحو الخطوبة والزواج من مجرد ارتباط عاطفي إلى مشروع اقتصادي يتطلب دراسة واضحة وتحقيق شروط مادية مسبقة، الفتيات وأسرهن في الغالب لا يرفّعن الشرط ماديًا من الجشع، بل كحد أدنى لتحقيق استقرار واقتصادي في بيئة باتت فيها تكلفة الزواج لا تقل عن دخل سنوي في بعض الأحيان.
في العقود الماضية، كان الاختيار قائمًا على الأخلاق، والدين، والتوافق الشخصي بين العروسين، أما اليوم فقد تغيّرت المعادلة عند كثير من الأسر، وسائل التواصل الاجتماعي والمسلسلات رفعت سقف التطلعات، وأصبح كثير من الفتيات يضعن معايير مادية عالية في شريك المستقبل، ليس فقط لضمان الاستقرار، بل لتحقيق مستوى معيشي يُشبه ما يشاهدنه في الإعلام.
هذا التغيّر جعل العلاقات العاطفية عرضة للاختبار منذ بدايتها، فالمشاعر وحدها لم تعد كافية إذا لم يرافقها قدرة مالية واضحة، الأمر الذي يعكس تحوّل الزواج من “مشروع حياة” إلى “استثمار طويل المدى” يحتاج لرأس مال قبل أي التزام عاطفي.
بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2023، ارتفع عدد حالات الطلاق في مصر ليصل إلى أكثر من 269 ألف حالة، أي بمعدل حالة طلاق واحدة كل دقيقتين تقريبًا، تشير التقديرات إلى أن المشكلات الاقتصادية تمثل سببًا مباشرًا أو غير مباشر في ما يقارب 38% من هذه الحالات، خاصة في السنوات الخمس الأولى من الزواج، وتوضح الأرقام أن الزيجات التي تبدأ بديون أو قروض لتمويل تكاليف الخطوبة والزواج تكون أكثر عرضة للانهيار، إذ تتحول الضغوط المادية اليومية إلى خلافات مستمرة، ومع غلاء المعيشة تصبح فرص الصمود أقل بكثير.
في النهاية يظل الجدل قائمًا بين من ترى أن المال هو الضمان الحقيقي لبداية مستقرة، ومن تعتقد أن المغالاة في الشروط قد تقتل معنى الزواج نفسه، وبين ضغوط الواقع وأحلام القلوب، يقف الشباب والفتيات عند مفترق طرق، يبحثون عن معادلة متوازنة تجمع بين الحب والاستقرار المادي، بعيدًا عن المبالغة التي تحوّل الزواج من ميثاق إنساني إلى صفقة اقتصادية، ويبقى السؤال مطروحًا، هل يمكن أن يستعيد الزواج معناه الحقيقي، أم سيظل رهينًا لأرقام الذهب وارتفاع الأسعار.