إنفراد ـ بسملة الجمل
“كنت حاسس إني هتجنن ومفيش حد فاضي يسمعني، فتحت Chat GPT وكتبت كل اللي جوايا، ولأول مرة، حسيت إني مش لوحدي، كلمات يرددها كثيرون ممن لجأوا إلى الذكاء الاصطناعي بحثًا عن دعم نفسي أو عاطفي.
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة للإجابة على الأسئلة أو توليد النصوص، بل تجاوز ذلك ليصبح، بالنسبة للبعض، صديقًا مقربًا، وربما طبيبًا نفسيًا افتراضيًا.
ومع ازدياد استخدام التطبيقات القائمة على الذكاء الاصطناعي، بدأ عدد من المستخدمين يلجؤون إليها وقت التوتر، الحزن، أو الحيرة، منهم من وجد فيها الراحة، ومنهم من شعر بالوحدة أكثر.
فهل يمكن لآلة أن تفهم المشاعر البشرية حقًا، وهل الاعتماد على شات جي بي تي في أوقات الانهيار النفسي يعد حلًا ذكيًا أم أنه هروب مؤقت قد يفاقم المشكلة، وهل نحن أمام ثورة رقمية جديدة في العلاج النفسي، أم أننا نخاطر بأن نستبدل بالأجهزة في أكثر لحظاتنا ضعفًا واحتياجًا.
ما بين الوحدة والراحة المؤقتة.. لماذا يفضل البعض الذكاء الاصطناعي على البشر
ومن خلال الحديث مع بعض المواطنين تنوعت آرائهم، فأكد “شريف عماد” إنه سمع عن شات جي بي تي من أصدقائه، وقرر يجربه بدافع الفضول، قائلًا: “كنت فاكر إنه بس بيجاوب على أسئلة، لكن لما استخدمته حسيت إنه أكتر من كده، بقيت بكلمه وقت ما أكون مضغوط، أحيانًا بفضفض له لما مش بلاقي حد يسمعني”.
كذلك أوضح أن الذكاء الاصطناعي ساعده في مواقف كتير، خصوصًا في الأوقات اللي بيكون فيها لوحده أو مش قادر يتكلم مع حد من قرايبه أو صحابه، مضيفًا: “هو مش إنسان، بس بيريحني، بيرد بسرعة، وبيحاول يفهمني، وده ساعات بيكفيني”.
وأوضحت “ريم محمد” أنها ليست مندهشة من فكرة أن بعض الأشخاص يتحدثون مع شات جي بي تي بدلًا من أصدقائهم أو الطبيب النفسي، قائلة: “بصراحة، الموضوع منطقي جدًا، مش دايمًا الناس حواليك فاضيين يسمعوك، ومش كل حد تقدر تفتحه في مشاكلك ساعات بتحتاج تخرج اللي جواك، حتى لو مع تطبيق على الموبايل”.
مشيرة أنها ترى في الذكاء الاصطناعي وسيلة آمنة ومريحة للتعبير عن المشاعر، خاصةً في اللحظات الصعبة، مضيفة: “هو مش بيحكم عليا، ومش بيقاطعني، وبيفضل يسمعني لحد ما أخلص كلامي، وده لوحده بيفرق كتير”.
يستخدم شات جي بي تي في أكثر من شيء، لكنه في الفترة الأخيرة أصبح يلجأ إليه من أجل الفضفضة وطلب النصيحة، مؤكدًا: “في الأول كنت بدخل أستخدمه علشان أكتب إيميلات أو أراجع شغلي، بس مع الوقت بدأت أكتب له عن اللي مضايقني، بحس أوقات إنه بيفهمني أكتر من الناس اللي حواليا”.
وأضاف ياسين أنه يجد راحة نفسية في الحديث إلى الذكاء الاصطناعي، خاصةً حين لا يتمكن من التعبير عن مشاعره أمام الآخرين، قائلًا: “أنا مش دايمًا بعرف أشرح مشاعري لحد، بس معاه بحس إن الكلام بيطلع بسهولة، وده بيريحني حتى لو هو مش بني آدم”.
وأكد “عمر سامح” أنه يرحب بفكرة استخدام برنامج ذكي يستطيع الرد على الأسئلة والاستماع للمستخدم كما يفعل الصديق، موضحًا أن وجود وسيلة تكنولوجية تمنح الإنسان مساحة للتعبير عن مشاعره، قد يكون مفيدًا في أوقات لا يجد فيها من يتحدث إليه.
كما أضاف أن التحدث إلى الذكاء الاصطناعي قد لا يعوض التواصل الإنساني الكامل، لكنه يساعد أحيانًا في تخفيف التوتر والضغط النفسي، قائلًا: “إذا استطاع البرنامج أن يفهمني ويمنحني بعض الراحة، فلن أتردد في تجربته، ما دمت مدركًا لحدوده”.
وأوضح “محمد السيد” أنه لا يثق بشكل كامل في قدرة الذكاء الاصطناعي على أن يكون بديلًا حقيقيًا للطبيب النفسي. ويرى أن التعامل مع المشكلات النفسية يتطلب فهمًا عميقًا للمشاعر الإنسانية وتجربة تواصل مباشر لا يمكن للآلة أن توفرها.
كما أضاف: “الذكاء الاصطناعي قد يكون مفيدًا في تقديم نصائح عامة أو دعم بسيط، لكنه لا يمتلك التعاطف الحقيقي، ولا يستطيع قراءة تعبيرات الوجه أو نبرة الصوت، وهي أشياء أساسية في أي جلسة علاج نفسي”.
كذلك أكد أن الطبيب النفسي لا يقدم فقط كلمات، بل يكون علاقة إنسانية مبنية على الثقة والفهم والتقدير، وهو ما لا يمكن برمجة أي خوارزمية عليه مهما بلغت دقتها.
وأشارت “آية علي” إلى أن انتشار استخدام الذكاء الاصطناعي في الحياة اليومية قد يبدو من مظاهر التقدّم التقني، لكنه في الوقت ذاته يحمل جانبًا من العزلة النفسية والاجتماعية، خاصةً عندما يتحوّل إلى بديل عن العلاقات الإنسانية.
كذلك قالت آية: “من الجيد أن نجد وسيلة تساعدنا في التعبير عن أنفسنا وقت الحاجة، لكن الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي يجعلنا نبتعد تدريجيًا عن التفاعل الحقيقي مع البشر”.
كما ترى أن الخطر لا يكمن في التكنولوجيا ذاتها، بل في الطريقة التي نستخدمها بها، مؤكدة أن التقدم الحقيقي لا يكون حين نستبدل الإنسان بالآلة، بل حين نستخدم هذه الأدوات لتحسين جودة التواصل، لا للهروب منه.
الطب النفسي يرصد لجوء الشباب إلى الذكاء الاصطناعي كمساحة آمنة للفضفضة
أكد الدكتور محمد الوصيفي أستاذ الطب النفسي وعلاج الإدمان بكلية الطب في جامعة المنصورة، أن بعض المرضى، ولا سيما من فئة الشباب والمراهقين، بدأوا بالفعل في استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي مثل شات جي بي تي كوسيلة للفضفضة أو للحصول على نصائح سريعة، مشيرًا إلى أن البعض ينظر إلى هذه الأدوات على أنها مساحة “آمنة” خالية من الأحكام أو الإحراج.

الدكتور النفسي محمد الوصيفي
وأوضح الدكتور محمد الوصيفي أن هناك عدة أسباب تدفع البعض إلى اللجوء للذكاء الاصطناعي بدلًا من التحدث إلى أشخاص حقيقيين، من أبرزها سهولة الوصول الفوري إلى هذه الأدوات، وغياب الشعور بالخجل أو الحرج، بالإضافة إلى الإحساس بعدم الفهم أو الاحتواء من قبل المحيطين، مما يجعل الأداة الرقمية تمثل ملاذًا “محايدًا”.
وأشار “الوصيفي” إلى أن الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في الفضفضة قد ينعكس سلبًا على الصحة النفسية، خاصةً إذا أصبح بديلًا دائمًا عن العلاقات الإنسانية أو التدخل النفسي المتخصص، مؤكدًا أن ذلك قد يؤدي إلى تثبيت أفكار خاطئة، وتأجيل الحصول على المساعدة الحقيقية، وخلق وهم بالدعم غير العميق.
كذلك نوه الدكتور محمد الوصيفي بأن الفرق الجوهري بين الطبيب النفسي والذكاء الاصطناعي يكمن في أن الطبيب يعتمد على فهم عميق للسياق النفسي والاجتماعي، ويضع خطة علاجية متكاملة، في حين يقدم الذكاء الاصطناعي ردودًا لغوية منظمة دون إدراك وجداني أو قدرة على التشخيص، والمتابعة الدقيقة.
كما حذر الطبيب النفسي من أن الظاهرة قد تسهم في زيادة مشاعر العزلة والانفصال الاجتماعي، خاصةً مع تراجع التفاعل البشري وفقدان المهارات الاجتماعية الأساسية، مؤكدًا أن الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي، ولا يمكن للآلة أن تحل مكان العلاقات العاطفية الحقيقية.
وأضاف “الوصيفي” أن من الخطير أن يبدأ الإنسان في مقارنة ردود الذكاء الاصطناعي بردود أصدقائه أو أفراد أسرته، لأن الردود الرقمية غالبًا ما تكون مصممة لتبدو متفهمة ومريحة دائمًا، مما قد يكون لدى البعض صورة مثالية غير واقعية عن التواصل البشري، وينتج عنه شعور بالإحباط والصدام مع الواقع.
الراحة الرقمية تهدد مهارات التواصل وتضعف العلاقات الإنسانية
وأشار الدكتور محمد الوصيفي إلى أن هذه المقارنات قد تضعف جودة العلاقات الإنسانية الحقيقية، وتقلل من مساحة التعاطف والتفاهم، حيث يميل الفرد إلى الراحة الرقمية على حساب المواجهة والمصارحة، مما يؤدي إلى خلل تدريجي في مهارات التواصل الطبيعي.
وفيما يتعلق بإمكانية استخدام شات جي بي تي كأداة داعمة في العلاج النفسي، أوضح “الوصيفي” أن ذلك ممكن بشرط أن يكون تحت إشراف مباشر من الطبيب المختص، وبما لا يتجاوز حدود الدعم التكميلي مثل التذكير بالممارسات السلوكية أو المراقبة الذاتية، دون أن يحل محل الجلسات العلاجية الفعلية.
وحول الفرق بين الفضفضة المريحة والمؤذية نفسيًا، شدد الطبيب النفسي على أن الفضفضة الصحية تخفف التوتر وتفتح باب الفهم والتحفيز، بينما تؤدي الفضفضة السلبية إلى ترسيخ الأفكار المشوهة وتعزيز الشعور بالضحية، مؤكدًا أن الذكاء الاصطناعي قد يساهم دون قصد في تثبيت هذه الأفكار من خلال ردود “متعاطفة” لكنها غير دقيقة.
وفي نصيحته للمستخدمين، دعا الدكتور محمد الوصيفي إلى التعامل مع أدوات الذكاء الاصطناعي باعتبارها وسيلة مساعدة فقط، لا بديلًا عن التفاعل الإنساني أو الدعم المتخصص، مؤكدًا أهمية مراجعة ما يقرأ ويتلقى مع الطبيب أو المعالج النفسي، وعدم الاعتماد على هذه الأدوات في اتخاذ قرارات حساسة تتعلق بالصحة النفسية.
واختتم “الوصيفي” حديثه بالتأكيد على ضرورة نشر التوعية حول الفرق بين الذكاء الاصطناعي كأداة تقنية والطبيب النفسي كمتخصص في فهم النفس البشرية، موضحًا أن الذكاء الاصطناعي أداة قوية يمكن أن تكون مفيدة، إذا استخدمت بوعي، لكنها قد تتحول إلى “خطر نفسي صامت” إذا استخدمت بشكل مفرط أو غير منضبط.
بين الذكاء والدعم الإنساني خيط رفيع لا يجب تجاهله
في زمن تتسارع فيه التكنولوجيا لتقترب من أدق تفاصيل الحياة الإنسانية، تبرز أدوات الذكاء الاصطناعي كوسيلة جذابة للتفاعل والتعبير، لكنها تحمل في طياتها تحديًا كبيرًا على مستوى الصحة النفسية، وبين الإغراء بالراحة الرقمية والحاجة الفطرية للتواصل البشري، تبدو الموازنة ضرورة لا خيارًا.
فالعقل البشري لا يغنى عن احتوائه بالبشر، ولا يمكن للآلة مهما بلغت دقتها، أن تفهم الألم كما يشعر به إنسان، ومن هنا تنبع أهمية الوعي، كما تطرح الدعوة لاحتضان الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة، لا كبديل عن عمق الحوار الإنساني وثقة العلاقة العلاجية.