تحقيق ـ بسملة الجمل
في إحدى ليالي فبراير الباردة عام 1970، كانت مدينة أبو زعبل تنام بهدوء على أطراف القاهرة، لا تدري أن السماء فوقها تحيك مأساة ستُسجل في ذاكرة مصر بدماء عمّال أبرياء، لم يكن ذلك مجرد قصف، بل إعلان من العدو الإسرائيلي بأن الحروب لا تخاض فقط في ميادين القتال، بل أيضًا في عروق المصانع وسواعد العمال.
كيف تحول الحديد إلى رماد في لحظات، وأحلام العمال إلى شظايا في فجر لم يأتي
كانت الساعة تشير إلى الثانية فجرًا، داخل مصنع أبو زعبل للحديد والصلب، كانت وردية ليلية تضم أكثر من مائة عامل، حيث يكدون الشباب لكسب قوتهم، آباء تعلق أبناؤهم بأبواب البيوت في انتظار عودتهم، رجال يحملون في أيديهم مطارق لا بنادق.
وفي لحظة خاطفة، انشقّت السماء عن طائرات فانتوم إسرائيلية، أطلقت صواريخها على المصنع كما لو كانت تصطاد أهدافًا عسكرية، بينما في الحقيقة، كانت تطارد أحلام البسطاء، قنابل، صراخ، نار، وظلال تتهاوى، لم يكن أحدهم مستعدًا للموت، لكن الموت كان مستعدًا تمامًا.

مجزرة مصنع أبو زعبل
من سيناء إلى أبو زعبل.. قصف كان درسًا دمويًا، لكنه أشعل في المصريين نار التحدي بدلاً من الخوف
لم يكن اختيار المصنع عبثيًا، قبل القصف بيوم واحد، نفذت القوات المصرية عملية نوعية في سيناء “عملية الشلوفة”، والتي أسفرت عن مقتل وأسر عدد من الجنود الإسرائيليين، وردت إسرائيل بأسلوبها المعتاد “ضرب الضعفاء لكسر الأقوياء”.
وأرادت أن تلقن المصريين درسًا: “إذا انتصر جيشكم، سنثأر من عمالكم”، لكن الرسالة وصلت بشكل مختلف تمامًا، فما حدث لم يرعب أحد، بل أشعل في المصريين نار الغضب والتحدي.
وأسفرت الغارة عن استشهاد أكثر من 70 عاملاً، معظمهم احترقوا داخل الورش، وسقط العشرات بين مصاب ومشوه، كم لم يعثر على بعض الجثث إلا بعد أيام، وقد التصقت أجسادهم بالمعدات التي كانوا يعملون عليها.
من ذاكرة الجدة.. كيف تحولت دماء العمال إلى قصة لا تنسى رغم مرور السنين
ومن خلال الحديث مع بعض المواطنين تنوعت آرائهم، فأشارت “ماجدة النجدي” إلى أن معرفتها بمجزرة مصنع أبو زعبل جاءت من روايات جدتها، التي عاشت تفاصيل الحادث لحظة بلحظة، مؤكدة أن الجدة كانت تدخل في نوبة بكاء كلما تذكرت ما حدث في ذلك اليوم.
مضيفة أن دماء العمال كما وصفتها الجدة، كانت تغمر أرض المصنع، وأن الجثث كانت تجمع بالمقشات من شدة تناثرها، في مشهد يفوق قدرة أي عقل على التصور، مشددة على أن تلك الذكرى ظلت حاضرة في الوجدان، وأن ما حدث لا ينبغي أن ينسى، حتى وإن مرت عليه السنوات.
لماذا تجاهلت الأعمال الفنية توثيق مجزرة أبو زعبل رغم بشاعتها
وأوضح “محمد علي” أن مجزرة مصنع أبو زعبل لا تمثل بالنسبة له مجرد صفحة دامية في التاريخ، بل تجسيدًا صارخًا لما وصفه بـ”مجزرة بشرية” الذي مارسته إسرائيل بحق المدنيين.
مشيرًا إلى أن ما يؤلمه ليس فقط بشاعة الحدث، بل الغياب شبه الكامل للتوثيق البصري والمعرفي، متسائلًا عن سبب تجاهل هذه الجريمة في الأعمال الفنية والوثائقية، رغم فداحتها، كما أكد أن مجازر كهذه تستحق أن تعرض للعالم كما هي، بلا تزييف أو تهميش، حتى تظل الحقيقة حية في الذاكرة الجمعية.
من جنازة جماعية إلى صمود عنيد، كيف رد عمال أبو زعبل على قصف إسرائيل
وأكد “أحمد السيد” أن ذكرى مجزرة أبو زعبل ما زالت محفورة في ذاكرته رغم مرور السنين، مشيرًا إلى أنه كان طفلًا وقتها، لكنه لا ينسى أبدًا ما رآه وسمعه في ذلك الصباح، موضحًا أن صراخ الناس أيقظه من نومه، وأن المصنع تحول إلى جنازة جماعية في دقائق معدودة.
وذلك بعدما اخترقت الطائرات الإسرائيلية سماء المنطقة وأمطرت المكان بنيران الغدر، تاركة خلفها جثثًا وصرخات وألمًا لا يوصف، كما أضاف بنبرة يغلبها الفخر أن العمال ورغم كل شيء عادوا إلى مواقعهم بعد أسبوع فقط، وكأنهم يردون على القصف بصمود عنيد، مؤكدًا أن “المصريين دول نار ما تنطفيش”، مهما حاول العدو كسر إرادتهم.
منهج لا يذكر، كيف غابت أبو زعبل عن كتب التاريخ رغم فداحتها
وأوضح “محمد سمير” معلم دراسات اجتماعية بإحدى المدارس الحكومية، أن مجزرة أبو زعبل تكاد تكون غائبة تمامًا عن المناهج التعليمية، رغم أنها واحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبت بحق المدنيين في تاريخ مصر الحديث.
وأشار إلى أنه يدرس لتلاميذه موضوعات مثل العدوان الثلاثي، ونكسة يونيو، لكنه لم يجد أي إشارة لهذه المجزرة في الكتب الرسمية، مؤكدًا أن تغييب مثل هذه الوقائع يخلق فراغًا في وعي الأجيال الجديدة.
كما شدد على أن ما حدث في أبو زعبل يجب أن يدرس في كل مدرسة، لا بوصفه مجرد حادث عابر، بل باعتباره شاهدًا على كلفة الصناعة والحرية، وعلى حجم الألم الذي تحمله المصريون من أجل بناء وطنهم بسواعدهم ودمائهم.
من تحت الأنقاض إلى الصمود العنيف، كيف رد عمال أبو زعبل على جريمة لم يعاقب عليها أحد
بعد الجريمة، كان من المتوقع أن يُغلق المصنع أبوابه، لكن ما حدث كان أعظم، في مشهد صادم للعدو وملهم للصديق، عاد العمال إلى مواقعهم خلال أيام، بملابسهم الزرقاء المحترقة، وقفوا على أنقاض الورش المدمرة، قائلين في صوت واحد: “لن نقصف مرتين مرة في السماء، ومرة في الكرامة”.
وعلى الرغم من فداحة الجريمة، لم تحرك كثير من العواصم الغربية ساكنًا، لم تفتح محكمة، ولم يوجه اتهام رسمي لإسرائيل، كانت دماء العمال تغسل بالماء لا بالقانون.
عندما يصرخ الحديد بدلًا من الصمت، كيف تحول قصف أبو زعبل إلى أسطورة لا تنسى
ربما لا تملك أبو زعبل نصبًا تذكاريًا فخمًا، ولا متحفًا يوثق الجريمة كما يجب، لكن المصنع نفسه، بجدرانه المتفحمة،ومطرقه الحديدية التي عادت تقرع كما كانت، يحمل ذاكرة لا تموت، هناك، كل آلة تنبض باسم شهيد، كل قطعة حديد تروي قصة عرق اختلط بالدم.
ما لم يكتب من قبل، لم يكن الهدف فقط ضرب المصنع، بل محاولة لكسر إرادة أمة كاملة، لكن إسرائيل دون أن تدري، صنعت من المأساة أسطورة جديدة “أسطورة عمال لم يرفعوا سلاحًا، لكنهم قاوموا بالوقوف.
إن قصف مصنع أبو زعبل لم يكن خطأً في الإحداثيات، بل كان خطيئة في الضمير الإنساني، وقد يمر الزمن، وتتغير الحكومات، لكن الأرواح التي صعدت من داخل الورش، لا تزال تطرق جدران التاريخ، تذكرنا أن الحديد حين يطرق، يصدر صوتًا، لكن حين يقصف، يصدر صرخة.